01 نوفمبر 2024
غياب المهنية العسكرية ونفسية الهزيمة
في مواصلة لتفكيك عقلية الهزيمة ونفسيتها، فإن الوقوف على آثار هزيمة يونيو/ حزيران 1967 واستمرارها وتشكلها ضمن أشكال عدة، وعلى الرغم مما يمثل بعض هؤلاء من شرف العسكرية فيعرفون للمهنية العسكرية حقها، وللاعتبارات الميدانية أصولها، ويحدّدون معنى العدو والخصم بدقة، فحينما يتداخل السياسي والعسكري في اختلاط عشوائي، فغالبا ما يكون الاهتمام بالمهنية في حدّه الأدنى، والاحترافية في الأداء العسكري في أدنى أحواله وحالاته.
في خلاصةٍ مهمةٍ، أكّدتها بحوث عدة بشأن تلك الهزيمة، تم توريط القوات المسلحة المصرية في معركةٍ غير متكافئة، محسومة نتائجها سلفًا، ضد آلة قتل محترفة لمجرّد الرغبة في الانتصار في صراع الإرادة بين جناحي السلطة (أو بعبارة أخرى الصراع بين الأجهزة الأمنية التابعة للجيش والأجهزة الأمنية التابعة للرئاسة)، لتنتهي هذه السلطة بجناحيها معًا إلى هزيمةٍ تاريخيةٍ، غيرت من الخريطة السياسية والجغرافية لدول المنطقة حتى يومنا هذا، وذلك كله يدلل على أن التدهور المهني للمؤسسة العسكرية من جانب، وفشل نهوض دولة التحرّر العربية من جانب آخر، كان نتيجة مباشرة لتغييب الديمقراطية والتداخل بين المجالين، السياسي والعسكري.
ماذا نقصد إذا بالمهنية العسكرية؟ وفق الأدبيات المختلفة التي تدرس هذه العلاقة المدنية العسكرية، فإن عنوان المهنية يمكن أن يشير إلى ثلاثة أمور على الأقل؛ الأول ما يتعلق بطبيعة دور الجيش في الدولة، باعتباره جيشاً مهنياً يقوم على وظائفه الأساسية التي تتعلق بالدفاع عن حدود الدولة والقيام على تأمين حدودها ومقدّراتها وأمنها القومي. الثاني: ما يتطلب ذلك من تسليح وتدريب بما يحقق أقصى كفاءة ممكنة لهذا الجيش، للنهوض بأدواره ووظائفه الجوهرية. الثالث: ضرورة الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يؤدي إلى انحراف تلك الأدوار والوظائف، أو الانحراف في القيام بكل ما من شأنه أن ينال من كفاءته في الأداء.
تتأكد هذه الأمور الثلاثة ضمن بيئةٍ من التمثل والامتثال، تمثل الوظيفة والامتثال لهرم السلطة
فتكون للقيادة السياسية اليد العليا في بناء الاستراتيجيات، والتشاور بشأن القرارات التي تتعلق بالسلام والحرب. يعني ذلك ضمن ما يعني ثلاثة أمور: الجيش من مؤسسات الدولة، له أدوار منوطة به. على الجيش ألّا يتدخل أو ينخرط في مساحات السياسة أو ساحات الاقتصاد. القرارات التي تتعلق بالعمليات تختلف عن التي تتعلق بالسياسات.
في ضوء هذه المعاني جميعا التي أكدنا عليها، في إشارات وتنبيهات، في مطلوبات ومحظورات، فإننا أمام إشكالية مهمة لتفسير حالة الهزيمة في عام 1967. بين مقدمات الهزيمة ووقائع الهزيمة ذاتها وبين ما تبعها من عمليات لبناء الجيش والمهمة الأساسية بإزالة آثار العدوان، وصولا إلى حرب لمحاولة نسخ الهزيمة بنصر عسكري، تمثل في حروب الاستنزاف وحرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، إلى اتفاقات كامب ديفيد، وهو ما يشير إلى العلاقة بين الهزيمتين، العسكرية والسياسية، وامتداد هذه الخطوط لتشكل ما سمّيناها عقلية الهزيمة، بل يمكننا أن نمد الخط على استقامته إلى ما وصل إليه الجيش من الانخراط في ساحات الاقتصاد، والانخراط في ساحة السياسة، والتي وصلت إلى ذروتها بعد ثورة 25 يناير إلى صورة الانقلاب العسكري الذي شكّل أعلى درجات الهزيمة للمؤسسة وللدور ولتصور الجيش وقادتهم بهذه المؤسسة وأدوارها.
