31 أكتوبر 2024
وستفاليا الشرق الأوسط
ما بين جنيف وأستانة وإسطنبول وموسكو، بالإضافة إلى النشاط الكثيف لقاعدة حميميم، تتواتر المؤتمرات للبحث عن حلّ يخرج جميع الأطراف، الداخلية والخارجية، من مأزقها، من دون وجود مؤشرات واضحة عن حل قريب في سورية، ومن دون حتى اتفاقٍ على الحدود الدنيا لذلك الاتفاق المنتظر. لكن من المفيد التنبه إلى مسألةٍ تتشكّل يوماً بعد آخر، وهي أن الحل سيأتي على شكلٍ تجميعي لبنود التوافق التي تحصل في جميع الجولات والمباحثات، وحتى التفاهمات الثنائية للدول الراعية لأطراف الصراع، بمعنى أن الحل سيتم بناؤه عبر خطواتٍ عديدةٍ، بما يتناسب مع طبيعة الصراع، وستكون مرجعيته جملة من المصادر، المحلية والإقليمية والدولية.
ليس ما سبق تنجيماً بقدر ما هو قراءة في تاريخية أساليب حل الصراع لصراعات مشابهة للحالة السورية، وتحديداً صراع أوروبا في القرن السابع عشر، والذي انتهى بمعاهدة وستفاليا سنة 1648، والتي أطلق عليها التاريخ الدبلوماسي صفة المعاهدة المؤسّسة للنظام الدولي المعاصر.
كان صلح وستفاليا نهاية حربٍ طائفية دامت ثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت، أدرك في نهايتها الكاثوليك أنه لم يعد بإمكانهم القضاء على البروتستانت، وأن هذا الهدف أصبح غير واقعي، كما أدرك البروتستانت أنه لم يعد في الوسع نشر مذهبهم أكثر من ذلك، وأن هدف استقطاب كل شعوب أوروبا مذهبهم لم يعد واقعياً. غير أن الطرفين أيضاً أوجدوا لأنفسهم ولبيئاتهم المبرّرات المقنعة، فالكاثوليك أقنعوا أنفسهم بأنهم استطاعوا وقف المد البروتستاني، وأجبروه على الانكفاء، في حين أن البروتستانت ذهبوا إلى اعتبار أنهم ثبتوا مذهبهم، ووسّعوا انتشارهم في أوروبا.
لم يكن هدف أطراف الصراع التأسيس لنظام دولي جديد، ولم يكونوا واعين لهذا الأمر. بالأصل، كان الصراع ذا طبيعة إقليمية محلية، ومحصوراً داخل أوروبا، وتحديداً في وسطها، وعندما طالبوا بأن تكون الدول هي الوحدات الأساسية في النظام الإقليمي الأوروبي، كان هدفهم الاعتراف بالوقائع الجيوسياسية الجديدة في أوروبا والكيانات الصاعدة بحدودها وسلطاتها ومكوناتها الاجتماعية، والتي تتطابق مع مخرجات الصراع ومآلاته بدرجة كبيرة.
نتج عن ذلك تفكّك الإمبراطوريات وانتهاء زمنها، وخصوصا إمبراطورية آل هاسبورغ، وكف يد فرنسا عن أوروبا، وبناء حجر الأساس في نشوء الأمم الألمانية والإيطالية، والأهم من ذلك كله تراجع دور الكنيسة والإقطاع، وانتهاء زمن تشكّل الدول بناءً على المصاهرة وزواج الأمراء ووراثة النفوذ.
من الناحية الفنية، لم يتم التوّصل إلى اتفاق وستفاليا من خلال لقاء وحيد، ولا عبر التوافق على خريطة مبادئ موحّدة، حتى أن الأطراف المتصارعة لم تجتمع مع بعضها إلا لحظة التوقيع على الحل، وجرى الاعتماد على وثائق، كانت على شكل طلبات وشروط التفاوض، جرى التقريب بينها، واعتماد الممكن وغير الإشكالي فيها.
