06 نوفمبر 2024
كفى تزويرا للتاريخ
في ظهيرة تشرينية باردة من عام 1962، وقف شباب بغداد وطلبتها على جانبي الطريق الممتد من المطار إلى المدينة، في استقبال أيقونة الثورة الجزائرية العشرينية الجميلة، جميلة بوحيرد، وهي تبدأ زيارتها التاريخية للعراق، وكم كانت فرحتي غامرةً، وأنا في مستهل حياتي العملية في إذاعة بغداد أن أكلف بمواكبة وصولها، وأن أحظى بمقابلةٍ نادرة معها، وما زال صوتها في أذني: "إنني مسرورة بزيارة العراق، وأشعر أنني في بيتي وبين أهلي"، ثم أسهبت في الحديث عن ثورة الجزائر، ولم تنس أن تحيي شعب العراق وزعيمه عبدالكريم قاسم.
ارتسمت في ذهني هذه الواقعة النادرة من وقائع العهد الرومانسي الجميل، وأنا أقرأ عن صرخة جميلة بوحيرد أخيرا، في مواجهة حالة التزوير المقصودة لتاريخها النضالي: "كفى تزويرا للتاريخ"، والتي ذكّرتني بصرختها الأولى، وهي تقف أمام سجانها الفرنسي: "أعرف أنكم سوف تحكمون عليّ بالإعدام. لكن، لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلادكم، وتلطخون شرفها بالعار، لكنكم لن تستطيعوا أن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة". نجت بوحيرد من تنفيذ عقوبة الإعدام إثر ضغوط دولية على فرنسا، ثم ما لبثت أن أطلق سراحها بعد الاستقلال.
بين صرخة بوحيرد الأولى قبل ستة عقود وصرختها اليوم تاريخٌ مديدٌ، تعددت فيه وقفاتها الشجاعة في مواجهة مغتصبي بلدها، وكذا حكامه الذين تنكّروا لما عاهدوا أنفسهم عليه، يوم طلبوا الحرية لمواطنيهم، وثاروا من أجل كرامتهم.
من بين وقفاتها تلك، نذكر نصرتها الفلسطينيين والمقاومة اللبنانية، ومساهمتها في كسر حصار غزة، كما نذكر تضامنها مع الأسرى الفلسطينيين، وهم يخوضون "معركة الأمعاء الخاوية" مع آسريهم، وإصرارها على المشاركة في الإضراب، وقد تجاوز عمرها الثمانين: "طريق الحرية مليء بالأشواك، لكننا مثل الصبّار، صبرنا في الجزائر وطردنا فرنسا الاستعمارية، وأنتم صبار فلسطين سوف تطردون الصهاينة، وإن النصر لا ريب آت قريبا".
من وقفاتها الشجاعة أيضا اعتراضها مرارا على ممارسات الحكم في بلادها، وتهديدها بالاعتصام في الشارع غداة الإعلان عن دورةٍ جديدةٍ لحكم الرئيس العجوز عبد العزيز بوتفليقة الذي يتشبث بالبقاء على قمة السلطة، حتى وهو لا يملك القدرة على الحركة.
وهي، في هذه المرة، تثأر لتاريخها وتاريخ رفاقها في الكفاح الذي يريدون تزويره، ولذاكرة الشهداء الذين يهدفون إلى تشويهها في إنتاج فيلم سينمائي "يؤرخ لمسار الثورة ولسيرة قدامى المحاربين الذين أسهموا في حرب التحرير الوطني"، بحسب ما قالته وزارة المجاهدين التي تشرف على إنتاجه، لكن بوحيرد ترفض هذا المنطق وتحتج عليه: "إنهم يريدون استغلال أحداث حرب التحرير والهدف إعطاء شرعية للحكم، وتلميع صورته من خلال التعكز على التاريخ النبيل لشهداء التحرير، وقدامى المحاربين". ما قالته بوحيرد أكّده مراقبون رصدوا أكثر من شاهدٍ على تخلي المواطنين عن دعم الحكم، منذ حصل الانحراف عن تلبية حاجاتهم ومطامحهم. لا تريد جميلة أن تكون شاهد زور على ما يجري: "إنهم يريدون اختراع روايةٍ جديدة مزورة لتاريخ الثورة الجزائرية وسير رجالها"، ولذلك ترفض أن تكون شخصية رئيسية في فيلم يحولها إلى "ضمانة كاذبة" لحقبةٍ مهمةٍ في تاريخ الجزائر المعاصر.
ليست هذه المرة الأولى التي يتعرّض فيها تاريخ بوحيرد للانتهاك، ففي مرة سابقة استنكرت بوحيرد إقدام مخرجة مغربية - فرنسية على إنتاج فيلم استمدت قصته من حياتها، وخصوصا عن فترة سجنها إبان مقاومتها الاستعمار الفرنسي، وزواجها من محاميها الفرنسي جاك فيرجيس، وإن كان سيناريو الفيلم يضع صحافيا أميركيا محله. قالت بوحيرد، في حينه، إنها ترفض أن يتم التعرض لحياتها الشخصية من دون إطلاعها أولا على سيناريو الفيلم.
تحيلنا اعتراضات بوحيرد المتكرّرة على ما أطلقت عليه "عملية تزوير للتاريخ الجزائري" إلى ما يجري في بلداننا العربية الأخرى، خصوصا التي تنوء بثقل أنظمة شمولية، من وقائع مشابهة، يندرج بعضها في إطار عمليات تزوير فاضحة لإضفاء شرعية على الحكم، أو لإسباغ قدسيةٍ معينةٍ على رموزٍ وشخصياتٍ موضع جدل، أو حتى لكتم أصوات معارضة، تتم عبر دعوات غير شفافة تحت عنوان "مراجعة التاريخ"، وباستخدام استغلال السينما أو التلفزيون، أو الصحافة العابرة، ولاحقا بوابات التواصل الاجتماعي، لكن ما هو أدهى الادّعاء أن وقائع التاريخ العربي - الإسلامي تستدعي المراجعة، لأنها تحض على الإرهاب، وتحرّض على العنف.
