21 مارس 2022
الانتخابات الجزائرية.. المشهد ومآلات الواقع
ولد الصديق ميلود
كاتب وأستاذ جامعي جزائري، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة الدكتور مولاي الطاهر في سعيدة.
لم تختلف الانتخابات التشريعية الجزائرية في 4 مايو/ أيار الجاري عن سابقتها، ولم تسجل أياً من عناصر المفاجأة، وظلت إحداثيات الخريطة الحزبية السياسية كما هي ضمن عوائلها التقليدية المعروفة تباعا وترتيبا: الوطنية الاسلامية الديمقراطية، فعلى الرغم من الإصلاحات (الصورية) الكثيرة التي باشرتها السلطة بداية من سنة 2012، وتدهور الوضع الاقتصادي إثر تهاوي أسعار البترول ووقوع تحولاتٍ سياسية عديدة، بعضها ديمقراطي والآخر دراماتيكي، ضمن نطاقنا الجغرافي المغاربي شرقا وغربا، على الرغم من هذا كله، ظل حزبا السلطة (جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي)، منذ تجديد المسار الانتخابي 1997، يتقدمان المربع السياسي والبرلماني في مشهد مريع واستثنائي غريب.
على مدار الثلاثين سنة الماضية، شكلت الانتخابات، بمختلف مستوياتها الرئاسية والتشريعية والمحلية، أهمية كبيرة للنظام السياسي الجزائري، سيما بعد إلغاء المسار الانتخابي، بداية التسعينيات، وظل، أي النظام، يستدعي كل عوامل التنظيم والنزاهة، حرصا على سلامة الموعد ونجاحه، ولو كلفه ذلك ما يكلفه من موارد مالية ولوجستية وبشرية، فإذا كانت انتخابات مايو/ أيار 2012 جاءت في سياقات وظروف غير عادية إقليميا وداخليا، فإن انتخابات 4 مايو/ أيار 2017 كانت أكثر سلاسة، وأجواؤها أكثر استقرارا، غير أن هذا الاستقرار المكلوم بسياسات التقشف وحاجة الحكومة إلى أموال ظهرت إلى جانبه إشارات غير مطمئنة، مفادها عزوفٌ غير مسبوق لفئاتٍ واسعةٍ، سيما الشباب، عن الاقتراع، ما أرّق السلطة الحاكمة، وقلّص من فرص نجاح الموعد الانتخابي.
ولأهمية الموعد، سبقت الانتخابات التشريعية، الأسبوع الماضي، كما سبقت تشريعيات
2012، إصلاحات سياسية، كان الابرز فيها دستور مارس/ آذار 2016 الذي داهن المعارضة، ووفر لها غطاءً للمساءلة، إضافة إلى استحداث هيئة عليا لمراقبة الانتخابات، يعيّن رئيسَها رئيس الجمهورية بعد استشارة الأحزاب، ولم تكن هذه الإصلاحات السلحفاتية لتحدث، لولا حراك المعارضة التي شكلت الحدث الأبرز بعد 2012 في اتحادها التاريخي منذ الاستقلال، وحملها مشروعاً واحداً، غايته الانتقال الديمقراطي.
انطلاقا مما سبق، ثمة استنتاجاتٌ يمكن أن تشكل مقدماتٍ تفسيريةً لسلوك الناخب الجزائري، وقد ترهص لمستقبل العملية السياسية للأيام المقبلة.
أولا، المقاطعة حزب له جمهور، وهو القوة الأولى، وبمثابة كرة الثلج التي بدأت تكبر، فقد بلغت نسبة مقاطعة الانتخابات التشريعية 65%، أي ما يعادل 15 مليونا من أصل 23 مليونا من الهيئة الناخبة، وهذا دليل على أن الشعب الجزائري لم يعد يرى في العملية الانتخابية أي جدوى، أو سبيلٍ للتغير أو تحسين مستواه المعيشي والاقتصادي. وبهذا، هو يوجه تحذيراً شديد اللهجة للمجتمع السياسي (أحزابا وسلطة) برمته، وساذج من يعتقد أن الشعب غير ناضج أو غير واع، فالمقاطعة سلاح الضعفاء، للتعبير عن عدم رضاهم عن السياسات الحكومية المتبعة وللبرلمان الذي لا يمثل في حساباته أي معنى، وقد تتحول المقاطعة سلوكاً سياسياً، في شكل حراك مجتمعي مخبوء.
