31 أكتوبر 2024
عن النظام السوري ومسايريه الديمقراطيين
يحاول هذا المقال مناقشة منطق النخبة الديمقراطية العلمانية، أو غير الإسلامية، التي تقول بأولولية مواجهة "الفاشية الإسلامية"، بما يسوّغ خطة النظام السوري خلال السنوات الماضية. على أننا نقول سلفاً إن هذا المنطق هو الوجه الآخر للمنطق "الديمقراطي" الثاني عن أولوية "إسقاط النظام"، وإن أياً من المنطقين لا يفضل الآخر بشيء، فهما التعبير المرضي لعلةٍ "يساريةٍ" مزمنةٍ أسميها القزامة أو التابعية.
لمناقشة المنطق المذكور، ينبغي تفادي الدخول في طريق الجدل الموحل والعقيم بشأن طبيعة الحراك السوري: هل هو إسلامي منذ البدء أم تحول إلى الإسلامية؟ وهل هو مسلّحٌ منذ البدء أم تحول إلى العسكرة؟ هل هو نتاج مؤامرةٍ، أم أنه حراكٌ شعبي أصيل؟ هل هو حراكٌ يريد الحرية والكرامة أم يريد هدم البلاد والجيش؟ هل يتحرّك بدافع سياسي أم طائفي؟ هل هو ثورة أم فورة؟ ..إلخ. يمكن تفادي ذلك بمناقشة هذا المنطق من داخله، وبحسب قناعاته ومرجعياته نفسها.
يؤسس هذا المنطق لنفسه بالقول إن الحراك السوري كان يحمل صبغة إسلامية طائفية منذ البداية، وإن العنف كان حاضراً منذ البداية أيضاً، ويصل بالتالي إلى أنه لا علاقة لهذا النوع من الحراك بالحرية ولا بالربيع، ولا يمكن وصفه ثورة. ويضيف أصحاب هذا التحليل أن تركيا ساهمت في تغذية الحراك، لغايات ومطامع استعمارية، ويستغربون كيف لدولٍ عربيةٍ تحكم بطريقة عشائرية، ولا تعرف معنى الدستور، أن تساند حركة ديمقراطية!
الحق أنه يمكن تقصّي حقائق كثيرة ومبكرة تدعم المقدمات التي يقوم عليها التحليل، كما من الطبيعي والمفهوم أن تسعى أي دولةٍ إلى استغلال الحوادث والاحتجاجات، وكل ما هو ممكن في الدول الأخرى، لتعزيز ثقلها الإقليمي، أو للضغط على أنظمة حكم، أو حتى لقلب أنظمة حكم بما يخدم سياسات تلك الدولة ومطامعها. تدفع هذه المقدمات، بحسب هذا المنطق، إلى الريبة والشك في الحراك، والتخوف منه، ومن مآلاته.
مع ذلك، تبقى هناك حقائق أخرى، تستوجب من أصحاب هذا المنطق التوقف عندها، من باب
الحرص على الدولة وعلى الوطن وعلى الشعب السوري، بحسب منطوقهم نفسه. أول هذه الحقائق أن الاحتجاج الذي بدأ محدوداً امتد ليشمل مناطق عديدة من البلد، وراح يستقطب أعداداً متزايدة من السوريين. وأن المظاهرات استمرت على الرغم من سقوط الضحايا بالرصاص المباشر، وبأرقام غير قليلة (أكان هذا الرصاص من جهاتٍ تابعة للنظام أم تابعة لجهات أخرى لا يهم هنا، المهم أن الناس استمرت بالتظاهر على الرغم من سقوط قتلى بين المتظاهرين). هذا يعني أن هناك إرادة واسعة وتصميما عميقا لدى قطاع متزايد من السوريين بتغيير النظام.
