31 أكتوبر 2024
"الإخوان" من منافسة العسكر إلى منافسة المَلَكية الوهابية
"الإخوان المسلمون إرهابيون". هذه واحدةٌ من الوصْمات التي تعيِّرهم بها الهجمة السعودية أخيراً، على قطر. ولكن في الواقع، الأمور تختلف. ولا يحتاج الكاتب أن يكون "إخوانياً"، أو إسلامياً، لكي يدْحضها.
تعود نشأة "الإخوان" إلى نهاية عشرينات القرن الماضي. مصريون بقيادة حسن البنا. وجميع كتاباته مستنْبطة من التراث المصري الصوفي، السلفي، الخيري، والسياسي أيضاً. أعمالهم في ظل الملك فاروق لم تكن كلها سلمية؛ بل كانت لهم فرق عنفية، مثل "الجوالة". "الضباط الأحرار" نسجوا معهم علاقة وتفاعلاً قبل انقلابهم، في يوليو/ تموز 1952، ولكن العصبية العسكرية، الأعرق من العصبية "الإخوانية"، وعمرها قرنان، تغلّبت عليهم بعد هذا الانقلاب الذي تحول لاحقاً إلى "ثورة" (عكس ما جرى مع عبد الفتاح السيسي: إذ بدا للوهلة الأولى أنه "يثور" ضد "الإخوان"، وإذا به يقود انقلاباً عليهم). مرارة الصراع على السلطة بينهم وبين جمال عبد الناصر منحت الحياة لجناحهم المتطرّف، المتمثل بسيد قطب، صاحب "معالم في الطريق". دفع صاحب الكتاب ثمنه من حياته: قرأ عبد الناصر الكتاب، فقرّر إعدام صاحبه (1965)، بعدما رأى فيه خطراً على سلطته اليافعة. الإضافة الأساسية لهذا الكتاب على كلاسيكيات "الإخوان" هما فكرتَا "الحاكمية لله"، و"هجرة المجتمع الجاهلي" (أي كله) وجواز ممارسة العنف ضده، بسبب "جاهليته" هذه.
سوف ينتعش هذا التيار بعد وفاة عبد الناصر، ويرْفد الغاضبين من فشل "الإخوان" باستلام السلطة، بمجموعة من العمليات، عرفتها مصر في عهدَي أنور السادات وحسني مبارك:
حوادث "الفنية العسكرية" و"التكفير والهجرة"، اغتيال السادات، مذبحة الأقصر، تفجيرات سيناء، مقْتلة كنيسة القديسين، عشية الثورة... و"الإخوان"، وسط ذلك، كانوا يسيرون بخطى حثيثة نحو العمل النقابي في القطاعات المهنية، ونحو الإقرار بالانتخابات والخوض بها، ونيل أصوات معتبرة، على الرغم من كل مضايقات أجهزة مبارك؛ وفي مقدمها تذرّع هذه الأجهزة بالعمليات الإرهابية وبقانون الطوارئ للفتك بهم.
ولحظة الثورة، لم يختلف "الإخوان" عن غيرهم من الأحزاب في التحفّظ عليها، لكن شبابهم، مثل شباب بقية الأحزاب، نزلوا وشاركوا ونظموا. هكذا جرّوا قيادتهم إلى الميدان، مثلما جُرّت قيادات حزبية أخرى. وكانت انتخابات رئاسية، بعد عام من الثورة، انتخابات حرّة ونزيهة، فاز فيها مرشح "الإخوان"، محمد مرسي، بوجه مرشح السلطة، أحمد شفيق. وبعد سنة واحدة من الحكم "الإخواني" الذي اتسم باللهفة على كامل السلطات، وبألوانٍ من السذاجة والسلطوية الانتصارية، بدا هذا الحكم فاشلاً، مضرّاً للبلاد. فأطبق عليهم الجيش، بقيادة عبد الفتاح السيسي، بانقلابٍ مشهدي مسرحي مدروس، وانتزع الحكم منهم، ليتفوّق عليهم، قمعاً وتشتتاً واستئثاراً، فكانت الموجة الإرهابية في مصر، سيناء خصوصاً، بقيادة "داعش" وغيرها.
