07 نوفمبر 2024
سياسة "النسيان" في مصر
هل يذكر أحد قضية المستشار وائل شلبي الذي "انتحر" داخل محبسه في مصر بعد القبض عليه بتهمة تلقي رشاوى؟ شغلت تلك القضية الناس أياماً، ثم ما لبثوا أن نسوها، بعد أن صدر قرار بحظر النشر في القضية، لتلقى مصير عشرات القضايا التي صدرت فيها قرارات مماثلة. وعندما عاد الحديث إلى القضية، بعد إحالتها إلى محكمة الجنايات، نشرت الصحف تفاصيل القضية التي تدين المتهمين، متضمنة تفاصيل "رشاوى جنسية"، وغيرها من العناوين الساخنة والمثيرة التي تجذب القراء والمشاهدين، من دون تناول أي شيء يتعلق بالموضوع الأساسي والأخطر، المتعلق بالقضية، وهو: لماذا "انتحر" المستشار وائل شلبي؟ فيما بدا وكأنها معزوفةٌ واحدة أريد لها أن تغلق ملف القضية إلى الأبد.
على مدار السنوات والأشهر الماضية، صدرت قراراتٌ بحظر النشر في قضايا أريد لها أن تكون طي النسيان، أبرزها حظر النشر في التسريبات الخاصة بعبد الفتاح السيسي ومدير مكتبه عباس كامل وعدد من القيادات العسكرية، والتي بثتها قنوات معارضة في الخارج، وكشفت عن كوارث، طاولت رجال الحكم في مصر بعد الانقلاب، وغيرها العشرات. وقد وصل عدد تلك القضايا إلى 37 قضية، وفقا لإحصائيةٍ قامت بها مؤسسة حرية الفكر والتعبير من منتصف 2013 وحتى منتصف 2016. وفي معظم تلك الحالات، استخدم النظام أذرعه القضائية، المتمثلة في النائب العام والقضاة، لإصدار تلك القرارات، بهدف التغطية على قضايا تسبب حرجا للنظام، وتكشف فساده السياسي والاقتصادي والإداري، وفساد مسؤوليه ورجاله، بالإضافة إلى التعتيم على جرائم قام بها ضباط شرطة وقضاة، شملت القتل والاختلاس وتلقي رشاوى.
في كل تلك القضايا، نجح النظام المصري في أن يجعل الناس تنساها تماما، وعلى الرغم من
أن الحديث يكثر هذه الأيام عما تسمى "قوة مواقع التواصل الاجتماعي" وقدرتها على فرض أجندتها والموضوعات التي تحوز على اهتمام السواد الأعظم من مستخدمي تلك المواقع، إلا أنها لم تستطع أن تعيد تلك القضايا إلى دائرة الاهتمام، بعد قرارات النظام بإجبار وسائل الإعلام التقليدية على عدم الحديث عنها، وهو ما يشير إلى بقايا قوةٍ ما زالت تتمتع بها وسائل الإعلام تلك، وبقايا قدرة على فرض أجندة النقاش في المجال العام.
يدرك المتابع لأفعال النظام المصري أن "سياسة النسيان" هذه ركيزة أساسية في أذهان صانعي القرار، إذ يستخدمها ضد معارضيه، وضد أي شيءٍ يتعلق بثورة يناير. وبالنسبة للمعارضة، يبدو أن النظام يستفيد كثيرا من بقاء الجسم الرئيسي للمعارضة الجذرية له خارج البلاد، فعلى الرغم من أن هذا الابتعاد يتيح للمعارضة نظريا التحرّك بحرية، بعيدا عن بطش النظام في الداخل، فإنه، من ناحية أخرى، يقضي على أي تأثير محتمل لتلك المعارضة في الداخل. وبالفعل، تضاءل تأثير المعارضين المصريين ووسائل الإعلام التي تبث من الخارج، ولم تعد تملك أي أوراق قوة أو وسائل ضغط على النظام، واقتصرت أفعالها على مجرد الكلام عديم الجدوى، حتى إن إبراهيم منير، القائم بأعمال مرشد جماعة الإخوان المسلمين في مصر والمقيم في لندن، لم يجد شيئا يقوله عن استراتيجية الجماعة للقضاء على الانقلاب، إلا أن الصبر على أذى السيسي هو الذي سيهدم الانقلاب.