ارتسمت في ذهني هذه الواقعة النادرة من وقائع العهد الرومانسي الجميل، وأنا أقرأ عن صرخة جميلة بوحيرد أخيرا، في مواجهة حالة التزوير المقصودة لتاريخها النضالي: "كفى تزويرا للتاريخ"، والتي ذكّرتني بصرختها الأولى، وهي تقف أمام سجانها الفرنسي: "أعرف أنكم سوف تحكمون عليّ بالإعدام. لكن، لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلادكم، وتلطخون شرفها بالعار، لكنكم لن تستطيعوا أن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة". نجت بوحيرد من تنفيذ عقوبة الإعدام إثر ضغوط دولية على فرنسا، ثم ما لبثت أن أطلق سراحها بعد الاستقلال.
بين صرخة بوحيرد الأولى قبل ستة عقود وصرختها اليوم تاريخٌ مديدٌ، تعددت فيه وقفاتها الشجاعة في مواجهة مغتصبي بلدها، وكذا حكامه الذين تنكّروا لما عاهدوا أنفسهم عليه، يوم طلبوا الحرية لمواطنيهم، وثاروا من أجل كرامتهم.
من بين وقفاتها تلك، نذكر نصرتها الفلسطينيين والمقاومة اللبنانية، ومساهمتها في كسر حصار غزة، كما نذكر تضامنها مع الأسرى الفلسطينيين، وهم يخوضون "معركة الأمعاء الخاوية" مع آسريهم، وإصرارها على المشاركة في الإضراب، وقد تجاوز عمرها الثمانين: "طريق الحرية مليء بالأشواك، لكننا مثل الصبّار، صبرنا في الجزائر وطردنا فرنسا الاستعمارية، وأنتم صبار فلسطين سوف تطردون الصهاينة، وإن النصر لا ريب آت قريبا".
من وقفاتها الشجاعة أيضا اعتراضها مرارا على ممارسات الحكم في بلادها، وتهديدها بالاعتصام في الشارع غداة الإعلان عن دورةٍ جديدةٍ لحكم الرئيس العجوز عبد العزيز بوتفليقة الذي يتشبث بالبقاء على قمة السلطة، حتى وهو لا يملك القدرة على الحركة.
وهي، في هذه المرة، تثأر لتاريخها وتاريخ رفاقها في الكفاح الذي يريدون تزويره، ولذاكرة الشهداء الذين يهدفون إلى تشويهها في إنتاج فيلم سينمائي "يؤرخ لمسار الثورة ولسيرة قدامى المحاربين الذين أسهموا في حرب التحرير الوطني"، بحسب ما قالته وزارة المجاهدين التي تشرف على إنتاجه، لكن بوحيرد ترفض هذا المنطق وتحتج عليه: "إنهم يريدون استغلال أحداث حرب التحرير والهدف إعطاء شرعية للحكم، وتلميع صورته من خلال التعكز على التاريخ النبيل لشهداء التحرير، وقدامى المحاربين". ما قالته بوحيرد أكّده مراقبون رصدوا أكثر من شاهدٍ على تخلي المواطنين عن دعم الحكم، منذ حصل الانحراف عن تلبية حاجاتهم ومطامحهم. لا تريد جميلة أن تكون شاهد زور على ما يجري: "إنهم يريدون اختراع روايةٍ جديدة مزورة لتاريخ الثورة الجزائرية وسير رجالها"، ولذلك ترفض أن تكون شخصية رئيسية في فيلم يحولها إلى "ضمانة كاذبة" لحقبةٍ مهمةٍ في تاريخ الجزائر المعاصر.
ليست هذه المرة الأولى التي يتعرّض فيها تاريخ بوحيرد للانتهاك، ففي مرة سابقة استنكرت بوحيرد إقدام مخرجة مغربية - فرنسية على إنتاج فيلم استمدت قصته من حياتها، وخصوصا عن فترة سجنها إبان مقاومتها الاستعمار الفرنسي، وزواجها من محاميها الفرنسي جاك فيرجيس، وإن كان سيناريو الفيلم يضع صحافيا أميركيا محله. قالت بوحيرد، في حينه، إنها ترفض أن يتم التعرض لحياتها الشخصية من دون إطلاعها أولا على سيناريو الفيلم.
تحيلنا اعتراضات بوحيرد المتكرّرة على ما أطلقت عليه "عملية تزوير للتاريخ الجزائري" إلى ما يجري في بلداننا العربية الأخرى، خصوصا التي تنوء بثقل أنظمة شمولية، من وقائع مشابهة، يندرج بعضها في إطار عمليات تزوير فاضحة لإضفاء شرعية على الحكم، أو لإسباغ قدسيةٍ معينةٍ على رموزٍ وشخصياتٍ موضع جدل، أو حتى لكتم أصوات معارضة، تتم عبر دعوات غير شفافة تحت عنوان "مراجعة التاريخ"، وباستخدام استغلال السينما أو التلفزيون، أو الصحافة العابرة، ولاحقا بوابات التواصل الاجتماعي، لكن ما هو أدهى الادّعاء أن وقائع التاريخ العربي - الإسلامي تستدعي المراجعة، لأنها تحض على الإرهاب، وتحرّض على العنف.