أولى الخيوط الناسجة لهذه الوقائع أن "الإخوان المسلمين" كانوا، منذ عهود الاستقلال الأولى، على صراع على السلطة مع الجيش، متمثلاً بـ"الضباط الأحرار". صراع اتخذ مناحي عنيفة جداً، أحياناً، وأقلّ من عنيفة، ولكنها دائماً لغير صالحهم. وهذا ما يفسّر انبثاق تياراتٍ أو انشقاقات عن قيادتهم، وارتمائها في حضن "القطبيين" (سيد قطب) أو من شابههم في الطرق والوسائل.
وجود هذا الجذع "الإخواني"، السياسي أساساً، والذي لا يستبعد العنف أحياناً، ثم فروع تنشق منه لتتبنّى العنف المنهجي سبيلاً لتحقيق هدفها... يستدعي المقارنة مع تيارٍ من الشيوعية العالمية، ضجّت به سبعينيات القرن الماضي: في تلك العشرية التي يُطلق عليها "سنوات الرصاص"، انشقت عن الشيوعية الأم حركاتٌ مسلحةٌ قامت بأعمالٍ إرهابيةٍ احتجاجاً على فشلها في بلوغها السلطة، وعلى سياسة السوفيات الانتهازية. نشأت هذه الحركات في ألمانيا (بادر ماينهوف)، في اليابان (الجيش الأحمر)، في الأورغواي (التوباماروس)، في إيطاليا (الألوية الحمراء).. إلخ. خلاصة القول، إن الشيوعية التي لم تلبِ وقتها تطلعات الشباب الجذرية جداً عرفت ما سوف يعرفه "الإخوان المسلمون" بعد إخفاقاتهم. بل قد يكون نظام الأواني المستطرقة قد اشتغل، أيضاً، مع "الإخوان": بأن يكون عضوٌ في تنظيمهم قد انضم إلى الإرهاب في لحظة إحباط سياسي، فذهب إلى القتل والخطف والتفجير. مع الشيوعية كما مع "الإخوانية"...
بعد ذلك، عودةً إلى خلاصة هذا المشوار "الإخواني" الطويل: تسعون عاماً تقريباً من السعي
إلى السلطة، تصدّت له العصبية العسكرية التي ارتدت لباس العلْمنة، حيناً، "الرئيس المؤمن" أو الممارسات الدينية أمام الشاشة، حيناً آخر... وفي كل مرة، يخفق "الإخوان". وكان الإخفاق الأخير مدوّياً، في أغسطس/ آب من العام 2013، عندما تمكّن عبد الفتاح السيسي من إزاحتهم بقوة نيرانه، وسجن رئيسهم، المنتخب ديمقراطياً باعتراف العالم كله... الذي لم يستطع شيئاً. والبقية المعروفة، عن تصاعد العنف الإسلامي، من شبابٍ قد يكونون رأوا، كما رأى الشباب الشيوعي في سبعينيات القرن الماضي، أن الإرهاب هو النهج المفيد.
الآن، بعدما اختُصرت مصر بعبد الفتاح السيسي، وانتشر "الإخوان المسلمون" في بقع الدنيا، متمسّكين بفكرهم أشدّ التمسك، إذ لا منافس له على مستوى الجموع... تغيّرت العداوة جغرافياً، وصار لـ"الإخوان" منافسون آخرون.