ثانياً، شكلت هذه الانتخابات الاستثناء، من حيث عدد الأحزاب المشاركة، 57 حزبا مقابل 46 حزبا في الانتخابات التشريعية الماضية. ثالثاً، الجديد الذي رسم معالم مشهد سياسي مغاير هو وحدة الأحزاب الإسلامية، وتضميد أوعيتها الانتخابية، بما يتيح لها عوامل التجميع، لا التشرذم، كما عرف خطابها الكثير من المهادنة، والتزام السلم والتعايش مع السلطة الناظمة للانتخابات. رابعا، التراجع في خطابات التخويف والتخوين والتزوير (معارضة وسلطة). خامسا، تعاملت جل الأحزاب السياسية مع جماهيرها بواقعية الثقافة السياسية المحدودة لدى الجزائري البسيط، فلم تخاطبه ببرامجها أو استراتيجيتها، بقدر ما ركزت على إطلاق الوعود أو التراشق اللفظي، وخطاب الأفضلية والتمييز ونظافة اليد لمترشحيها، مع تسجيل الاستثناء طبعا. سادسا، انعدام التجديد ووجود خطاب استهلاكي غابر لدى حزبي الموالاة، سيما جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، فبينما غرق الأول في الماضي الثوري والجهادي، وربط كل آماله بالرئيس حتى الهذيان، اعتمد الثاني على خطاب نقدي تمحيصي، في صورة تنتزع عنه شبهة الحزب الحاكم الذي ليس له من أمر ما وقع شيء. سابعا، ظلت الأحزاب المجهرية تقدم ولاءها وزبونيتها لمن يخدمها أكثر بترشيحها أشخاصاً لا علاقة لهم بالعمل السياسي (رجال أعمال،..)، همها استيفاء الترشيح باسم الحزب، بينما غاية الثاني لبس أي قميص من أجل الظفر بمقعد نيابي . ثامنا، الحضور المكثف والقوي للمواطن الانتهازي الذي أصبح يعي الدرس جيدا، ويعرف أن هذا هو موسمه المناسب، لجني موارد مالية أو عطاءات أو انتزاع وعود موثوقة ومكتوبة.
تاسعا، أبانت الانتخابية التشريعية أن هناك ملوكاً أكثر من الملك، فالتزوير الفاضح الذي قام به بعض أعوان السلطة والجهات الحكومية، حتى من غير طلب، سيما في الساعات الأخيرة من
الاقتراع، أكّدت أن هناك ثقافة سياسية راسخة متجذّرة في اللاشعور الجمعي عند إداريين كثيرين يهوون رياضة التحوير والتغيير والوقوف إلى جانب أحزاب السلطة. عاشرا، العملية الانتخابية في الجزائر لا يحكم مخرجاتها لا المنطق ولا العقل، فلا وسائل الإعلام ولا مؤسسات قياس الرأي العام، ولا قوة البرامج بإمكانها التكهن بنتائجها. وحده المال ودرجة القرب من السلطة من يرجّحان الكفة، ولا يحدث إلا في الجزائر أن أحزاباً تجوع الشعب، وتفشل في تسيير البلد، ثم تنال أغلبية أصوات المقترعيين (264 مقعدا لجبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي مجتمعين بما نسبته 56%)
وبشأن الأحزاب الإسلامية، فإن إنجازها الأهم تمثل في مشاريع الوحدة التي بدأت بينها، ويُرجى لها الاندماج، وهذا جزءٌ من نجاحها بعد ربع قرنٍ من بداية انقسامها،.لكنها أخفقت في تعويلها كلياً على تطمينات السلطة بنزاهة العملية، فلم تكن النتائج في مستوى طموحاتها، من جهة. ومن جهة أخرى، على الرغم من التزوير المفرط الذي مورس ضدها، فإن من أهم أسباب التراجع احتفاظها بصفة أحزاب الأطر (الموظفين الرفيعين) أو النخبة التي لا تقبل في ترشيحاتها إلا المناضلين، وفئة قريبة منها في مقابل أحزاب الجماهير التي تفتتح أبوابها للجميع (معايير الفوز بالمنطق الجزائري: المال والشهرة). ولذا، فإن الأحزاب الإسلامية في الجزائر مدعوّةٌ إلى التخلص من التقوقع والانعزالية والانكفاء على الذات، والتعويل على الشباب (من حيث الترشيح والقيادة) والنظر في عوامل الفوز الحزبية، المادية والشعبية.
ختاما، لم تكن انتخابات 4 مايو التشريعية في الجزائر استراتيجيةً، بقدر ما كانت مهمةً في استكمال مسارات الإصلاحات السياسية التي بدأها النظام الذي تتهمه المعارضة في رسم معالمها وحدودها في معزلٍ عنها. وفي نظر المحللين، فإن العوامل المحلية والمال والزبونية وحدود علاقة الأحزاب السياسية بالسلطة هي من تحدّد كوتا الأحزاب السياسية للتمثيل في البرلمان الجزائري.
ولأهمية الموعد، سبقت الانتخابات التشريعية، الأسبوع الماضي، كما سبقت تشريعيات
انطلاقا مما سبق، ثمة استنتاجاتٌ يمكن أن تشكل مقدماتٍ تفسيريةً لسلوك الناخب الجزائري، وقد ترهص لمستقبل العملية السياسية للأيام المقبلة.
