07 نوفمبر 2024
بوتين الإمبراطور المؤقت لسورية
لم تُعجب إسرائيل باتفاق خفض التوتر الذي أبرمته القوى المعنية بسورية في جنوب غرب سورية في السابع من يوليو/ تموز الماضي، والذي ضمنت تنفيذه الشرطة العسكرية الروسية. فهو برأيها لا يبعد كفاية مليشيات إيران عن حدودها، ويحدّ من "مجالها الحيوي"، ومن حق تقريرها في شؤون سورية. حاولت مع الولايات المتحدة إنتزاع شيء ما، لكنها لم تفلح، ففهمت، واتجهت نحو موسكو، فكانت الزيارة السادسة لنتنياهو إلى روسيا قبل أيام، ولقائه بالرئيس فلاديمير بوتين، حيث ظفرت بالسماح لها، وهي في خضمّ مناوراتها العسكرية، بالقيام بضربة جوية، تتجنّب الصدام المباشر مع الروس، المسيطرين على هذا الجو. فكانت الضربة، في 7 سبتمبر/ أيلول الجاري، على موقع حكومي سوري بالقرب من مصياف في محافظة حماه، وهو مركز بحوث علمية لصناعة السلاح الكيميائي. لذلك ربما، لم ينبسْ الروس ببنت شفة. صمتوا وكأنهم يردّدون لأنفسهم، مع بشار الأسد، بأنهم سوف يرّدون "في المكان والزمان المناسبَين". وذلك خلافاً للطيران التركي، مثلاً، الذي فرض عليه الروس، وعلناً، حظراً جوياً، تحت طائلة العقوبات، منذ انخراطهم رسمياً في الحرب السورية في خريف 2015. أو العكس، الضربة الأميركية على مطار الشعيرات السوري في إبريل/ نيسان الماضي، وكان بليغاً صمت أبو الهول الروسي عليها.
اعتراف إسرائيل بقيامها بالغارة، وتعليق قادتها وإعلامييها أنهم يستهدفون موقعاً "حكومياً"، وكونها رسالة مفادها بأن إسرائيل لن تتردّد في زعزعة "الهدنة السورية"، وأن الضربة منعطف يتميز عن الضربات المائة السابقة ضد شاحنات حزب الله... وغيرها من توضيحات القادة العسكريين الإسرائيليين، كلها تكشف عن مشيئة إسرائيلية معلنة: إسرائيل تعتبر نفسها
ليست أقل من غيرها من القوى الخائضة للحروب والهدَن في سورية. لم تكن تتمنى سقوط بشار، لكنها أيضاً لم تكن ترغب باقتراب منافسيها، عناصر الحرس الثوري الإيراني، والمليشيات التابعة له، إلى حدودها الجنوبية. وهي تتصور أن مسافة العشرين كلم التي حدّدتها الهدنة لإبعاد هذه القوات ليست كافية. تريدها أكبر. وحصلت منذ يومين على ضعفها، أي أربعين كلم. أي أن إسرائيل مثل غيرها ممن يتهافتون على سورية، تريد لنفسها حصة في قرارها. لا تركيا، ولا إيران، ولا دول الخليج، ولا أميركا، يستحقون ما لا تستحقه إسرائيل. وهي لم تقصد بشار "المنتصر"، إنما اتجهت علناً إلى روسيا، سلّمت لها بسيطرتها على الميدان، مطمئنة إلى اعترافها بإسرائيل منذ تأسيسها، إلى المليون روسي إسرائيلي مقيم في إسرائيل، وإلى حسابات روسيا الحكيمة في كيفية الموازنة بين مختلف الأطراف التي يسيل لعابها على الدمار السوري.
نحن أيضاً، أبناء هذه المنطقة، مثلما نجافي إسرائيل، لا نريد مليشيات إيرانية تعبث دماراً وتمزيقاً في نسيجنا. هل يعني ذلك أننا نتعامل مع العدو؟ أو أننا مطبِّعون؟ أو خونة، ناكرو الانتصارات الساطعة لمحور الممانعة؟ هل يعني ذلك أن الضربة الإسرائيلية قبل أيام، وما سبقها من ضربات، دليل على صحة الموقف الممانع؟ على أساس المعادلة البسيطة القائلة إن الوقوف ضد الطموحات الإيرانية هو تآخٍ مع إسرائيل؟
مثل الروس، سكت "الممانعون" أيضاً عن الضربة، لكن إعلامهم أطلق العنان لثرثراته المعهودة. فعدنا معه إلى الأسطوانة المكسورة إيّاها: الضربة الإسرائيلية أثبتت بالملموس انتصار هذا المحور. والدليل، المعلوم أيضاً، أن العدو يستهدفه. والموازنة البسيطة الأخرى: إذا ضربتنا إسرائيل فهذا دليل على صحة وطنيتنا. ممانع هزلي أخذ على إسرائيل استخدامها "القوة" في محاولاتها تلبية تطلعاتها الاستراتيجية هذه.. وكأن أسلحة محوره كانت ترمي السوريين بالورود! من بشار إلى بوتين إلى إيران ومليشياتها، إلى "داعش" والتحالف الدولي الذي "يحاربه"... جميعهم شمّروا عن سواعدهم في المقْتلة السورية.