السعودية احتضنت "الإخوان" عندما كانت تشكل القطب النقيض لعبد الناصر. علاقتها بـهم بدأت بالتخلْخل في حرب الخليج الثانية، عندما رفضوا اشتراكها مع الأميركيين في ضرب العراق لتحرير الكويت ("مسلم ضد مسلم"). منذ وقتها، حصلت أمورٌ كثيرة، لكن آخرها كان الأسطع: اشتراك "الإخوان" في الثورة، وصولهم إلى السلطة عن طريق الاقتراع الحرّ... لم ترهما المملكة بعين الرضا. انخفاض أسعار النفط يزيد من قلقها. مكرماتها تتضاءل. كانت شبه ساكتة على مضض في عهد باراك أوباما الذي أحب "الإخوان"، بصفتهم سدّاً ضد الإرهاب، لو استلموا السلطة. لكن دونالد ترامب أطلق لسانها وحميّتها، فأدرجت "الإخوان" ضمن "المنظمات الإرهابية". إذ بدا واضحاً أنهم يشكلون خطراً عليها، يخاطبون بإسلام شعبي، غير ملَكي توريثي. هكذا انتقل "الإخوان المسلمون" من التنافس مع العسكر إلى التنافس مع المَلَكية؛ ومجال هذا التنافس ليس الدول، إنما الجموع الشعبية. "الإخوان المسلمون" المصريون، مؤسسو الإسلام السياسي المعاصر، جذورهم قوية في الأرض المصرية. حتى ولو أُقصوا من السلطة. اُنظر إلى إسلام السيسي وإسلام الأزهر، الموالي له، ولن تجد فيهما غير الخزعبلات الساداتية القديمة لـ"الرئيس المؤمن"، الهادفة إلى كسب قلوب الجموع. ولكن المهم، الآن، أن صراعهم مع الملكية قد يفتح نوافذ جديدة على معاني "الإسلام السياسي".
تعود نشأة "الإخوان" إلى نهاية عشرينات القرن الماضي. مصريون بقيادة حسن البنا. وجميع كتاباته مستنْبطة من التراث المصري الصوفي، السلفي، الخيري، والسياسي أيضاً. أعمالهم في ظل الملك فاروق لم تكن كلها سلمية؛ بل كانت لهم فرق عنفية، مثل "الجوالة". "الضباط الأحرار" نسجوا معهم علاقة وتفاعلاً قبل انقلابهم، في يوليو/ تموز 1952، ولكن العصبية العسكرية، الأعرق من العصبية "الإخوانية"، وعمرها قرنان، تغلّبت عليهم بعد هذا الانقلاب الذي تحول لاحقاً إلى "ثورة" (عكس ما جرى مع عبد الفتاح السيسي: إذ بدا للوهلة الأولى أنه "يثور" ضد "الإخوان"، وإذا به يقود انقلاباً عليهم). مرارة الصراع على السلطة بينهم وبين جمال عبد الناصر منحت الحياة لجناحهم المتطرّف، المتمثل بسيد قطب، صاحب "معالم في الطريق". دفع صاحب الكتاب ثمنه من حياته: قرأ عبد الناصر الكتاب، فقرّر إعدام صاحبه (1965)، بعدما رأى فيه خطراً على سلطته اليافعة. الإضافة الأساسية لهذا الكتاب على كلاسيكيات "الإخوان" هما فكرتَا "الحاكمية لله"، و"هجرة المجتمع الجاهلي" (أي كله) وجواز ممارسة العنف ضده، بسبب "جاهليته" هذه.
سوف ينتعش هذا التيار بعد وفاة عبد الناصر، ويرْفد الغاضبين من فشل "الإخوان" باستلام السلطة، بمجموعة من العمليات، عرفتها مصر في عهدَي أنور السادات وحسني مبارك:
ولحظة الثورة، لم يختلف "الإخوان" عن غيرهم من الأحزاب في التحفّظ عليها، لكن شبابهم، مثل شباب بقية الأحزاب، نزلوا وشاركوا ونظموا. هكذا جرّوا قيادتهم إلى الميدان، مثلما جُرّت قيادات حزبية أخرى. وكانت انتخابات رئاسية، بعد عام من الثورة، انتخابات حرّة ونزيهة، فاز فيها مرشح "الإخوان"، محمد مرسي، بوجه مرشح السلطة، أحمد شفيق. وبعد سنة واحدة من الحكم "الإخواني" الذي اتسم باللهفة على كامل السلطات، وبألوانٍ من السذاجة والسلطوية الانتصارية، بدا هذا الحكم فاشلاً، مضرّاً للبلاد. فأطبق عليهم الجيش، بقيادة عبد الفتاح السيسي، بانقلابٍ مشهدي مسرحي مدروس، وانتزع الحكم منهم، ليتفوّق عليهم، قمعاً وتشتتاً واستئثاراً، فكانت الموجة الإرهابية في مصر، سيناء خصوصاً، بقيادة "داعش" وغيرها.
