05 نوفمبر 2024
الداعشية "صناعة وطنية"
يُمسك التقرير الذي أعدّه الصديق والزميل محمد فضيلات في "العربي الجديد" عن اجتماع أهالي المعتقلين الجهاديين في الأردن، وما ادّعوه من قصص ووقائع مرعبة عن تعذيب منهجي في السجون الأمنية بحق أبنائهم المعتلقين، ويصل عددهم إلى المئات، يمسك بـ"القطبة المخفية"، في صعود الداعشية والتطرّف في العالم العربي عموماً، وتتمثل بسياسات الاعتقال والتعذيب والسجون.
تاريخياً، كانت الولادة الواقعية الحقيقية للتطرّف في العالم العربي من رحم السجون المصرية والتعذيب الذي شهده الآلاف هناك، ما أدى إلى بروز أفكار تكفير الأنظمة، وصولاً إلى "تكفير المجتمعات" المسلمة نفسها، كما حدث مع شكري مصطفى و"جماعة المسلمين".
لم تتغيّر الحال، فما زالت السجون والمعتقلات تفرّخ أفكار التطرّف ومشاعر الانتقام، وتمثّل مجالاً حيوياً للتجنيد والدعاية، خصوصا في المهاجع التي يتم زجّ كل من يشتبه بميوله المتطرّفة فيها، وقد سبق أن شاركتُ وزير الداخلية الأردنية الأسبق، حسين المجالي، في كتابة ورقة عن موضوع مكافحة التطرّف، وأشرنا فيها إلى أنّ زجّ أعداد كبيرة من الشباب بتهمة التطرّف والإرهاب، وجعلهم في حزمةٍ واحدة، هو بمثابة "خدمة توصيل" Delivery تقدّمها الحكومات إلى تلك الجماعات.
بالعودة إلى تقرير محمد فضيلات، ومعه تقارير أخرى تناولت ادّعاءاتٍ بالتعذيب وسوء المعاملة، وتحدّثت عن حملة كبيرة من الاعتقالات، وصلت إلى ما يزيد على ألف شاب، بعد أحداث الكرك الإرهابية في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وما تزال نسبة كبيرة منهم محتجزة من دون وجود قضايا "صلبة"، يتم الاستناد عليها في محاكمتهم.
القضية جدلية، وهناك تغاضٍ ملحوظ عن حملات الاعتقالات، وتجاهل لادعاءات التعذيب، بسبب الخشية المجتمعية من التنامي الملحوظ للفكر الداعشي خلال الأعوام الماضية. ولأنّه لا يوجد عموماً تعاطفٌ مع حملة هذا الفكر في الأوساط السياسية والإعلامية، لم نلحظ أي اهتمام داخلي بلقاء أهالي المعتقلين، بقدر ما قرأنا عنه في وسائل إعلام عربية.
في المقابل، من الضروري التفريق بين أمرين: التعاطف مع هذا التيار، وعدم القبول بشرعنة التعذيب والتجاوز في الاعتقالات والتعدّي على حقوق هؤلاء الشباب. وهنا، تحديداً الحلقة المفقودة في السياسات العربية، إذ لو كان هنالك دور حيوي وفعّال للمجتمع المدني، أو سُمح له بهذا الدور، ولم تحتكره الأجهزة الأمنية، لأمكن إيجاد خطواتٍ متدرجةٍ وبدائل ووسائل متعدّدة للتعامل مع المشتبه بهم، والمظنونين، والتمييز بين الحالات المختلفة، بحسب التأثر والتأثير بهذا الفكر، لا أن يتم زجّهم في خانة واحدة، أو ينالهم تعذيبٌ وتعدّ على حقوق الإنسان، ما يؤدي إلى تعزيز الاتجاه المتطرّف وتقويته، لا العكس.
يؤدّي التعذيب إلى ردود فعل لدى الأهالي والعائلات، وتعاطف مع أبنائهم، ويزيد من دوائر الغضب والرغبة في الانتقام، لتتجاوز الأفراد إلى الشبكات الاجتماعية المحيطة بهم، ما يؤدي، كما أشرنا تكراراً، إلى الانتقال من الداعشية الفردية إلى الداعشية الأسرية، أي النساء والأطفال، وهي حالةٌ بدت واضحةً قبل أعوام في السعودية، ويسير الأردن اليوم على الدرب نفسها، إذ تم اعتقال قرابة سبع نساء، والتحقيق مع عشراتٍ النساء للمرة الأولى بتهمة الداعشية.
الخشية من الداعشية وفكرها وأفرادها مشروعة ومبرّرة في أي مجتمع، واتخاذ الإجراءات الاحترازية أيضاً مشروع، ومعاقبة الإرهابيين واعتقال الخطيرين لا جدال فيه. لكنّ من المهم أن نتذكّر دائماً أنّ الداعشية صناعاتٌ وطنيةٌ وعربية، نمت في أجواء الشعور بغياب الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان.
شكلت تلك الأحوال التربة المناسبة لصعود مشاعر التطرّف واصطيادها أعداداً من الشباب العربي، ولغياب الآفاق الحقيقية في التعبيرات السلمية لدى الشباب الذين يجدون أنفسهم في ظروفٍ سياسية قهرية بلا خيارات، ما يفسّر أنّ نسبة كبيرة من الداعشيين هم من الشباب، ومن طلاب الجامعات، كما تشير إلى ذلك وقائع المؤتمر الصحافي لأهالي المعتقلين الأردنيين، وأغلبهم من الشباب، ونسبة كبيرة منهم من طلاب الجامعات، ومن الطبقة الوسطى.
لا بديل عن قيام مقاربات مدنية وإنسانية وأخلاقية وقانونية، لتتضافر مع المقاربة الأمنية في العالم العربي لمواجهة الداعشية. من دون ذلك، لن تكون السجون مراكز إصلاح وتأهيل، وهو الاسم الذي تحمله، بل مراكز لتفريخ المتشدّدين والمتطرّفين.