من زاوية نظر النظام القائم على شرعية القوة، وليس على قوة الشرعية (وهذا ما لا ينكره أصحاب المنطق الذي نناقشه)، فإن هذا الحراك يعني شيئاً واحداً، هو تهديد نظام الحكم. وعليه، فإن الرد الأساسي أمام تمادي الحراك وتوسّعه هو القمع، وما تبقى من سبل و"سياساتٍ" غرضها فقط تسويغ القمع أو تفتيت الشارع. هذا مفهومٌ من موقع النظام الحاكم، لأن التغيير السياسي سوف يقود، إن حصل، إلى سحب امتيازاتٍ هائلة تتمتع بها طغمة الحكم، ويمكن أن يقود أيضاً إلى محاكماتٍ ومحاسبة .. إلخ.
ومن موقع المعارض الديمقراطي العلماني، من الطبيعي أن تختلف مقاربة الحراك. هنا ينبغي أن تدخل في الحسبان مصلحة البلد، بدلاً من مصلحة النظام، ومصلحة الشعب بدلاً من مصلحة الطغمة. هنا تجد أسئلة أخرى طريقها إلى الواجهة: كيف يمكن تفادي تحول إرادة التغيير الملموسة هذه إلى طاقةٍ تدميرية؟ كيف يمكن تفادي طغيان البعد الطائفي فيها؟ كيف يمكن استثمارها لفرض واقع سياسي أقدر على استيعاب تطلعات قطاع أوسع من السوريين؟ وكيف يمكن تفويت المؤامرة وعدم الوقوع في حبائلها، إذا كان ثمّة مؤامرة؟ الطبيعي أن المعارض الديمقراطي لا تقيده مصلحة خاصة، تمنعه من رؤية مصلحة البلد والشعب فوق كل شيء. أي إن التخوف الذي يمكن أن يعتري المعارض الديمقراطي من حراكٍ يحمل ملامح إسلامية، وبوادر عنف وطائفية، ينبغي أن يختلف جوهرياً عن تخوّف النظام الحاكم من هذا الحراك. الأول يفترض أن خوفه نابعٌ من حرصٍ على الوطن، والثاني من حرصٍ على النظام. بين أولولية النظام وأولوية الوطن يجب أن يكمن الفارق بين مقاربة المعارض الديمقراطي والنظام.
كانت القوة المتزايدة وسيلة النظام الأهم في الدفاع عن نفسه، وهذا الخيار الذي أملته مصلحة النظام وأسبقيتها على ما يخدم الوطن والشعب، أدخل سورية في مسار العنف الذي دمر البلد وفتّت المجتمع. لا يمكن تفسير الدخول في هذا النفق، إلا من موقع نظامٍ يدافع عن استمراره فوق كل شيء، ويعبر عن هذا صراحة بعبارة "الأسد أو لا أحد". لكن من غير المفهوم أن يدافع معارض ديمقراطي عن هذا المسار، من دون أن يترك للسوريين مجالا للتمييز بينه وبين مروجي سياسات النظام المأزوم. الغريب أن هذا الديمقراطي يمضي بعيداً في التحاقه بهذا الخيار الذي قاد إلى استباحة الوطن، وتزايد الإسلاميين.
تزداد الغرابة، حين يقع هذا المعارض الديمقراطي نفسه ضحية قمع النظام. هنا، نشهد إيثاراً
سياسياً كاريكاتوريا، حيث يدافع المعارض الديمقراطي عن نظامٍ يضطهده. وبالمناسبة، يكرّر العلماني المساير للإسلاميين هذا المشهد الإيثاري الكاريكاتوري، حين يقول إنه مع جبهة النصرة ضد النظام، حتى لو قتلته.