نجد الأمر نفسه في تعامل النظام مع اللاعب السابق، محمد أبو تريكة، فقد انتظر النظام حتى غادر النجم المصري البلاد، ثم أعلن عن إدراج اسمه ضمن قوائم "الإرهاب"، لهدف واضح، هو إجباره على البقاء خارج البلاد، حتى يتضاءل وجوده بين الناس، وهو الذي ظل دائما بين الناس، وصنع أسطورته من خلال خدمتهم، حتى ينساه المصريون مع مرور الوقت. وبالفعل، حدث ما يريده النظام، ولم يعد أبو تريكة، حتى عندما توفي والده، خوفا من القبض عليه وملاحقته، وبذلك تحقق المراد. بل وصل الأمر إلى منع صحيفةٍ من الصدور بسبب نشرها قصيدة عزاء موجهة للاعب.
أما أبرز الأحداث والقضايا التي يتبع فيها النظام هذه السياسة، فنجدها في تعامله مع كل ما يتعلق بذكريات ثورة 25 يناير، فلم يضبط السيسي متلبسا في أي مرة وهو يتحدث عن ثورة يناير بإيجابية، بل لم يضبط متلبسا بالحديث عنها أصلا، باستثناء مرّات نادرة في ذكراها، لم يتحدث فيها عن الثورة إلا بعبارات مقتضبة، ومن دون أن ينسى أن يذكر أنها انحرفت عن
مسارها، حتى جاءت "ثورة 30 يونيو" لتصحح ذلك المسار. وجاء جديد ما أبدعه السيسي عن ثورة يناير في أثناء انعقاد مؤتمر الشباب في محافظة الإسماعلية، عندما قال إن "التحرّك" الذي حدث في 2011 (يستحي من ذكر كلمة ثورة كأنها جريمة) كان ناتجا عما سمّاه "وعياً زائفاً" للمصريين، وأن توصيف المشكلة التي كان يعاني منها المصريون في عهد حسني مبارك كان خادعا وغير حقيقي، وأن المصريين عندما تحرّكوا لإطاحة مبارك كانوا يطيحون مستقبلهم! محذرا، في الوقت نفسه، من أي تحرّك آخر مماثل، لأنه سيؤدي إلى دمار البلاد. توضح هذه الإشارة رؤية السيسي الحقيقية تجاه الثورة، وتنسجم مع سياسته تجاه كل ما يتعلق بها، عبر التحقير من شأنها، وتجاهل ذكرها كلما أمكن ذلك، وإرجاع كل أزمات البلاد إليها لدفع المصريين إلى كرهها ونسيانها.
من سياسات النظام أيضا تحويل مصر إلى ثكنة عسكرية في أثناء حلول أي ذكرى مرتبطة بثورة يناير، ومنع التظاهر في تلك الأيام نهائيا، أو حتى الاحتفال بها أو إحياء ذكراها بصمت، ويمكن، في هذا الإطار، تفسير قتل قوات الأمن الناشطة شيماء الصباغ، على الرغم من أنها لم تكن تتظاهر، بل كانت تحمل الورود، في أثناء وقفة صامتة في ذكرى الثورة عام 2015، فهو لا يريد الحديث عن الثورة بأي شكل. كما تقوم قوات الأمن بحملة اعتقالاتٍ واسعة، قبل تلك الذكريات، تطاول أعضاء كل القوى السياسية والحركات الاحتجاجية، وحتى حركات الألتراس لا تسلم من ذلك التنكيل قبل ذكرى مذبحة بورسعيد في الأول من فبراير/ شباط كل عام. حتى إن بعض تلك الذكريات قد تحوّلت إلى مذابح تضاف إلى ذكريات الثورة الدامية الأخرى.