الإيرانيون بالذات، برعوا في توجيه مليشياتهم، بحيث أنهم تمكّنوا من إيجاد ممرّ برّي يصل طهران بالعراق وسورية ولبنان، فباتوا يتنقلون بين هذه البلدان من دون تأشيرة دخول. متسبّبين بمفارقة تكشف "نجاح" استعمالهم للقضية الفلسطينية التي لم يعودوا في حاجة إليها. فهذا الممرّ البرّي، وهو من وجوه "الانتصار" الإيراني، يسمح للإيراني بالتجول بحرية في كل هذه البلدان، لكنه يمنعه عن الفلسطيني، وعن عرب آخرين. أكثر من ذلك: في الوقت الذي يصرخ المحور الإيراني بانتصاراته التي بناها على أكتاف فلسطين، تتراجع قضيتها حثيثاً نحو الكوارث الفادحة: مزيد من الضم لأراضي الضفة الغربية والقدس (تقرير الصليب الأحمر الدولي الذي يبدو أكثر اهتماماً بالقضية ممن أهلكوها "انتصارات"). مزيد من الاستحالة لإنجاز أضعف الإيمان، أي حل الدولتين. مزيد من التراجع في أوضاع الفلسطينيين الحياتية، في إسرائيل وسورية ولبنان.. وربما في أنحاء أخرى من المعمورة.
تشي الضربة الإسرائيلية بأن الزمن الممانع صار مفوّتاً، وبأن عليه أن يغيّر خطابه المعلن، على الأقل، حفاظاً على رصانة مناصريه، خصوصاً الإعلاميين منهم. يمكنهم أن يكفّوا عن أنفسهم شرّ الشيخوخة الفكرية بأن ينظروا جيداً إلى المشهد السوري: الروس في سورية هم المسيطرون عسكرياً، ودبلوماسياً. الأميركيون، الأقوى عسكرياً من الروس، متذبذبون، لا يعوّل عليهم؛ ضعفهم أو تقهقرهم، أو إنشدادهم نحو مراكز اهتمام أخرى، أو ارتباك إدارتهم الجديدة، برئيس أهوج، أعصابه تسبق عقله.. ولكن مع ذلك يملكون، هم أيضاً، قوى في السماء وعلى الأرض، بالتنسيق مع الروس، أو تلزيمهم سورية... كل هذا ترك فراغاً "قيادياً" ملأه الروس
على أفضل الوجوه. سلاح الإيرانيين أقل من سلاح الروس، لكنهم أكثر وجوداً على الأرض. اتفاقية حلب في الشتاء الماضي ثبّتت أقدامهم على الأرض. حاول الروس التفرّد بتنفيذها بإخراج المسلحين منها، فعطلته المليشيات الإيرانية؛ وفهم الروس الدرس. ولكن هناك أيضاً تركيا، في الشمال. ودول الخليج لدى بعض الفصائل المبعثرة. ولدى جميعهم أجندات غير سورية: الأكراد، ولقاء الروس وتركيا وإيران ضدهم، ثم لا... ضد أميركا، صديقة الأكراد غير المضمونة.. إلخ.
تعترف إسرائيل بالهيمنة الروسية، لا تريد مزاحمتها، لكنها تريد حصتها. وهي لا تستطيع أن تحصل عليها، حتى اللحظة، إلا بالقوة المضبوطة: القوة تحت السماء الروسية. هذا ما يمنح روسيا منزلة سياسية جديدة، سوف تمكّنها من "التوسط" بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ تماماً كما كان يفعل الأميركيون في الأيام الخوالي.
أما التعويل على "بوتين صديق الشعوب المقهورة"، فهو أيضاً من زمن آخر... بوتين يضبط سورية بحساباتٍ تبدو حتى الآن صائبة، هي حسابات الأباطرة المسيطرين على رقع شاسعة من أراضٍ يتزاحم عليها ذئاب، أقل منهم جبروتاً، متعطشين لفراغها. نقول "حتى الآن"... لأن "النصر" الذي أبقى بشار الأسد على عرشه لا يصنع استقراراً، أو سلاماً. ربما يصنع ملوكاً مؤقتين، مثل إيران ومليشياتها، مثل بشار، مثل سياسيي لبنان الزاحفين إلى موسكو.. وجميعهم "ينسّق" مع بوتين، إمبراطور سورية المؤقت.