التسويغ الدائم الذي لا يمتلك النظام السوري سواه هو أنه يواجه سلفيين وإرهابيين ومؤامرة ..إلخ. ويشتري المعارض الديمقراطي المساير للنظام هذا التسويغ. تُرى، لو افترضنا أن هذه الحركة غير سلفية وغير إرهابية وغير إسلامية ..إلخ، هل كان المعارض الديموقراطي المساير للنظام ليصدّق أن النظام سيستقبلها بالترحاب، وسيقبل أن يغيّر ذاته؟ وهل تساءل هذا المعارض لماذا تعرّض هو نفسه للاعتقال سنوات طويلة وللموت تحت التعذيب، من دون أن يكون إسلامياً أو إرهابياً؟ وكيف يتصوّر، بعد الخلاص من الفاشية الإسلامية، أن يتم تغيير النظام السياسي؟ وعلى يد من؟
لكي يهرب المعارض الديمقراطي من هذا الموقف الذي يجد نفسه فيه (معارضٌ مروجٌ لنظام لا يقيم له وزناً)، فإنه يسهب في ذكر حقائق مكرورة، مثل تخلف دول الخليج التي تدعم المعارضة، أو مطامع تركيا ..إلخ، لكنه يأبى أن يفكر في تقديم اقتراحه الخاص في التعامل مع الغليان السوري منذ البداية. لا يمتلك هذا الديمقراطي السوري اقتراحاً خاصاً يميّزه، إنه فقط يهاجم جهةً، ويلتحق بجهة.
لمناقشة المنطق المذكور، ينبغي تفادي الدخول في طريق الجدل الموحل والعقيم بشأن طبيعة الحراك السوري: هل هو إسلامي منذ البدء أم تحول إلى الإسلامية؟ وهل هو مسلّحٌ منذ البدء أم تحول إلى العسكرة؟ هل هو نتاج مؤامرةٍ، أم أنه حراكٌ شعبي أصيل؟ هل هو حراكٌ يريد الحرية والكرامة أم يريد هدم البلاد والجيش؟ هل يتحرّك بدافع سياسي أم طائفي؟ هل هو ثورة أم فورة؟ ..إلخ. يمكن تفادي ذلك بمناقشة هذا المنطق من داخله، وبحسب قناعاته ومرجعياته نفسها.
يؤسس هذا المنطق لنفسه بالقول إن الحراك السوري كان يحمل صبغة إسلامية طائفية منذ البداية، وإن العنف كان حاضراً منذ البداية أيضاً، ويصل بالتالي إلى أنه لا علاقة لهذا النوع من الحراك بالحرية ولا بالربيع، ولا يمكن وصفه ثورة. ويضيف أصحاب هذا التحليل أن تركيا ساهمت في تغذية الحراك، لغايات ومطامع استعمارية، ويستغربون كيف لدولٍ عربيةٍ تحكم بطريقة عشائرية، ولا تعرف معنى الدستور، أن تساند حركة ديمقراطية!
الحق أنه يمكن تقصّي حقائق كثيرة ومبكرة تدعم المقدمات التي يقوم عليها التحليل، كما من الطبيعي والمفهوم أن تسعى أي دولةٍ إلى استغلال الحوادث والاحتجاجات، وكل ما هو ممكن في الدول الأخرى، لتعزيز ثقلها الإقليمي، أو للضغط على أنظمة حكم، أو حتى لقلب أنظمة حكم بما يخدم سياسات تلك الدولة ومطامعها. تدفع هذه المقدمات، بحسب هذا المنطق، إلى الريبة والشك في الحراك، والتخوف منه، ومن مآلاته.
مع ذلك، تبقى هناك حقائق أخرى، تستوجب من أصحاب هذا المنطق التوقف عندها، من باب
من زاوية نظر النظام القائم على شرعية القوة، وليس على قوة الشرعية (وهذا ما لا ينكره أصحاب المنطق الذي نناقشه)، فإن هذا الحراك يعني شيئاً واحداً، هو تهديد نظام الحكم. وعليه، فإن الرد الأساسي أمام تمادي الحراك وتوسّعه هو القمع، وما تبقى من سبل و"سياساتٍ" غرضها فقط تسويغ القمع أو تفتيت الشارع. هذا مفهومٌ من موقع النظام الحاكم، لأن التغيير السياسي سوف يقود، إن حصل، إلى سحب امتيازاتٍ هائلة تتمتع بها طغمة الحكم، ويمكن أن يقود أيضاً إلى محاكماتٍ ومحاسبة .. إلخ.