ويتوازى إهمال ذكريات الثورة مع إهمال أي حديثٍ عن شهدائها، بل والهجوم عليهم في بعض الأحيان، ووصفهم بالمجرمين والبلطجية، وقصر الحديث عن "الشهداء" على شهداء الجيش والشرطة، وتكريمهم مع أسرهم في كل المناسبات التي يظهر فيها السيسي الذي بكى في أثناء احتفال "يوم الشهيد"، ووعد بمضاعفة موازنة جمعية المحاربين القدامى، وقال إن أبناء الشهداء هم أبناؤه، مع تجاهل تام للآلاف من شهداء الثورة وأحداثها اللاحقة. ويهدف هذا الاحتكار لمصطلح الشهادة، في النهاية، إلى إنهاء أي ذكر لشهداء الثورة الذين طالما ألهبوا مشاعر المصريين، وأثاروا تعاطفهم، ومثلوا أحد أقوى أسباب تأييد المصريين ثورة يناير.
يتصوّر السيسي ونظامه أنه بذلك يستطيع أن يجعل المصريين ينسون الثورة، ويتجاهلونها كما يتجاهلها هو، لكنه، في كل مرة، يحذر منها، ومن تكرارها، يثبت أنها عصية على النسيان، بدليل استمرار خوفه منها، ورعبه من شبح عودتها.
على مدار السنوات والأشهر الماضية، صدرت قراراتٌ بحظر النشر في قضايا أريد لها أن تكون طي النسيان، أبرزها حظر النشر في التسريبات الخاصة بعبد الفتاح السيسي ومدير مكتبه عباس كامل وعدد من القيادات العسكرية، والتي بثتها قنوات معارضة في الخارج، وكشفت عن كوارث، طاولت رجال الحكم في مصر بعد الانقلاب، وغيرها العشرات. وقد وصل عدد تلك القضايا إلى 37 قضية، وفقا لإحصائيةٍ قامت بها مؤسسة حرية الفكر والتعبير من منتصف 2013 وحتى منتصف 2016. وفي معظم تلك الحالات، استخدم النظام أذرعه القضائية، المتمثلة في النائب العام والقضاة، لإصدار تلك القرارات، بهدف التغطية على قضايا تسبب حرجا للنظام، وتكشف فساده السياسي والاقتصادي والإداري، وفساد مسؤوليه ورجاله، بالإضافة إلى التعتيم على جرائم قام بها ضباط شرطة وقضاة، شملت القتل والاختلاس وتلقي رشاوى.
في كل تلك القضايا، نجح النظام المصري في أن يجعل الناس تنساها تماما، وعلى الرغم من
يدرك المتابع لأفعال النظام المصري أن "سياسة النسيان" هذه ركيزة أساسية في أذهان صانعي القرار، إذ يستخدمها ضد معارضيه، وضد أي شيءٍ يتعلق بثورة يناير. وبالنسبة للمعارضة، يبدو أن النظام يستفيد كثيرا من بقاء الجسم الرئيسي للمعارضة الجذرية له خارج البلاد، فعلى الرغم من أن هذا الابتعاد يتيح للمعارضة نظريا التحرّك بحرية، بعيدا عن بطش النظام في الداخل، فإنه، من ناحية أخرى، يقضي على أي تأثير محتمل لتلك المعارضة في الداخل. وبالفعل، تضاءل تأثير المعارضين المصريين ووسائل الإعلام التي تبث من الخارج، ولم تعد تملك أي أوراق قوة أو وسائل ضغط على النظام، واقتصرت أفعالها على مجرد الكلام عديم الجدوى، حتى إن إبراهيم منير، القائم بأعمال مرشد جماعة الإخوان المسلمين في مصر والمقيم في لندن، لم يجد شيئا يقوله عن استراتيجية الجماعة للقضاء على الانقلاب، إلا أن الصبر على أذى السيسي هو الذي سيهدم الانقلاب.