اعتراف إسرائيل بقيامها بالغارة، وتعليق قادتها وإعلامييها أنهم يستهدفون موقعاً "حكومياً"، وكونها رسالة مفادها بأن إسرائيل لن تتردّد في زعزعة "الهدنة السورية"، وأن الضربة منعطف يتميز عن الضربات المائة السابقة ضد شاحنات حزب الله... وغيرها من توضيحات القادة العسكريين الإسرائيليين، كلها تكشف عن مشيئة إسرائيلية معلنة: إسرائيل تعتبر نفسها
نحن أيضاً، أبناء هذه المنطقة، مثلما نجافي إسرائيل، لا نريد مليشيات إيرانية تعبث دماراً وتمزيقاً في نسيجنا. هل يعني ذلك أننا نتعامل مع العدو؟ أو أننا مطبِّعون؟ أو خونة، ناكرو الانتصارات الساطعة لمحور الممانعة؟ هل يعني ذلك أن الضربة الإسرائيلية قبل أيام، وما سبقها من ضربات، دليل على صحة الموقف الممانع؟ على أساس المعادلة البسيطة القائلة إن الوقوف ضد الطموحات الإيرانية هو تآخٍ مع إسرائيل؟
مثل الروس، سكت "الممانعون" أيضاً عن الضربة، لكن إعلامهم أطلق العنان لثرثراته المعهودة. فعدنا معه إلى الأسطوانة المكسورة إيّاها: الضربة الإسرائيلية أثبتت بالملموس انتصار هذا المحور. والدليل، المعلوم أيضاً، أن العدو يستهدفه. والموازنة البسيطة الأخرى: إذا ضربتنا إسرائيل فهذا دليل على صحة وطنيتنا. ممانع هزلي أخذ على إسرائيل استخدامها "القوة" في محاولاتها تلبية تطلعاتها الاستراتيجية هذه.. وكأن أسلحة محوره كانت ترمي السوريين بالورود! من بشار إلى بوتين إلى إيران ومليشياتها، إلى "داعش" والتحالف الدولي الذي "يحاربه"... جميعهم شمّروا عن سواعدهم في المقْتلة السورية.
الإيرانيون بالذات، برعوا في توجيه مليشياتهم، بحيث أنهم تمكّنوا من إيجاد ممرّ برّي يصل طهران بالعراق وسورية ولبنان، فباتوا يتنقلون بين هذه البلدان من دون تأشيرة دخول. متسبّبين بمفارقة تكشف "نجاح" استعمالهم للقضية الفلسطينية التي لم يعودوا في حاجة إليها. فهذا الممرّ البرّي، وهو من وجوه "الانتصار" الإيراني، يسمح للإيراني بالتجول بحرية في كل هذه البلدان، لكنه يمنعه عن الفلسطيني، وعن عرب آخرين. أكثر من ذلك: في الوقت الذي يصرخ المحور الإيراني بانتصاراته التي بناها على أكتاف فلسطين، تتراجع قضيتها حثيثاً نحو الكوارث الفادحة: مزيد من الضم لأراضي الضفة الغربية والقدس (تقرير الصليب الأحمر الدولي الذي يبدو أكثر اهتماماً بالقضية ممن أهلكوها "انتصارات"). مزيد من الاستحالة لإنجاز أضعف الإيمان، أي حل الدولتين. مزيد من التراجع في أوضاع الفلسطينيين الحياتية، في إسرائيل وسورية ولبنان.. وربما في أنحاء أخرى من المعمورة.
تشي الضربة الإسرائيلية بأن الزمن الممانع صار مفوّتاً، وبأن عليه أن يغيّر خطابه المعلن، على الأقل، حفاظاً على رصانة مناصريه، خصوصاً الإعلاميين منهم. يمكنهم أن يكفّوا عن أنفسهم شرّ الشيخوخة الفكرية بأن ينظروا جيداً إلى المشهد السوري: الروس في سورية هم المسيطرون عسكرياً، ودبلوماسياً. الأميركيون، الأقوى عسكرياً من الروس، متذبذبون، لا يعوّل عليهم؛ ضعفهم أو تقهقرهم، أو إنشدادهم نحو مراكز اهتمام أخرى، أو ارتباك إدارتهم الجديدة، برئيس أهوج، أعصابه تسبق عقله.. ولكن مع ذلك يملكون، هم أيضاً، قوى في السماء وعلى الأرض، بالتنسيق مع الروس، أو تلزيمهم سورية... كل هذا ترك فراغاً "قيادياً" ملأه الروس
تعترف إسرائيل بالهيمنة الروسية، لا تريد مزاحمتها، لكنها تريد حصتها. وهي لا تستطيع أن تحصل عليها، حتى اللحظة، إلا بالقوة المضبوطة: القوة تحت السماء الروسية. هذا ما يمنح روسيا منزلة سياسية جديدة، سوف تمكّنها من "التوسط" بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ تماماً كما كان يفعل الأميركيون في الأيام الخوالي.
أما التعويل على "بوتين صديق الشعوب المقهورة"، فهو أيضاً من زمن آخر... بوتين يضبط سورية بحساباتٍ تبدو حتى الآن صائبة، هي حسابات الأباطرة المسيطرين على رقع شاسعة من أراضٍ يتزاحم عليها ذئاب، أقل منهم جبروتاً، متعطشين لفراغها. نقول "حتى الآن"... لأن "النصر" الذي أبقى بشار الأسد على عرشه لا يصنع استقراراً، أو سلاماً. ربما يصنع ملوكاً مؤقتين، مثل إيران ومليشياتها، مثل بشار، مثل سياسيي لبنان الزاحفين إلى موسكو.. وجميعهم "ينسّق" مع بوتين، إمبراطور سورية المؤقت.