أولى الخيوط الناسجة لهذه الوقائع أن "الإخوان المسلمين" كانوا، منذ عهود الاستقلال الأولى، على صراع على السلطة مع الجيش، متمثلاً بـ"الضباط الأحرار". صراع اتخذ مناحي عنيفة جداً، أحياناً، وأقلّ من عنيفة، ولكنها دائماً لغير صالحهم. وهذا ما يفسّر انبثاق تياراتٍ أو انشقاقات عن قيادتهم، وارتمائها في حضن "القطبيين" (سيد قطب) أو من شابههم في الطرق والوسائل.
وجود هذا الجذع "الإخواني"، السياسي أساساً، والذي لا يستبعد العنف أحياناً، ثم فروع تنشق منه لتتبنّى العنف المنهجي سبيلاً لتحقيق هدفها... يستدعي المقارنة مع تيارٍ من الشيوعية العالمية، ضجّت به سبعينيات القرن الماضي: في تلك العشرية التي يُطلق عليها "سنوات الرصاص"، انشقت عن الشيوعية الأم حركاتٌ مسلحةٌ قامت بأعمالٍ إرهابيةٍ احتجاجاً على فشلها في بلوغها السلطة، وعلى سياسة السوفيات الانتهازية. نشأت هذه الحركات في ألمانيا (بادر ماينهوف)، في اليابان (الجيش الأحمر)، في الأورغواي (التوباماروس)، في إيطاليا (الألوية الحمراء).. إلخ. خلاصة القول، إن الشيوعية التي لم تلبِ وقتها تطلعات الشباب الجذرية جداً عرفت ما سوف يعرفه "الإخوان المسلمون" بعد إخفاقاتهم. بل قد يكون نظام الأواني المستطرقة قد اشتغل، أيضاً، مع "الإخوان": بأن يكون عضوٌ في تنظيمهم قد انضم إلى الإرهاب في لحظة إحباط سياسي، فذهب إلى القتل والخطف والتفجير. مع الشيوعية كما مع "الإخوانية"...
بعد ذلك، عودةً إلى خلاصة هذا المشوار "الإخواني" الطويل: تسعون عاماً تقريباً من السعي
الآن، بعدما اختُصرت مصر بعبد الفتاح السيسي، وانتشر "الإخوان المسلمون" في بقع الدنيا، متمسّكين بفكرهم أشدّ التمسك، إذ لا منافس له على مستوى الجموع... تغيّرت العداوة جغرافياً، وصار لـ"الإخوان" منافسون آخرون.
السعودية احتضنت "الإخوان" عندما كانت تشكل القطب النقيض لعبد الناصر. علاقتها بـهم بدأت بالتخلْخل في حرب الخليج الثانية، عندما رفضوا اشتراكها مع الأميركيين في ضرب العراق لتحرير الكويت ("مسلم ضد مسلم"). منذ وقتها، حصلت أمورٌ كثيرة، لكن آخرها كان الأسطع: اشتراك "الإخوان" في الثورة، وصولهم إلى السلطة عن طريق الاقتراع الحرّ... لم ترهما المملكة بعين الرضا. انخفاض أسعار النفط يزيد من قلقها. مكرماتها تتضاءل. كانت شبه ساكتة على مضض في عهد باراك أوباما الذي أحب "الإخوان"، بصفتهم سدّاً ضد الإرهاب، لو استلموا السلطة. لكن دونالد ترامب أطلق لسانها وحميّتها، فأدرجت "الإخوان" ضمن "المنظمات الإرهابية". إذ بدا واضحاً أنهم يشكلون خطراً عليها، يخاطبون بإسلام شعبي، غير ملَكي توريثي. هكذا انتقل "الإخوان المسلمون" من التنافس مع العسكر إلى التنافس مع المَلَكية؛ ومجال هذا التنافس ليس الدول، إنما الجموع الشعبية. "الإخوان المسلمون" المصريون، مؤسسو الإسلام السياسي المعاصر، جذورهم قوية في الأرض المصرية. حتى ولو أُقصوا من السلطة. اُنظر إلى إسلام السيسي وإسلام الأزهر، الموالي له، ولن تجد فيهما غير الخزعبلات الساداتية القديمة لـ"الرئيس المؤمن"، الهادفة إلى كسب قلوب الجموع. ولكن المهم، الآن، أن صراعهم مع الملكية قد يفتح نوافذ جديدة على معاني "الإسلام السياسي".