11 نوفمبر 2023
دول الحصار ومعضلة بلير "الإسلامية"
عبد الوهاب الأفندي
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
بحسب صحيفة "الديلي تلغراف" البريطانية (10 يوليو/ تموز 2016)، فإن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، فاوض دولة الإمارات على خدماتٍ لتحسين صورتها في الغرب مقابل 35 مليون دولار يتقاضاها على مدى خمس سنوات. والمشهور عن بلير، بطل غزو العراق ومصائب أخرى، أن صورته هو أحوج إلى التحسين، حتى وسط حزبه الذي ضحّى به لتجنب فقدان السلطة، ولكن بعد فوات الأوان. يكفي أن قناة تلفزيونية عرضت في عام 2007 فيلماً متخيلاً يصوّر إرساله إلى محكمة الجنايات الدولية، ليواجه المحاكمة بسبب جرائم حرب. ولم يكن عالم الواقع أرحم به، حيث أن تقرير تشيلكوت الذي نشر العام الماضي حمل إداناتٍ قوية لسياساته التي أدت إلى غزو العراق.
ولتحسين صورته أكثر، اتخذ بلير من لوم الإسلام ذريعة ودريئة، فهو يجادل بأن غزو العراق، وسياسات إسرائيل، والدعم الأميركي لأنظمة وحشية في مناطق كثيرة، لا علاقة لها بالعنف الذي يسود مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، ويصل شررُه إلى دولٍ غربية. فالمشكلة هي في "التطرّف الإسلامي"، مع وضع خطين تحت "الإسلامي". وفي إحدى خطاباته الشهيرة، هاجم من نصحوه بألا يستخدم تعبير "الإرهاب الإسلامي"، حتى لا يجرح مشاعر المسلمين، قائلاً إنه لا بد من تسمية الأشياء بأسمائها، والتأكيد على أن هذا إرهابٌ يستند إلى عقائد الإسلام.
ويذهب بلير إلى الزعم بأن المقاومة الفلسطينية، ومقاومة القمع الروسي في الشيشان، وثورة المسلمين الهنود في كشمير، والصراعات في الفيليبين والصومال وأفغانستان والعراق وغيرها، تنطلق كلها من فهم معين للإسلام، ولا علاقة لها بمظالم تعرّض لها الناس، أو بغزو واحتلال أجنبي. وعليه، فإن الحلول في فلسطين أو العراق لا تتمثل في إنهاء الاحتلال أو إنهاء المظالم، وإنما بتصحيح عقائد الناس، ومكافحة الفكر "المتطرّف". فالفلسطيني الذي يتخلص من الفهم المغلوط للإسلام، أو من الإسلام جملةً، سيرى في الاحتلال الإسرائيلي نعمةً ربانية، وفي
حكومة نتنياهو عدلاً يفوق الخلافة الراشدة. أما العراقي صاحب العقيدة الصحيحة، فسيقيم تمثالين لبوش وبلير يسجد لهما، ويشكرهما صباح مساء على "الفتح المبين" الذي أنقذه من القهر، وأدخله إلى ساحات الحرية. وبالقدر نفسه، سيكتشف الشيشاني الذي يطرح "الوهابية"، ويتبنى الإسلام "المودرن"، فجأة أن بوتين هو رسول الله لإنقاذ غروزني من نفسها، عبر تدميرها كما تم تدمير عاد وثمود، ويسبح لفلاديمير وعامله قديروف صباح مساء. وكذلك الحال في كل بلدٍ مبتلى بدكتاتور الاحتلال أرحم منه. فما إن تنفتح بصيرة سكان الزنازين على الحق المبين، حتى يكتشفوا أن ما هم فيه من قهر وتعذيب وحرمان من أبسط الحقوق ما هو إلا نعمة من نعم الدكتاتور كانوا عنها غافلين. ولولا فتن قناة الجزيرة (التي لا يسمح لهم بمشاهدتها في الزنازين على كل حال)، لاكتشفوا أن قيودهم هي عين الحرية، وتعذيبهم ما هو إلا نعيم مقيم.
وقد ظل بلير وحليفه نتنياهو، وبعض أساطين اليمين المتطرّف من أنصار إسرائيل في أميركا، يروّجون هذه البضاعة المزجاة، ويهاجمون "الليبراليين" الذين يرفضونها، من دون أن يجدوا من يشتري. ولكن، مع مجيء دونالد ترامب إلى الرئاسة هذا العام، زاد ترويج هذه الأوهام بأن محاربة الإسلام هي الطريق الأقصر إلى محاربة الإرهاب، وتأمين كل احتلال وطغيان. وما لبثت أن انضمت إلى هذه الفئة الكارهة للإسلام فئة أخرى من النخب العربية، كرهت الديمقراطية التي ولدت من نضال الشعوب السلمي ضد القهر.
