30 مايو 2019
من يحكم في الجزائر؟
الزواوي بغوره
جاء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم في الجزائر في العام 1999، وكان السؤال الذي يسكن القلوب والعقول: من يقتل من؟ وفي محاولة للإجابة عليه، قدم الرئيس مشروعا سياسيا اصطلح عليه "ميثاق المصالحة الوطنية". ومع أنه لم يهتم بالإجابة عن سؤال الحقيقة والعدل، إلا أن المشروع أسهم في تراجع حالة "الحرب الأهلية"، وفي استعادة متدرجة للأمن والسلم المدنيين، مستفيدا من العوائد البترولية الاستثنائية. لكن الرئيس الذي كان يخطب في الجماهير، في عهدته الأولى، بأنه إما أن يكون رئيسا بكامل الصلاحيات أو لا يكون، موجها خطابه لخصومه داخل النظام وخارجه، ومتنقلا من ولايةٍ إلى أخرى، ومن بلد إلى بلد، شارحا مشروعه السياسي، أصيب، في عهدته الثالثة، بمرضٍ لم يشف منه بعد.
وبإصرار منه، أو من حاشيته، أو من أنصاره، أو من المستفيدين من سياسته، أو منهم جميعا، ترشح بوتفليقة لعهدة رابعة، على الرغم من حالته الصحية العليلة، بعد أن عدل الدستور الذي يسمح بعهدتين لا غير. ومع أنه لم يدل، ولو بكلمة واحدة، خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة، وهو أمر فريد في تاريخ الديمقراطيات الغربية والشرقية، إلا أنه فاز في تلك الانتخابات التي تتقن السلطة الحاكمة في الجزائر فنونها وتقنياتها. لكن فرحة الفوز لم تدم طويلا، والسبب أن السؤال عمّن يحكم الجزائر، في ظل الوضع الصحي للرئيس، ما لبث يلاحق الرئيس وحاشيته وأنصاره. ولم تتردد تياراتٌ في المعارضة السياسة في الإعلان عن حالة الشغور في الرئاسة، وضرورة تطبيق المادة 102 من الدستور.
تحضر هذه الحالة كلما يغيب الرئيس عن الظهور، أو يظهر بمظهر المتعب مع بعض زواره، أو يصدر قرارا من القرارات الرئاسية. والحق، أن السؤال الذي لا يتردّد أي جزائري، أو متابع للوضع في الجزائر، هو: من يحكم فعليا في ظل الوضع الصحي للرئيس؟ إذ يثبت العقل السليم، بما لا يدع مجالا للشك، أن الحالة الصحية للرئيس لا تسمح له بممارسة مهامه المنصوص عليها في الدستور، وبالتالي هناك من يطالب بتطبيق المادة 102 من الدستور بشأن مثل هذه الحالة. وقد يكون هذا الطرح مشروعا من الناحيتين، القانونية والأخلاقية، ومقبولا من الناحية السياسية، خصوصا في ظل نظام جمهوري ديمقراطي. ولكن ما أن نستحضر، في أذهاننا، طبيعة النظام السياسي القائم، وواقع المؤسسات التي يتكون منها النظام، حتى نعيد النظر في هذا التصور، ونطرح على أنفسنا سؤالا أوليا: هل يُتصور، على سبيل المثال، أن ينظر المجلس الدستوري في حالة الشغور و تطبيق المادة 102، وهو الذي اشرف على عملية قبول ترشيح الرئيس؟ وكيف يمكن لهذا المجلس أن يقدم على هذه الخطوة، ومعظم أعضائه، بمن فيهم رئيسه، عيّنهم الرئيس نفسه؟ الإجابة على السؤال معروفة، لذا يمكن القول إن الطرح الذي يشخص الأزمة في دور الأشخاص في صناعة السياسات يتغافل عن الأسس التي تقوم عليها النظم السياسية.