إلى أي مدىً يتطابق الحل الوستفالي مع الحالة الشرق أوسطية؟ ساهمت عوامل كثيرة، من بينها الفوضى التي صنعتها أميركا في الشرق الأوسط، ودخول العامل الإيراني بقوّة، في تحويل الصراع السياسي إلى شكل من الصراع الطائفي، سني – شيعي، وأوجدت هذه المتغيرات محفزاتٍ ودينامياتٍ للصراع، أسهمت في إشعاله بدرجة كبيرة، كما ساهمت البيئة الدولية في تصليب مواقف الطرفين، ورفع سقف توقعاتهم، حتى وصلت إلى أن أصبح طموح كل طرفٍ قلب المعادلة السائدة بشكل نهائي لصالحه، بحيث تكون مخرجات الصراع على شكل انتصاراتٍ أيديولوجية وجغرافية واقتصادية.
بالإضافة إلى ذلك، تشكّلت على مدار سنوات الصراع هوياتٌ وانتماءاتٌ على أسس جديدة، كما تشكّلت على أساسها خطوط فصلٍ جغرافية، في العراق وسورية، وترغب أطراف الصراع في استكمالها وتوسيع رقعتها الجغرافية.
ساهم ذلك كله بتفكيك المجال الجيوسياسي الذي صنعه اتفاق سايكس – بيكو إلى الأبد، وجعل المنطقة تعيش حالة فراغٍ على مستوى الكيان المسيطر، ونقص حاد في شرعية هذا الكيان، وهو ما نتج عنه استحالة العودة إلى الشكل القديم، باعتباره ينطوي على خيارين غير قابلين للحياة في وسط المتغيرات الكثيفة الحاصلة، خيار هزيمة طرف لآخر، وهو ما لم يعد ممكناً بعد الوصول إلى أقصى درجات الإنهاك، أو خيار التعايش ونسيان ما جرى، وهو أيضاً خيارٌ صعبٌ، لتبدل خريطة الوقائع بشكل إنقلابي.
ما أنتجته جولات جنيف السابقة ومباحثات أستانة واتفاقات موسكو وأنقرة لوقف إطلاق النار، وما تم التوصل إليه أخيرا "اتفاق المناطق الآمنة"، لا يبدو أنها كافية كعدة تشغيلية لاتفاق سلامٍ في المنطقة، وما زال الأمر يحتاج مزيداً من الوثائق والتفاهمات والتواضعات والتنازلات، وهذه بحاجةٍ لجولاتٍ صراعية أخرى، وإذا كانت وستفاليا الأوروبية قد أنتجت التفاهم على سيادة الدولة، فإن وستفاليا الشرق أوسطية ستذهب باتجاه إنتاج تفاهماتٍ عن سيادة المكونات الأصغر، كالطائفة والقبيلة، وبدل أن يتم دمج تلك المكونات على أسسٍ وطنيةٍ، كما جرى في أوروبا، فإن الاتجاه في المشرق يسير باتجاه تفكيك الأوطان على أسسٍ وحدود طائفية.
ليس ما سبق تنجيماً بقدر ما هو قراءة في تاريخية أساليب حل الصراع لصراعات مشابهة للحالة السورية، وتحديداً صراع أوروبا في القرن السابع عشر، والذي انتهى بمعاهدة وستفاليا سنة 1648، والتي أطلق عليها التاريخ الدبلوماسي صفة المعاهدة المؤسّسة للنظام الدولي المعاصر.
كان صلح وستفاليا نهاية حربٍ طائفية دامت ثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت، أدرك في نهايتها الكاثوليك أنه لم يعد بإمكانهم القضاء على البروتستانت، وأن هذا الهدف أصبح غير واقعي، كما أدرك البروتستانت أنه لم يعد في الوسع نشر مذهبهم أكثر من ذلك، وأن هدف استقطاب كل شعوب أوروبا مذهبهم لم يعد واقعياً. غير أن الطرفين أيضاً أوجدوا لأنفسهم ولبيئاتهم المبرّرات المقنعة، فالكاثوليك أقنعوا أنفسهم بأنهم استطاعوا وقف المد البروتستاني، وأجبروه على الانكفاء، في حين أن البروتستانت ذهبوا إلى اعتبار أنهم ثبتوا مذهبهم، ووسّعوا انتشارهم في أوروبا.