نجد الأمر نفسه في تعامل النظام مع اللاعب السابق، محمد أبو تريكة، فقد انتظر النظام حتى غادر النجم المصري البلاد، ثم أعلن عن إدراج اسمه ضمن قوائم "الإرهاب"، لهدف واضح، هو إجباره على البقاء خارج البلاد، حتى يتضاءل وجوده بين الناس، وهو الذي ظل دائما بين الناس، وصنع أسطورته من خلال خدمتهم، حتى ينساه المصريون مع مرور الوقت. وبالفعل، حدث ما يريده النظام، ولم يعد أبو تريكة، حتى عندما توفي والده، خوفا من القبض عليه وملاحقته، وبذلك تحقق المراد. بل وصل الأمر إلى منع صحيفةٍ من الصدور بسبب نشرها قصيدة عزاء موجهة للاعب.
أما أبرز الأحداث والقضايا التي يتبع فيها النظام هذه السياسة، فنجدها في تعامله مع كل ما يتعلق بذكريات ثورة 25 يناير، فلم يضبط السيسي متلبسا في أي مرة وهو يتحدث عن ثورة يناير بإيجابية، بل لم يضبط متلبسا بالحديث عنها أصلا، باستثناء مرّات نادرة في ذكراها، لم يتحدث فيها عن الثورة إلا بعبارات مقتضبة، ومن دون أن ينسى أن يذكر أنها انحرفت عن
من سياسات النظام أيضا تحويل مصر إلى ثكنة عسكرية في أثناء حلول أي ذكرى مرتبطة بثورة يناير، ومنع التظاهر في تلك الأيام نهائيا، أو حتى الاحتفال بها أو إحياء ذكراها بصمت، ويمكن، في هذا الإطار، تفسير قتل قوات الأمن الناشطة شيماء الصباغ، على الرغم من أنها لم تكن تتظاهر، بل كانت تحمل الورود، في أثناء وقفة صامتة في ذكرى الثورة عام 2015، فهو لا يريد الحديث عن الثورة بأي شكل. كما تقوم قوات الأمن بحملة اعتقالاتٍ واسعة، قبل تلك الذكريات، تطاول أعضاء كل القوى السياسية والحركات الاحتجاجية، وحتى حركات الألتراس لا تسلم من ذلك التنكيل قبل ذكرى مذبحة بورسعيد في الأول من فبراير/ شباط كل عام. حتى إن بعض تلك الذكريات قد تحوّلت إلى مذابح تضاف إلى ذكريات الثورة الدامية الأخرى.
ويتوازى إهمال ذكريات الثورة مع إهمال أي حديثٍ عن شهدائها، بل والهجوم عليهم في بعض الأحيان، ووصفهم بالمجرمين والبلطجية، وقصر الحديث عن "الشهداء" على شهداء الجيش والشرطة، وتكريمهم مع أسرهم في كل المناسبات التي يظهر فيها السيسي الذي بكى في أثناء احتفال "يوم الشهيد"، ووعد بمضاعفة موازنة جمعية المحاربين القدامى، وقال إن أبناء الشهداء هم أبناؤه، مع تجاهل تام للآلاف من شهداء الثورة وأحداثها اللاحقة. ويهدف هذا الاحتكار لمصطلح الشهادة، في النهاية، إلى إنهاء أي ذكر لشهداء الثورة الذين طالما ألهبوا مشاعر المصريين، وأثاروا تعاطفهم، ومثلوا أحد أقوى أسباب تأييد المصريين ثورة يناير.
يتصوّر السيسي ونظامه أنه بذلك يستطيع أن يجعل المصريين ينسون الثورة، ويتجاهلونها كما يتجاهلها هو، لكنه، في كل مرة، يحذر منها، ومن تكرارها، يثبت أنها عصية على النسيان، بدليل استمرار خوفه منها، ورعبه من شبح عودتها.