صحيح أن للأفراد دورا أساسيا في العملية السياسية، لكن ذلك يتوقف على طبيعة النظام الذي يعملون فيه. والحق، إذا ما اعتمدنا على حجة الأشخاص أو الحكام في تقرير السياسات، فإن الجزائر تستوفي هذه الحجة، ولو ظاهريا، لأنها عرفت ثمانية رؤساء منذ استقلالها: أحمد بن بلا، هواري بومدين، الشاذلي بن جديد، محمد بوضياف، علي كافي، محمد الأمين زروال، وعبد العزيز بوتفليقة. ولا شك في أن هذا العدد كبير مقارنة بسنوات الاستقلال التي لا تزيد كثيرا عن خمسين سنة، أي منذ 1962. كما عرفت حكومات كثيرة بوزرائها وموظفيها، ومع ذلك، المؤكد أن الجزائر لا تزال تعاني من مختلف الأزمات، وفي مقدمها الأزمة السياسية ممثلة بأزمة الحكم وشرعيته. ولعل الانتخابات التشريعية أخيرا مثال على ذلك، بحيث يبدو الوضع الجزائري، في مجمله كأنه يدور في المكان نفسه، والجزائر لم تجد بعد وجهتها، ولم تتبين بعد طريقها في التنمية، فهل نفسر هذا بنوعية الأشخاص الذين حكموا الجزائر، أم بالنظام السياسي الذي فرض على البلاد منذ الاستقلال، ومنذ استيلاء جيش الحدود و"جماعة وجدة" على حكم الجزائر؟
الواقع أن الطبيعة التسلطية للنظام في الجزائر هي التي تجعل أزمة الحكم دائمة، لأنه يراهن على نوعٍ من التوافق بين أقطاب الحكم، ويقوم على تحييد المجتمع الجزائري، واستبعاده في اختيار مسؤوليه وحكامه، بل يمكن القول إنه يتصرف وكأنه وصيُّ على المجتمع الجزائري القاصر الذي لم يبلغ سن الرشد بعد. بل في الوسع أن يقال إن ذلك ليس تحقيقا لمقولة هيغل في الدولة، وإنما هو إقرار بالواقع، وهو أن النظام الجزائري يميل، مثل جميع النظم التسلطية، إلى صناعة المجتمع على هواه، وفقا لسياسات معلنة باسم العدالة الاجتماعية، لكنها في حقيقتها تكرّس الوصاية على المواطن، باسم السكن الاجتماعي، والصحة العامة، والتعليم المجاني، وغيرها من السياسات التي يتبعها.
وعليه، لا يؤدي السؤال عمّن يحكم الجزائر إلى الطرح الحقيقي للمسألة السياسية في البلاد، وإنما يؤدي إلى استمرار (وبقاء) نظام متسلط، لا يقدم للمجتمع إلا ما يصب في مصلحة هذا النظام، وفي استمرار حكمه، شاء الجزائريون ذلك أم رفضوا. وتعود هذه الحالة على الأقل إلى ثلاثة عوامل أساسية، أولها اقتصادي، ويتمثل في الثروة الطبيعية للبلاد التي مكّنت النظام من
الاستغناء عن المجتمع، والمزج بين السلطة والثروة، بحيث أصبح الفصل بينهما في غاية التعقيد، خصوصا في غياب سلطة قضائية مستقلة ونزيهة. و قد دل قرار إقالة حكومة الوزير الأول، عبد المجيد تبون، قبل أيام على ذلك، لأن السلطة أصبحت مدخلا إلى الثروة، والثروة ملازمة للسلطة، سواء بالحق أو بالباطل. وتكشف التطورات الحالية للوضعية الاقتصادية للبلاد ذلك بجلاء، فثمّة تحالف ظاهر ومعلن بين مسيّري الحكومة ورجال الأعمال، بل هناك من يرى أن رجال الأعمال يعملون على "اختطاف الحكم"، وأنهم بصدد تحضير سيناريو ما بعد الرئيس بوتفليقة، سواء بالتوريث أو بالتوافق على مرشح مقبول من العصب الحاكمة. ويظهر العامل الثاني في الاستغلال المفرط للنظام الإداري الموروث من العهد الاستعماري، والذي يسمح بتجيير إرادة المواطن الجزائري ومصادرتها، وفرض الأهداف التي ترسمها السلطة القائمة، بحيث أصبح تزوير الانتخابات ميزةً خاصة للنظام السياسي في الجزائر منذ الاستقلال. ويظهر العامل الثالث في الطابع التاريخي للسلطة الجزائرية التي لا تزال تعتمد على فكرة "الشرعية الثورية"، على الرغم من كل التحولات التي عرفها المجتمع الجزائري، بحيث أصبح تغيير هذه الذهنية ورجالاتها يتوقف، كما قال أحد ممثليها، على "الجانب البيولوجي".