تسلسل الأحداث في المشاهد المختلفة التي شكلها انقلاب يوليو الأول في 1952 انتهت بانقلاب يوليو الثاني في 2017. بين الانقلابين، كانت عقلية العسكر وذهنية الهزيمة الذي تحكم بالأداء بعيداً عن المهنية والاحترافية، والانخراط في صراع سياسي وصدام أجنحةٍ حول مساحات النفوذ والسلطة. تمثلت هذه العقلية في عدة أمور في غاية الخطورة، لا نستغرب من بعدها خطابا في حال الهزيمة أو النصر أو في حال الثورة ليشكل هذا الخطاب، ويجمع فيما بينه ناظم واحد جامع بين مهنية الجيش وتآكلها وحضوره في مساحاتٍ ليست له، ما ينال من حالة مؤسسيته، ومن قواعد الجدارة والاستحقاق، ومن كفاءة الأداء والإنجاز.
من هذه التأشيرات ما يتعلق بثقافة السمع والطاعة التي لا تفرّق فيها بعض القيادات بين السمع والطاعة، باعتبارها آلية تسير الجيوش في الحروب، والقيام بالمهام وبين تعامله وتصورهم لحالة المجتمعات في هذا المقام، وبدا لفظ منتشر على ألسنة العسكرية "احترم البدلة"، انتقلنا من ذلك الأول الذي يتعلق بالسمع والطاعة إلى رغبة عسكريين إلى أن يتحول المجتمع محكوما بعلاقتها إلى معسكر، فيما سمي بعد ذلك بعسكرة المجتمع.
أما بشأن باب المحاسبة، فقد صدر إلى العقل العام أن قادة العسكر لا يُسألون ولا يراقبون ولا يُحاسبون، خطاياهم أخطاء صغيرة، حتى لو هزموا، فلا حساب أو محاسبة، وذلك ضمن قاعدة من أمن العقوبة أساء الفعل، ولم يحقق الفاعلية، خطاب التحصين للمؤسسة وقادتها ابتداء من مبدأ من انتقد الجيش فقد خان إلى حال تصدير خطاب أن المعركة مستمرة، والخطر وجودي "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ويتوافق مع هذا الخطاب خطابٌ حول نحن من بنينا الدولة، وحرّرنا الشعب وقمنا بالثورة. وكذلك فمن عناصر هذه العقلية أن يتحدّثوا عن دور سياسي متخفٍ للجيش، في إطار ما سموها "حماية الشرعية"، وهو ما تطور بعد ذلك إلى عقلية الشرعية المسلحة.
خطاب يتعلق بموقف عقلية العسكر من الشعب والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي مواقف
تتخذ موقف الضد من الأفكار التي تتعلق بإرادة الشعب وحريته، حتى لو صدرت عنها في خطابها أفكار تتعلق بإرادة الشعوب، فإنها تتحدث أن الشعب هو الخالد والقائد والمعلم، خطاب الغطاء يغطي، في جوهره، على حالةٍ من الفاشية العسكرية الكامنة، والتي ظهرت في الحديث عن المجالين، المدني والعام.
وتستند عقلية العسكر إلى نظرية المؤامرة، كان ذلك واضحا عند تفسيرهم "نكسة 67" كما زعموا، وحروب الأجيال المتعددة التي برزت على لسان قادة العسكر بعد الانقلاب. إذا عقلية العسكر تدور على مقولاتٍ عدة، حتى لو هزمنا فلا حساب، وإذا انتصرنا انتقلنا من فوق الحساب إلى فوق الرقاب، وحماية المصالح الاقتصادية هي عرقهم، والمدني غير مسموح له بالتمدّد ما دام يصادم مصالحهم، فإن تصادما فعسكرة المجتمع أولى.