وبينما رحب كثيرون في الغرب بالفتح العربي الجديد، ورأوا فيه الحل النهائي للعنف والإرهاب، فإن بلير وأحباءه في إسرائيل ودول عربية معروفة ابتأسوا أشد بؤس بهذا الربيع العربي. وقد كانت لبلير أسبابه الإضافية لكراهية الربيع العربي، حيث إنه كان على مودةٍ مع طغاة العرب من حسني مبارك إلى معمر القذافي. وكان قد اتهم أيام حكمه بأنه قبل استضافة مصر أيام مبارك في عطلة خاصة مدفوعة الثمن مع أسرته كلفت 20 ألف جنيه. وقد حاول التوسط للقذافي، لتجنب إسقاطه. ولم يلبث اسم توني بلير أن برز كأحد أكبر الداعمين لانقلاب عبد الفتاح السيسي، ولكن بثمن جاء بدعم سخي من دولة الإمارات، حيث زار مصر أكثر من 13 مرة بين الانقلاب في 2013 ومايو/ أيار 2016، وعمل مستشارا للسيسي، ومسوّقاً نظامه.
ويروّج بلير ومن حوله وَهْمَ أن وجود نظام دموي، مثل السيسي، يكمّم الأفواه ويغلق أبواب العمل السياسي والمدني أمام كل الشرفاء في بلاده، هو الضمانة للقضاء على الإرهاب عبر
"تجفيف منابع" الفكر الإسلامي. وهذا أشبه بما سوّلت له نفسه، حين رأى في غزو العراق فتحاً مبيناً، قبل أن يعتذر في ما بعد مرغماً عما سبّبه من وبالٍ على العراق وأهله، فضلاً عن ضحايا من جنوده وجنود أميركا بلغوا أضعاف ضحايا حادث 11 سبتمبر 2001.
وهناك خطأ مركّب في هذا الفهم المعوج الذي تبنته دول الحصار على قطر (ربما بنصيحة بليرية مدفوعة الثمن، وشر المهالك ما يشتريه المرء بحرّ ماله)، بداية من مقولات بلير إن الدين الإسلامي هو حصراً المبرّر الوحيد والمشترك لكل أحداث العنف. وهذا أمرٌ بين الخطل كما يظهر أعلاه. وحتى لو كان الأمر كذلك، فإن سجن كل من يدعون للإسلام وتقتيلهم لن يحل المشكلة، في وقت تتوفر فيه كل النصوص ذات الشأن على الإنترنت. ولم يؤد تغييب حركة الإخوان المسلمين في مصر قسراً إلى استسلام الجميع للنظام الناصري، بل نشأت في المقابل حركاتٌ أخرى لا صلة لها بالإخوان، وتكاثرت ومارست العنف، وما تزال. وأخيراً إن الوهم بأن الأنظمة القمعية المفلسة التي تكذب صباح مساء، وترتبط بأبشع الممارسات، ستكون هي من يقود حركة "إصلاح الإسلام"، هو لا شك دليل على جهلٍ مطبقٍ بأمور السياسة والدين وشأن البشر، فإن حزباً من فقهائه بلير ونتنياهو لا يُصلح ديناً ولا دنيا، وأنا بذلك زعيم.
ولتحسين صورته أكثر، اتخذ بلير من لوم الإسلام ذريعة ودريئة، فهو يجادل بأن غزو العراق، وسياسات إسرائيل، والدعم الأميركي لأنظمة وحشية في مناطق كثيرة، لا علاقة لها بالعنف الذي يسود مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، ويصل شررُه إلى دولٍ غربية. فالمشكلة هي في "التطرّف الإسلامي"، مع وضع خطين تحت "الإسلامي". وفي إحدى خطاباته الشهيرة، هاجم من نصحوه بألا يستخدم تعبير "الإرهاب الإسلامي"، حتى لا يجرح مشاعر المسلمين، قائلاً إنه لا بد من تسمية الأشياء بأسمائها، والتأكيد على أن هذا إرهابٌ يستند إلى عقائد الإسلام.
