21 سبتمبر 2024
فاتورة إصلاح مزعوم في مصر
بدأت السلطة في مصر برنامجا للتحرير الاقتصادي منذ 2014، يركّز بشكل أساسي على رفع الدعم عن أغلب السلع والخدمات، على أرضية فرض اقتصادي يستند على أن سبب الأزمة الاقتصادية الرئيسي هو مقدار الدعم الموجه للخدمات والأجور. وبناء على هذا التوصيف الذي يتجاهل الأسباب الحقيقية للأزمة، اتُخذت عدة قرارات تقشفية، ضمن برنامج الحكومة لاستكمال تطبيق سياسات التحرير الاقتصادي التي عمّقها حسني مبارك في بداية التسعينيات، وإن كان مبارك قد رحل، فإن سياسته الاقتصادية باقية، وتم استدعاؤها لتطبق بوتيرة أسرع من عصر مبارك. وقد كانت قرارات الغلاء أخيرا ضمن سياسات التحرير الاقتصادي وشروط مؤسسات الإقراض التي خربتها اقتصاديات عديدة في العالم. وقد شملت القرارات رفع أسعار شرائح الكهرباء بنسب تتراوح بين 13 و43%، وأسعار المحروقات ما بين 43 و100%. وبهذه الزيادة، ارتفعت أسعار المحروقات خلال ثلاثة أعوام، بنسب تجاوز بعضها 300%. وأثّر ذلك، بجانب قرارات تعويم الجنيه وزيادة الجمارك وفرض الضريبة المضافة، في تصاعد نسب التضخم لتزيد عن 30%، حسب الأرقام الرسمية للبنك المركزي. لم تكتف الحكومة بتلك القرارات، بل تخطط مستقبلا لرفع دعم الطاقة خلال عامين،
ويتضح من مجمل ما يتم تطبيقه، وما يخطط له من قرارات اقتصادية، أن الدولة تتبنى سياسة اقتصادية، تعتمد على زيادة الموارد المالية، عبر فرض الضرائب المباشرة والضرائب غير المباشرة، كرفع أسعار السلع والطاقة والخدمات. وهنا تتضح أزمة هذه الرؤية وانحيازاتها، فالدولة تريد زيادة مواردها من جيوب الأغلبية العظمى من الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، ولا تتبنى توجها ضريبيا عادلا ينطلق من ضرورة أن لا تُفقر الفقراء أكثر، وأن يكون العبء الضريبي متناسبا مع مقدار الدخل والثروة، بحيث تفرض الدولة ضرائب على الأرباح الرأسمالية والثروات، كما تفرضها الدول الأوروبية مثلا على الشركات، حسب مقدار ربحها، وعلى الأفراد حسب مستوى دخلهم، وأن تلغي الدولة دعم الطاقة الذي تستهلكه المصانع الكبرى، ومن خلال فرق السعر تدعم الفقراء. ويمكن في إطار تحليل السياسات الاقتصادية وعلاقتها برفع الأسعار ذكر عدة نقاط أساسية.
أولا: قرارات رفع أسعار الطاقة والخدمات مكوّن رئيسي لرؤية الدولة لحل الأزمة الاقتصادية التي تقوم على أربعة أعمدة أساسية: التقشف، وفرض الضرائب، وبيع الأصول، وانسحاب الدولة من دعم الخدمات. وبهذه الكيفية، تتحول الدولة إلى هيئة جبائية تبيع الخدمات للمواطنين، كالشركات الخاصة، وتصبح مسألة تقديم الخدمة إطارا للتربّح. وهنا تفقد الدولة دورها الاجتماعي، وهو ما يمكن أن نسميه، إن جاز التعبير، "موت الدولة اجتماعياً".
ثانيا: السياسة الاقتصادية المطبقة حاليا تتصف بالانحياز إلى الفئات الرأسمالية الكبيرة، وتظلم ملايين المفقرين ذوي الدخول المنخفضة، وتعرّضهم لمزيد من المعاناة، والتي تصل إلى حد عدم القدرة على توفير الاحتياجات الأساسية، بسبب رفع الأسعار، ويتحمّل المواطنون الفقراء قرارات التقشّف، ورفع الدعم، في الوقت الذي ترفض فيه الدولة فرض ضرائب على أرباح الشركات، وأصحاب الدخول الضخمة، بحيث تتناسب الضريبة مع الثروة، بل توفر الدولة للمستثمرين حوافز تضمن استدامة أنشطتهم، وتراكم أرباحهم عبر ما تسمّى تسهيلات الاستثمار. وبهذا، يصبح التقشف للفقراء والحوافز والتسهيلات للمستثمرين.
ثالثا: أزمة الموازنة جزء من الأزمة الاقتصادية، وعرَضٌ لمرض أساسي، هو طبيعة الاقتصاد غير المنتج، والتركيز على معالجة أزمة الموازنة عبر التقشف، من دون الاهتمام بدفع
رابعا: كل ارتفاع في أسعار الطاقة يعنى ارتفاعا في السلع، يتأثر به بدرجة أكبر أصحاب الدخول المنخفضة، وكذلك تؤثر الزيادات في تراجع القوة الشرائية، ما يخلّف زيادة الركود، والذي بدوره يؤثر مستقبلا على نسب التشغيل، ويرفع معدلات الفقر. وهذا كله ينذر بتصاعد حدة الأزمة الاجتماعية، وما يتبعها من تفسّخ المجتمع وزيادة مظاهر الحرمان، وتفشّي الأمراض الاجتماعية كالجريمة، وربما ينذر هذا الوضع بانفجاراتٍ اجتماعية غير محسوبة، وازدياد معدلات العنف الفردي والجماعي، تجلياً للأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
خامسا: لا تختلف كل نتائج برنامج التحرير الاقتصادي المطبقة في مصر في قسوتها عن البرامج التي سبق تطبيقها في دول أخرى، هي نفسها النتائج التي جنتها الشعوب التي طبقت حكوماتها التقشّف، ورضخت لشروط المؤسسات المالية الدولية، ارتفاع نسب الفقر والبطالة والحرمان الاقتصادي. لعل الإيجابي الوحيد هو احتمالية وقوف مكونات المجتمع وقواه الاجتماعية والسياسية، لتفكر في نتائج هذا المسار الاقتصادي القاسي الذي اختارت السلطة تطبيقه، ومصرّة على السير فيه حتى الآن، وتحاول إصلاح ما أفسدته تلك السياسات.