ستظل هذه المؤشرات، في شواهدها الكثيرة، تؤكد أننا أمام عقليةٍ احترفت التبرير والتمرير، لا تقبل النقد، ولا تعترف بدورٍ إلا لها، عملها محاط بالعصمة، ورسم صورة المنقذ والمخلص من المشكلات والأزمات، صورة ينسجها إعلام الشؤون المعنوية والتعبئة العامة، انقلاب الثالث من يوليو لقطع الطريق على مسار ديمقراطي كان بحق أعلى مراحل نفسية الهزيمة والاستهتار بالمهنية والاحترافية، وخط أسوأ صفحة في باب العلاقات المدنية العسكرية.
في خلاصةٍ مهمةٍ، أكّدتها بحوث عدة بشأن تلك الهزيمة، تم توريط القوات المسلحة المصرية في معركةٍ غير متكافئة، محسومة نتائجها سلفًا، ضد آلة قتل محترفة لمجرّد الرغبة في الانتصار في صراع الإرادة بين جناحي السلطة (أو بعبارة أخرى الصراع بين الأجهزة الأمنية التابعة للجيش والأجهزة الأمنية التابعة للرئاسة)، لتنتهي هذه السلطة بجناحيها معًا إلى هزيمةٍ تاريخيةٍ، غيرت من الخريطة السياسية والجغرافية لدول المنطقة حتى يومنا هذا، وذلك كله يدلل على أن التدهور المهني للمؤسسة العسكرية من جانب، وفشل نهوض دولة التحرّر العربية من جانب آخر، كان نتيجة مباشرة لتغييب الديمقراطية والتداخل بين المجالين، السياسي والعسكري.
ماذا نقصد إذا بالمهنية العسكرية؟ وفق الأدبيات المختلفة التي تدرس هذه العلاقة المدنية العسكرية، فإن عنوان المهنية يمكن أن يشير إلى ثلاثة أمور على الأقل؛ الأول ما يتعلق بطبيعة دور الجيش في الدولة، باعتباره جيشاً مهنياً يقوم على وظائفه الأساسية التي تتعلق بالدفاع عن حدود الدولة والقيام على تأمين حدودها ومقدّراتها وأمنها القومي. الثاني: ما يتطلب ذلك من تسليح وتدريب بما يحقق أقصى كفاءة ممكنة لهذا الجيش، للنهوض بأدواره ووظائفه الجوهرية. الثالث: ضرورة الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يؤدي إلى انحراف تلك الأدوار والوظائف، أو الانحراف في القيام بكل ما من شأنه أن ينال من كفاءته في الأداء.
تتأكد هذه الأمور الثلاثة ضمن بيئةٍ من التمثل والامتثال، تمثل الوظيفة والامتثال لهرم السلطة
في ضوء هذه المعاني جميعا التي أكدنا عليها، في إشارات وتنبيهات، في مطلوبات ومحظورات، فإننا أمام إشكالية مهمة لتفسير حالة الهزيمة في عام 1967. بين مقدمات الهزيمة ووقائع الهزيمة ذاتها وبين ما تبعها من عمليات لبناء الجيش والمهمة الأساسية بإزالة آثار العدوان، وصولا إلى حرب لمحاولة نسخ الهزيمة بنصر عسكري، تمثل في حروب الاستنزاف وحرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، إلى اتفاقات كامب ديفيد، وهو ما يشير إلى العلاقة بين الهزيمتين، العسكرية والسياسية، وامتداد هذه الخطوط لتشكل ما سمّيناها عقلية الهزيمة، بل يمكننا أن نمد الخط على استقامته إلى ما وصل إليه الجيش من الانخراط في ساحات الاقتصاد، والانخراط في ساحة السياسة، والتي وصلت إلى ذروتها بعد ثورة 25 يناير إلى صورة الانقلاب العسكري الذي شكّل أعلى درجات الهزيمة للمؤسسة وللدور ولتصور الجيش وقادتهم بهذه المؤسسة وأدوارها.