ويذهب بلير إلى الزعم بأن المقاومة الفلسطينية، ومقاومة القمع الروسي في الشيشان، وثورة المسلمين الهنود في كشمير، والصراعات في الفيليبين والصومال وأفغانستان والعراق وغيرها، تنطلق كلها من فهم معين للإسلام، ولا علاقة لها بمظالم تعرّض لها الناس، أو بغزو واحتلال أجنبي. وعليه، فإن الحلول في فلسطين أو العراق لا تتمثل في إنهاء الاحتلال أو إنهاء المظالم، وإنما بتصحيح عقائد الناس، ومكافحة الفكر "المتطرّف". فالفلسطيني الذي يتخلص من الفهم المغلوط للإسلام، أو من الإسلام جملةً، سيرى في الاحتلال الإسرائيلي نعمةً ربانية، وفي
وقد ظل بلير وحليفه نتنياهو، وبعض أساطين اليمين المتطرّف من أنصار إسرائيل في أميركا، يروّجون هذه البضاعة المزجاة، ويهاجمون "الليبراليين" الذين يرفضونها، من دون أن يجدوا من يشتري. ولكن، مع مجيء دونالد ترامب إلى الرئاسة هذا العام، زاد ترويج هذه الأوهام بأن محاربة الإسلام هي الطريق الأقصر إلى محاربة الإرهاب، وتأمين كل احتلال وطغيان. وما لبثت أن انضمت إلى هذه الفئة الكارهة للإسلام فئة أخرى من النخب العربية، كرهت الديمقراطية التي ولدت من نضال الشعوب السلمي ضد القهر.
وبينما رحب كثيرون في الغرب بالفتح العربي الجديد، ورأوا فيه الحل النهائي للعنف والإرهاب، فإن بلير وأحباءه في إسرائيل ودول عربية معروفة ابتأسوا أشد بؤس بهذا الربيع العربي. وقد كانت لبلير أسبابه الإضافية لكراهية الربيع العربي، حيث إنه كان على مودةٍ مع طغاة العرب من حسني مبارك إلى معمر القذافي. وكان قد اتهم أيام حكمه بأنه قبل استضافة مصر أيام مبارك في عطلة خاصة مدفوعة الثمن مع أسرته كلفت 20 ألف جنيه. وقد حاول التوسط للقذافي، لتجنب إسقاطه. ولم يلبث اسم توني بلير أن برز كأحد أكبر الداعمين لانقلاب عبد الفتاح السيسي، ولكن بثمن جاء بدعم سخي من دولة الإمارات، حيث زار مصر أكثر من 13 مرة بين الانقلاب في 2013 ومايو/ أيار 2016، وعمل مستشارا للسيسي، ومسوّقاً نظامه.
ويروّج بلير ومن حوله وَهْمَ أن وجود نظام دموي، مثل السيسي، يكمّم الأفواه ويغلق أبواب العمل السياسي والمدني أمام كل الشرفاء في بلاده، هو الضمانة للقضاء على الإرهاب عبر
وهناك خطأ مركّب في هذا الفهم المعوج الذي تبنته دول الحصار على قطر (ربما بنصيحة بليرية مدفوعة الثمن، وشر المهالك ما يشتريه المرء بحرّ ماله)، بداية من مقولات بلير إن الدين الإسلامي هو حصراً المبرّر الوحيد والمشترك لكل أحداث العنف. وهذا أمرٌ بين الخطل كما يظهر أعلاه. وحتى لو كان الأمر كذلك، فإن سجن كل من يدعون للإسلام وتقتيلهم لن يحل المشكلة، في وقت تتوفر فيه كل النصوص ذات الشأن على الإنترنت. ولم يؤد تغييب حركة الإخوان المسلمين في مصر قسراً إلى استسلام الجميع للنظام الناصري، بل نشأت في المقابل حركاتٌ أخرى لا صلة لها بالإخوان، وتكاثرت ومارست العنف، وما تزال. وأخيراً إن الوهم بأن الأنظمة القمعية المفلسة التي تكذب صباح مساء، وترتبط بأبشع الممارسات، ستكون هي من يقود حركة "إصلاح الإسلام"، هو لا شك دليل على جهلٍ مطبقٍ بأمور السياسة والدين وشأن البشر، فإن حزباً من فقهائه بلير ونتنياهو لا يُصلح ديناً ولا دنيا، وأنا بذلك زعيم.
دلالات
عبد الوهاب الأفندي
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
عبد الوهاب الأفندي
مقالات أخرى
04 نوفمبر 2023
14 أكتوبر 2023
09 سبتمبر 2023