06 نوفمبر 2024
هل يعود "البعثيون" إلى حكم العراق؟
قد يرى بعضهم في السؤال أعلاه مقادير من التسطيح المخل في النظر إلى الأمور، لكن القراءة العقلانية لما يجري من أحداث في الحال العراقية الحاضرة، وما أنتجته تجربة الاحتلال الأميركي للبلاد من تحولاتٍ، تبيحان للكاتب أن يتصدّى لنبش وقائع يرى فيها إمكان أن ينقلب الحال لصالح عودة "البعثيين" إلى المشاركة في الحكم، في إطار "صفقة" يتم طبخها على نار هادئة، برعايةٍ من أطرافٍ ساهمت، بقدرٍ أو بآخر، في إزاحتهم عن السلطة قبل أربعة عشر عاماً. وقد يعتبر تأكيد زعيم الحزب، عزة الدوري، في خطابه أخيراً في الذكرى السبعين لتأسيس الحزب على "أن الحزب لا يفكر في العودة الى السلطة، أو المشاركة فيها" هو من باب تسمية الأشياء بأضدادها، والإيحاء برسائل سياسية إلى أطراف عديدة، دولية وإقليمية، إن الحزب "جاهز" للدخول في صفقة "تخليص العراق من الاحتلال الفارسي"، وقد يكون هذا الدخول تحت واجهةٍ لا تحمل اسم الحزب، لكي لا يشكل استفزازاً لبعضهم، وقد تكون مرحلة "ما بعد داعش" وإجراء الانتخابات البرلمانية المقبلة ميداناً لاختبار هذه الخطوة وترويجها. هذا كله يدخل في دائرة الاحتمالات التي قد تتحول إلى واقع حالٍ جديد، تضبط مساره القوى الدولية الفاعلة، وخصوصاً أميركا التي تطمح إلى الحفاظ على مصالحها في منطقةٍ لا تكفّ عن الاشتعال، حتى بفعل عود ثقاب صغير!
يسعى خطاب الدوري إلى إبراز دور حزب البعث لاعباً أساسياً في الساحة العراقية لا يمكن تجاوزه، وأن لا حل لمشكلات العراق من دونه، وأيضاً لإحداث انطباعٍ بأن الحزب قد تخطى المرحلة السابقة التي حملت أخطاء وخطايا كثيرة. وهو في هذا الجانب يحدّد ثلاثة أقانيم للقطع مع تلك المرحلة، "القيادة الجماعية حيث لا عودة إلى الفردية بعد اليوم"، و"الديمقراطية المركزية حيث لا مكان للدكتاتورية بعد اليوم"، و"النقد والنقد الذاتي، حيث لا حجر على الرأي الحر بعد اليوم". ويشكل هذا أول اعتراف صريح من أعلى قيادة بعثية بأن فترة وجود صدام حسين على رأس الحزب عبّرت عن نزعةٍ دكتاتورية شمولية، أساءت للحزب وأضرّت بالبلاد.
وعلى صعيد الداخل، يلاحظ قبول الحزب الشرط الذي وضعته القيادة الكردية في مقابل سعيها إلى تأهيله مجدّداً للعودة إلى المسرح السياسي، وهو إدانة "جريمة محرقة حلبجة أياً كان فاعلها" بحسب تعبير الدوري، وإن سبقت هذا الموقف إشارات غزلٍ صدرت من قيادات بعثية تجاه مسعود البارزاني في أكثر من مناسبة.
ولكي يتخلص الخطاب البعثي من إرث صدام حسين تدريجياً، تجنب الدوري الإفاضة في تمجيده وتفخيمه، كما جرت العادة في بيانات الحزب، وخطب الدوري نفسه الذي اكتفى، هذه المرة، بتوجيه تحيةٍ له ضمن سياق إيراد أسماء قادة الحزب الراحلين "أبي هيثم وأبي عدي وأبي نادية". وتعكس كل هذه المؤشرات موقفاً مستجدّاً من المرحلة "الصدامية" التي ينظر إليها كثيرون من البعثيين الأوائل على أنها مثلت انحرافاً عن خط الحزب وتقاليده، بل وينظر بعضهم إلى صدام أنه قاد "انقلاباً"، عندما تسلم الموقع الأول في السلطة أنهى من خلاله دور الحزب، وصفّى عشراتٍ من قياديه وكوادره في مذبحة تموز المعروفة التي تشبه مجزرة "ليلة السكاكين الطويلة" التي مارسها هتلر في ألمانيا ضد كوادر حزبه.
ولتطمين رغبة عاملين عديدين في الحقل القومي في العودة إلى الجذور يذكّر الخطاب بالمشروع القومي النهضوي الذي كانت حركة "البعث" قد بشّرت به، ويعيد وضع فلسطين قضية مركزية أولى، على الرغم من أنه يقرّ بأن العالم العربي اليوم يعاني من أكثر من نكبة "فلسطينية" جديدة!
وعلى العموم، قد يحتاج البعثيون مراجعة أوسع وأعمق على صعيد الفكر، وعلى صعيد الممارسة أيضاً، وهم في طريقهم إلى إعادة تأهيل أنفسهم للعمل الوطني والقومي، ولتسويق حزبهم من جديد. وقد يتم ذلك عبر مؤتمرات وحوارات مفتوحة، تعتمد ما طرحه الخطاب على نحو عملي، وقد يجيء بعض الحل في تنحّي "الحرس القديم"، والاحتفاء بجيلٍ جديدٍ يبتكر حلولاً جديدة لمشكلات الراهن.