تسلسل الأحداث في المشاهد المختلفة التي شكلها انقلاب يوليو الأول في 1952 انتهت بانقلاب يوليو الثاني في 2017. بين الانقلابين، كانت عقلية العسكر وذهنية الهزيمة الذي تحكم بالأداء بعيداً عن المهنية والاحترافية، والانخراط في صراع سياسي وصدام أجنحةٍ حول مساحات النفوذ والسلطة. تمثلت هذه العقلية في عدة أمور في غاية الخطورة، لا نستغرب من بعدها خطابا في حال الهزيمة أو النصر أو في حال الثورة ليشكل هذا الخطاب، ويجمع فيما بينه ناظم واحد جامع بين مهنية الجيش وتآكلها وحضوره في مساحاتٍ ليست له، ما ينال من حالة مؤسسيته، ومن قواعد الجدارة والاستحقاق، ومن كفاءة الأداء والإنجاز.
من هذه التأشيرات ما يتعلق بثقافة السمع والطاعة التي لا تفرّق فيها بعض القيادات بين السمع والطاعة، باعتبارها آلية تسير الجيوش في الحروب، والقيام بالمهام وبين تعامله وتصورهم لحالة المجتمعات في هذا المقام، وبدا لفظ منتشر على ألسنة العسكرية "احترم البدلة"، انتقلنا من ذلك الأول الذي يتعلق بالسمع والطاعة إلى رغبة عسكريين إلى أن يتحول المجتمع محكوما بعلاقتها إلى معسكر، فيما سمي بعد ذلك بعسكرة المجتمع.
أما بشأن باب المحاسبة، فقد صدر إلى العقل العام أن قادة العسكر لا يُسألون ولا يراقبون ولا يُحاسبون، خطاياهم أخطاء صغيرة، حتى لو هزموا، فلا حساب أو محاسبة، وذلك ضمن قاعدة من أمن العقوبة أساء الفعل، ولم يحقق الفاعلية، خطاب التحصين للمؤسسة وقادتها ابتداء من مبدأ من انتقد الجيش فقد خان إلى حال تصدير خطاب أن المعركة مستمرة، والخطر وجودي "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ويتوافق مع هذا الخطاب خطابٌ حول نحن من بنينا الدولة، وحرّرنا الشعب وقمنا بالثورة. وكذلك فمن عناصر هذه العقلية أن يتحدّثوا عن دور سياسي متخفٍ للجيش، في إطار ما سموها "حماية الشرعية"، وهو ما تطور بعد ذلك إلى عقلية الشرعية المسلحة.
خطاب يتعلق بموقف عقلية العسكر من الشعب والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي مواقف
وتستند عقلية العسكر إلى نظرية المؤامرة، كان ذلك واضحا عند تفسيرهم "نكسة 67" كما زعموا، وحروب الأجيال المتعددة التي برزت على لسان قادة العسكر بعد الانقلاب. إذا عقلية العسكر تدور على مقولاتٍ عدة، حتى لو هزمنا فلا حساب، وإذا انتصرنا انتقلنا من فوق الحساب إلى فوق الرقاب، وحماية المصالح الاقتصادية هي عرقهم، والمدني غير مسموح له بالتمدّد ما دام يصادم مصالحهم، فإن تصادما فعسكرة المجتمع أولى.
ستظل هذه المؤشرات، في شواهدها الكثيرة، تؤكد أننا أمام عقليةٍ احترفت التبرير والتمرير، لا تقبل النقد، ولا تعترف بدورٍ إلا لها، عملها محاط بالعصمة، ورسم صورة المنقذ والمخلص من المشكلات والأزمات، صورة ينسجها إعلام الشؤون المعنوية والتعبئة العامة، انقلاب الثالث من يوليو لقطع الطريق على مسار ديمقراطي كان بحق أعلى مراحل نفسية الهزيمة والاستهتار بالمهنية والاحترافية، وخط أسوأ صفحة في باب العلاقات المدنية العسكرية.