وبناء عليه، تتجاوز أزمة الحكم في الجزائر فكرة استبدال شخص بشخص آخر، ما دام بمقدور أي حاكم قادم أن يفعل ما يشاء في ظل غياب المؤسسات السياسية الشرعية، والمعارضة القوية ذات الوزن المؤثر داخل المجتمع ومؤسسات الدولة، وفي ظل السلبية السياسية للمجتمع المدني، وتراجع الدور النقدي للنخب عموما، وللمثقفين تحديدا.
وبإصرار منه، أو من حاشيته، أو من أنصاره، أو من المستفيدين من سياسته، أو منهم جميعا، ترشح بوتفليقة لعهدة رابعة، على الرغم من حالته الصحية العليلة، بعد أن عدل الدستور الذي يسمح بعهدتين لا غير. ومع أنه لم يدل، ولو بكلمة واحدة، خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة، وهو أمر فريد في تاريخ الديمقراطيات الغربية والشرقية، إلا أنه فاز في تلك الانتخابات التي تتقن السلطة الحاكمة في الجزائر فنونها وتقنياتها. لكن فرحة الفوز لم تدم طويلا، والسبب أن السؤال عمّن يحكم الجزائر، في ظل الوضع الصحي للرئيس، ما لبث يلاحق الرئيس وحاشيته وأنصاره. ولم تتردد تياراتٌ في المعارضة السياسة في الإعلان عن حالة الشغور في الرئاسة، وضرورة تطبيق المادة 102 من الدستور.
تحضر هذه الحالة كلما يغيب الرئيس عن الظهور، أو يظهر بمظهر المتعب مع بعض زواره، أو يصدر قرارا من القرارات الرئاسية. والحق، أن السؤال الذي لا يتردّد أي جزائري، أو متابع للوضع في الجزائر، هو: من يحكم فعليا في ظل الوضع الصحي للرئيس؟ إذ يثبت العقل السليم، بما لا يدع مجالا للشك، أن الحالة الصحية للرئيس لا تسمح له بممارسة مهامه المنصوص عليها في الدستور، وبالتالي هناك من يطالب بتطبيق المادة 102 من الدستور بشأن مثل هذه الحالة. وقد يكون هذا الطرح مشروعا من الناحيتين، القانونية والأخلاقية، ومقبولا من الناحية السياسية، خصوصا في ظل نظام جمهوري ديمقراطي. ولكن ما أن نستحضر، في أذهاننا، طبيعة النظام السياسي القائم، وواقع المؤسسات التي يتكون منها النظام، حتى نعيد النظر في هذا التصور، ونطرح على أنفسنا سؤالا أوليا: هل يُتصور، على سبيل المثال، أن ينظر المجلس الدستوري في حالة الشغور و تطبيق المادة 102، وهو الذي اشرف على عملية قبول ترشيح الرئيس؟ وكيف يمكن لهذا المجلس أن يقدم على هذه الخطوة، ومعظم أعضائه، بمن فيهم رئيسه، عيّنهم الرئيس نفسه؟ الإجابة على السؤال معروفة، لذا يمكن القول إن الطرح الذي يشخص الأزمة في دور الأشخاص في صناعة السياسات يتغافل عن الأسس التي تقوم عليها النظم السياسية.