أولا، المقاطعة حزب له جمهور، وهو القوة الأولى، وبمثابة كرة الثلج التي بدأت تكبر، فقد بلغت نسبة مقاطعة الانتخابات التشريعية 65%، أي ما يعادل 15 مليونا من أصل 23 مليونا من الهيئة الناخبة، وهذا دليل على أن الشعب الجزائري لم يعد يرى في العملية الانتخابية أي جدوى، أو سبيلٍ للتغير أو تحسين مستواه المعيشي والاقتصادي. وبهذا، هو يوجه تحذيراً شديد اللهجة للمجتمع السياسي (أحزابا وسلطة) برمته، وساذج من يعتقد أن الشعب غير ناضج أو غير واع، فالمقاطعة سلاح الضعفاء، للتعبير عن عدم رضاهم عن السياسات الحكومية المتبعة وللبرلمان الذي لا يمثل في حساباته أي معنى، وقد تتحول المقاطعة سلوكاً سياسياً، في شكل حراك مجتمعي مخبوء.
ثانياً، شكلت هذه الانتخابات الاستثناء، من حيث عدد الأحزاب المشاركة، 57 حزبا مقابل 46 حزبا في الانتخابات التشريعية الماضية. ثالثاً، الجديد الذي رسم معالم مشهد سياسي مغاير هو وحدة الأحزاب الإسلامية، وتضميد أوعيتها الانتخابية، بما يتيح لها عوامل التجميع، لا التشرذم، كما عرف خطابها الكثير من المهادنة، والتزام السلم والتعايش مع السلطة الناظمة للانتخابات. رابعا، التراجع في خطابات التخويف والتخوين والتزوير (معارضة وسلطة). خامسا، تعاملت جل الأحزاب السياسية مع جماهيرها بواقعية الثقافة السياسية المحدودة لدى الجزائري البسيط، فلم تخاطبه ببرامجها أو استراتيجيتها، بقدر ما ركزت على إطلاق الوعود أو التراشق اللفظي، وخطاب الأفضلية والتمييز ونظافة اليد لمترشحيها، مع تسجيل الاستثناء طبعا. سادسا، انعدام التجديد ووجود خطاب استهلاكي غابر لدى حزبي الموالاة، سيما جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، فبينما غرق الأول في الماضي الثوري والجهادي، وربط كل آماله بالرئيس حتى الهذيان، اعتمد الثاني على خطاب نقدي تمحيصي، في صورة تنتزع عنه شبهة الحزب الحاكم الذي ليس له من أمر ما وقع شيء. سابعا، ظلت الأحزاب المجهرية تقدم ولاءها وزبونيتها لمن يخدمها أكثر بترشيحها أشخاصاً لا علاقة لهم بالعمل السياسي (رجال أعمال،..)، همها استيفاء الترشيح باسم الحزب، بينما غاية الثاني لبس أي قميص من أجل الظفر بمقعد نيابي . ثامنا، الحضور المكثف والقوي للمواطن الانتهازي الذي أصبح يعي الدرس جيدا، ويعرف أن هذا هو موسمه المناسب، لجني موارد مالية أو عطاءات أو انتزاع وعود موثوقة ومكتوبة.
تاسعا، أبانت الانتخابية التشريعية أن هناك ملوكاً أكثر من الملك، فالتزوير الفاضح الذي قام به بعض أعوان السلطة والجهات الحكومية، حتى من غير طلب، سيما في الساعات الأخيرة من
وبشأن الأحزاب الإسلامية، فإن إنجازها الأهم تمثل في مشاريع الوحدة التي بدأت بينها، ويُرجى لها الاندماج، وهذا جزءٌ من نجاحها بعد ربع قرنٍ من بداية انقسامها،.لكنها أخفقت في تعويلها كلياً على تطمينات السلطة بنزاهة العملية، فلم تكن النتائج في مستوى طموحاتها، من جهة. ومن جهة أخرى، على الرغم من التزوير المفرط الذي مورس ضدها، فإن من أهم أسباب التراجع احتفاظها بصفة أحزاب الأطر (الموظفين الرفيعين) أو النخبة التي لا تقبل في ترشيحاتها إلا المناضلين، وفئة قريبة منها في مقابل أحزاب الجماهير التي تفتتح أبوابها للجميع (معايير الفوز بالمنطق الجزائري: المال والشهرة). ولذا، فإن الأحزاب الإسلامية في الجزائر مدعوّةٌ إلى التخلص من التقوقع والانعزالية والانكفاء على الذات، والتعويل على الشباب (من حيث الترشيح والقيادة) والنظر في عوامل الفوز الحزبية، المادية والشعبية.
ختاما، لم تكن انتخابات 4 مايو التشريعية في الجزائر استراتيجيةً، بقدر ما كانت مهمةً في استكمال مسارات الإصلاحات السياسية التي بدأها النظام الذي تتهمه المعارضة في رسم معالمها وحدودها في معزلٍ عنها. وفي نظر المحللين، فإن العوامل المحلية والمال والزبونية وحدود علاقة الأحزاب السياسية بالسلطة هي من تحدّد كوتا الأحزاب السياسية للتمثيل في البرلمان الجزائري.
ولد الصديق ميلود
كاتب وأستاذ جامعي جزائري، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة الدكتور مولاي الطاهر في سعيدة.
ولد الصديق ميلود