ومن موقع المعارض الديمقراطي العلماني، من الطبيعي أن تختلف مقاربة الحراك. هنا ينبغي أن تدخل في الحسبان مصلحة البلد، بدلاً من مصلحة النظام، ومصلحة الشعب بدلاً من مصلحة الطغمة. هنا تجد أسئلة أخرى طريقها إلى الواجهة: كيف يمكن تفادي تحول إرادة التغيير الملموسة هذه إلى طاقةٍ تدميرية؟ كيف يمكن تفادي طغيان البعد الطائفي فيها؟ كيف يمكن استثمارها لفرض واقع سياسي أقدر على استيعاب تطلعات قطاع أوسع من السوريين؟ وكيف يمكن تفويت المؤامرة وعدم الوقوع في حبائلها، إذا كان ثمّة مؤامرة؟ الطبيعي أن المعارض الديمقراطي لا تقيده مصلحة خاصة، تمنعه من رؤية مصلحة البلد والشعب فوق كل شيء. أي إن التخوف الذي يمكن أن يعتري المعارض الديمقراطي من حراكٍ يحمل ملامح إسلامية، وبوادر عنف وطائفية، ينبغي أن يختلف جوهرياً عن تخوّف النظام الحاكم من هذا الحراك. الأول يفترض أن خوفه نابعٌ من حرصٍ على الوطن، والثاني من حرصٍ على النظام. بين أولولية النظام وأولوية الوطن يجب أن يكمن الفارق بين مقاربة المعارض الديمقراطي والنظام.
كانت القوة المتزايدة وسيلة النظام الأهم في الدفاع عن نفسه، وهذا الخيار الذي أملته مصلحة النظام وأسبقيتها على ما يخدم الوطن والشعب، أدخل سورية في مسار العنف الذي دمر البلد وفتّت المجتمع. لا يمكن تفسير الدخول في هذا النفق، إلا من موقع نظامٍ يدافع عن استمراره فوق كل شيء، ويعبر عن هذا صراحة بعبارة "الأسد أو لا أحد". لكن من غير المفهوم أن يدافع معارض ديمقراطي عن هذا المسار، من دون أن يترك للسوريين مجالا للتمييز بينه وبين مروجي سياسات النظام المأزوم. الغريب أن هذا الديمقراطي يمضي بعيداً في التحاقه بهذا الخيار الذي قاد إلى استباحة الوطن، وتزايد الإسلاميين.
تزداد الغرابة، حين يقع هذا المعارض الديمقراطي نفسه ضحية قمع النظام. هنا، نشهد إيثاراً
التسويغ الدائم الذي لا يمتلك النظام السوري سواه هو أنه يواجه سلفيين وإرهابيين ومؤامرة ..إلخ. ويشتري المعارض الديمقراطي المساير للنظام هذا التسويغ. تُرى، لو افترضنا أن هذه الحركة غير سلفية وغير إرهابية وغير إسلامية ..إلخ، هل كان المعارض الديموقراطي المساير للنظام ليصدّق أن النظام سيستقبلها بالترحاب، وسيقبل أن يغيّر ذاته؟ وهل تساءل هذا المعارض لماذا تعرّض هو نفسه للاعتقال سنوات طويلة وللموت تحت التعذيب، من دون أن يكون إسلامياً أو إرهابياً؟ وكيف يتصوّر، بعد الخلاص من الفاشية الإسلامية، أن يتم تغيير النظام السياسي؟ وعلى يد من؟
لكي يهرب المعارض الديمقراطي من هذا الموقف الذي يجد نفسه فيه (معارضٌ مروجٌ لنظام لا يقيم له وزناً)، فإنه يسهب في ذكر حقائق مكرورة، مثل تخلف دول الخليج التي تدعم المعارضة، أو مطامع تركيا ..إلخ، لكنه يأبى أن يفكر في تقديم اقتراحه الخاص في التعامل مع الغليان السوري منذ البداية. لا يمتلك هذا الديمقراطي السوري اقتراحاً خاصاً يميّزه، إنه فقط يهاجم جهةً، ويلتحق بجهة.