لم يكن هدف أطراف الصراع التأسيس لنظام دولي جديد، ولم يكونوا واعين لهذا الأمر. بالأصل، كان الصراع ذا طبيعة إقليمية محلية، ومحصوراً داخل أوروبا، وتحديداً في وسطها، وعندما طالبوا بأن تكون الدول هي الوحدات الأساسية في النظام الإقليمي الأوروبي، كان هدفهم الاعتراف بالوقائع الجيوسياسية الجديدة في أوروبا والكيانات الصاعدة بحدودها وسلطاتها ومكوناتها الاجتماعية، والتي تتطابق مع مخرجات الصراع ومآلاته بدرجة كبيرة.
نتج عن ذلك تفكّك الإمبراطوريات وانتهاء زمنها، وخصوصا إمبراطورية آل هاسبورغ، وكف يد فرنسا عن أوروبا، وبناء حجر الأساس في نشوء الأمم الألمانية والإيطالية، والأهم من ذلك كله تراجع دور الكنيسة والإقطاع، وانتهاء زمن تشكّل الدول بناءً على المصاهرة وزواج الأمراء ووراثة النفوذ.
من الناحية الفنية، لم يتم التوّصل إلى اتفاق وستفاليا من خلال لقاء وحيد، ولا عبر التوافق على خريطة مبادئ موحّدة، حتى أن الأطراف المتصارعة لم تجتمع مع بعضها إلا لحظة التوقيع على الحل، وجرى الاعتماد على وثائق، كانت على شكل طلبات وشروط التفاوض، جرى التقريب بينها، واعتماد الممكن وغير الإشكالي فيها.
إلى أي مدىً يتطابق الحل الوستفالي مع الحالة الشرق أوسطية؟ ساهمت عوامل كثيرة، من بينها الفوضى التي صنعتها أميركا في الشرق الأوسط، ودخول العامل الإيراني بقوّة، في تحويل الصراع السياسي إلى شكل من الصراع الطائفي، سني – شيعي، وأوجدت هذه المتغيرات محفزاتٍ ودينامياتٍ للصراع، أسهمت في إشعاله بدرجة كبيرة، كما ساهمت البيئة الدولية في تصليب مواقف الطرفين، ورفع سقف توقعاتهم، حتى وصلت إلى أن أصبح طموح كل طرفٍ قلب المعادلة السائدة بشكل نهائي لصالحه، بحيث تكون مخرجات الصراع على شكل انتصاراتٍ أيديولوجية وجغرافية واقتصادية.
بالإضافة إلى ذلك، تشكّلت على مدار سنوات الصراع هوياتٌ وانتماءاتٌ على أسس جديدة، كما تشكّلت على أساسها خطوط فصلٍ جغرافية، في العراق وسورية، وترغب أطراف الصراع في استكمالها وتوسيع رقعتها الجغرافية.
ساهم ذلك كله بتفكيك المجال الجيوسياسي الذي صنعه اتفاق سايكس – بيكو إلى الأبد، وجعل المنطقة تعيش حالة فراغٍ على مستوى الكيان المسيطر، ونقص حاد في شرعية هذا الكيان، وهو ما نتج عنه استحالة العودة إلى الشكل القديم، باعتباره ينطوي على خيارين غير قابلين للحياة في وسط المتغيرات الكثيفة الحاصلة، خيار هزيمة طرف لآخر، وهو ما لم يعد ممكناً بعد الوصول إلى أقصى درجات الإنهاك، أو خيار التعايش ونسيان ما جرى، وهو أيضاً خيارٌ صعبٌ، لتبدل خريطة الوقائع بشكل إنقلابي.
ما أنتجته جولات جنيف السابقة ومباحثات أستانة واتفاقات موسكو وأنقرة لوقف إطلاق النار، وما تم التوصل إليه أخيرا "اتفاق المناطق الآمنة"، لا يبدو أنها كافية كعدة تشغيلية لاتفاق سلامٍ في المنطقة، وما زال الأمر يحتاج مزيداً من الوثائق والتفاهمات والتواضعات والتنازلات، وهذه بحاجةٍ لجولاتٍ صراعية أخرى، وإذا كانت وستفاليا الأوروبية قد أنتجت التفاهم على سيادة الدولة، فإن وستفاليا الشرق أوسطية ستذهب باتجاه إنتاج تفاهماتٍ عن سيادة المكونات الأصغر، كالطائفة والقبيلة، وبدل أن يتم دمج تلك المكونات على أسسٍ وطنيةٍ، كما جرى في أوروبا، فإن الاتجاه في المشرق يسير باتجاه تفكيك الأوطان على أسسٍ وحدود طائفية.