صحيح أن للأفراد دورا أساسيا في العملية السياسية، لكن ذلك يتوقف على طبيعة النظام الذي يعملون فيه. والحق، إذا ما اعتمدنا على حجة الأشخاص أو الحكام في تقرير السياسات، فإن الجزائر تستوفي هذه الحجة، ولو ظاهريا، لأنها عرفت ثمانية رؤساء منذ استقلالها: أحمد بن بلا، هواري بومدين، الشاذلي بن جديد، محمد بوضياف، علي كافي، محمد الأمين زروال، وعبد العزيز بوتفليقة. ولا شك في أن هذا العدد كبير مقارنة بسنوات الاستقلال التي لا تزيد كثيرا عن خمسين سنة، أي منذ 1962. كما عرفت حكومات كثيرة بوزرائها وموظفيها، ومع ذلك، المؤكد أن الجزائر لا تزال تعاني من مختلف الأزمات، وفي مقدمها الأزمة السياسية ممثلة بأزمة الحكم وشرعيته. ولعل الانتخابات التشريعية أخيرا مثال على ذلك، بحيث يبدو الوضع الجزائري، في مجمله كأنه يدور في المكان نفسه، والجزائر لم تجد بعد وجهتها، ولم تتبين بعد طريقها في التنمية، فهل نفسر هذا بنوعية الأشخاص الذين حكموا الجزائر، أم بالنظام السياسي الذي فرض على البلاد منذ الاستقلال، ومنذ استيلاء جيش الحدود و"جماعة وجدة" على حكم الجزائر؟
الواقع أن الطبيعة التسلطية للنظام في الجزائر هي التي تجعل أزمة الحكم دائمة، لأنه يراهن على نوعٍ من التوافق بين أقطاب الحكم، ويقوم على تحييد المجتمع الجزائري، واستبعاده في اختيار مسؤوليه وحكامه، بل يمكن القول إنه يتصرف وكأنه وصيُّ على المجتمع الجزائري القاصر الذي لم يبلغ سن الرشد بعد. بل في الوسع أن يقال إن ذلك ليس تحقيقا لمقولة هيغل في الدولة، وإنما هو إقرار بالواقع، وهو أن النظام الجزائري يميل، مثل جميع النظم التسلطية، إلى صناعة المجتمع على هواه، وفقا لسياسات معلنة باسم العدالة الاجتماعية، لكنها في حقيقتها تكرّس الوصاية على المواطن، باسم السكن الاجتماعي، والصحة العامة، والتعليم المجاني، وغيرها من السياسات التي يتبعها.
وعليه، لا يؤدي السؤال عمّن يحكم الجزائر إلى الطرح الحقيقي للمسألة السياسية في البلاد، وإنما يؤدي إلى استمرار (وبقاء) نظام متسلط، لا يقدم للمجتمع إلا ما يصب في مصلحة هذا النظام، وفي استمرار حكمه، شاء الجزائريون ذلك أم رفضوا. وتعود هذه الحالة على الأقل إلى ثلاثة عوامل أساسية، أولها اقتصادي، ويتمثل في الثروة الطبيعية للبلاد التي مكّنت النظام من
وبناء عليه، تتجاوز أزمة الحكم في الجزائر فكرة استبدال شخص بشخص آخر، ما دام بمقدور أي حاكم قادم أن يفعل ما يشاء في ظل غياب المؤسسات السياسية الشرعية، والمعارضة القوية ذات الوزن المؤثر داخل المجتمع ومؤسسات الدولة، وفي ظل السلبية السياسية للمجتمع المدني، وتراجع الدور النقدي للنخب عموما، وللمثقفين تحديدا.