07 يوليو 2020
الموانئ للسيطرة على تجارة العالم
لا يمكن لأي دارس لعلم السياسة، أو حتى مهتم بدراسة العلاقات الدولية، إلا أن يُعرّج على النظريات الجيوبوليتيكية التي تهتم بدراسة تأثير الجغرافيا على التطورات السياسية للدول، وازدهرت في فترة الصراع بين القوى الدولية الكلاسيكية للسيطرة على العالم، حيث تميز الصراع بين قوى قارية برية، ألمانيا وروسيا، وقوى بحرية، فرنسا وبريطانيا وفي مرحلة لاحقة الولايات المتحدة الأميركية. ومن أهم نظريات الجيوبولتيك ما صاغه البريطاني هالفورد جون ماكندر، في نظرية عُرفت بنظرية قلب العالم، والافتراض الأساس الذي انطلقت منه أن من يتحكّم في شرق أوروبا يسيطر على قلب العالم، ومن يتحكّم في قلب العالم يسيطر على الجزيرة العالمية، مع الإشارة إلى أن جزيرة العالم هي قارتا أسيا وافريقيا، ومن يتحكم في الجزيرة العالمية يسيطر على العالم.
لكن، ماذا لو أن ماكندر قُدر له أن عاش في القرن الواحد والعشرين، وعاصر ثورة التقانة والاتصالات وحالة الترابط الاقتصادي بين دول العالم، بفضل العولمة الاقتصادية والثقافية، والتغير الجاري في دور الدولة ووظيفتها، واللذين بدآ يتراجعان لصالح شركات متعدّدة الجنسيات.
أعتقد أن الرجل سيضع جلّ اهتماماته البحثية والأكاديمية على خطوط التجارة العالمية، وأظنه سينطلق من افتراض جديد، مفاده أن من يسيطر على الموانئ التجارية الكبرى في العالم
يسيطر على التجارة الدولية، ومن يسيطر على التجارة الدولية يسيطر على العالم بقلبه وجزيرته. لأهمية الموانئ التجارية في عصرنا الحديث والتي باتت تتنافس عليها الدول، وتعمل ما في وسعها للاستثمار فيها، حيث تأسست شركات كبرى دولية لتجهيز الموانئ وإعدادها، لتكون صالحة للملاحة، وربطها بخطوط بحرية كبرى. أحدث هذا حالة تنافسية بين الدول على الاستثمار في الموانئ التجارية الكبرى، لما يعود عليها بمنافع اقتصادية من ناحية، وتوسع وسيطرة ونفوذ من ناحية أخرى.
بالاستعانة ببيانات أصدرها مجلس الشحن العالمي عام 2016، والذي اعتمد في التصنيف على معيار شحن البضائع في حاوياتٍ، يقدر حجمها بعشرين قدما، فإن أكبر الموانئ عالميًا في معظمها صينية، وهو ما يعطي صورة واضحة للدور الاقتصادي المتصاعد للصين، الباحثة عن دور ونفوذ سياسي أكبر في النظام الدولي، والموانئ هي ميناء شانغهاي، ميناء شنتشن، ميناء هونغ كونغ، ميناء نينغبو تشوشان، ميناء تشينغداو، ميناء قوانغتشو، ميناء تيانجين، بالإضافة إلى ميناء بوسان كوريا الجنوبية. وجاء عربيًا ميناء جيل علي في إمارة دبي الذي تديره شركة موانئ دبي التي تعتبر من أكبر مشغلي الموانئ البحرية في العالم. وهذا ما يدفعنا حقيقة إلى فهم سلوك الدول التي لها تصنيف عالمي في الاستثمار في الموانئ الدولية في محيطها الإقليمي، لا سيما أن تحليلات عديدة تفسّر سلوك دولة الإمارات في اليمن، من بوابة السيطرة على ميناء عدن ذي الأهمية الاستراتيجية في التجارة الدولية، والذي يعتبر من أهم الموانئ الطبيعية في العالم، وترى دوائر صنع القرار الإماراتية في الميناء تهديدا حقيقيا لمدينة دبي وتجارتها.
أوروبيا، يُعد ميناء أنكونا الإيطالي من أهم الموانئ التجارية في القارة الأوروبية، حيث يصل إليه أكثر من مليون راكب على العبارات والسفن السياحية، المتوجهة إلى الشواطئ الشرقية للبحر الأدرياتيكي، كرواتيا وألبانيا واليونان، وبحر إيجة كل عام. وقد نمت حركة الحاويات في السنوات الأخيرة، لتتجاوز 150 ألف حاوية سنويًا، وجذب جميع شركات النقل العالمية الكبرى في قطاع نقل الحاويات. ويعتبر ميناء أنكونا "بوابة إلى الشرق"، عبر نقل البضائع الأوروبية إلى منطقة الشرق الأوسط، ونقل الطاقة، ما يعطي إيطاليا ميزة نسبية في حركة التجارة العالمية. وفي ألمانيا ميناء هامبورغ الذي يعد ثاني أكبر ميناء في أوروبا، لقربه من بحر الشمال، وله تأثير كبير في حركة الملاحة والتجارة من الاتحاد الأوروبي وإليه.
خليجيًا، كشفت الأزمة الراهنة أهمية الموانئ التجارية، لتعزيز النفوذ الاقتصادي لدول المنطقة واستخدامها أوراق ضغط سياسي على دول أخرى، بعد قرار كل من الإمارات والبحرين
والسعودية إغلاق المنافذ البرية والبحرية، ومنع السفن من التوجه نحو ميناء حمد الدولي الذي يعتبر من أهم الموانئ التجارية في الخليج، الأمر الذي حدا بالشركة القطرية لإدارة الموانئ (موانئ قطر) إلى تدشين خطين ملاحيين جديدين بين ميناء حمد ومينائي صحار وصلالة في سلطنة عمان. كما عملت سلطنة عُمان على تدشين ميناء الدقم الذي سيكون له تأثير كبير في تطور التجارة الدولية، بهدف تشجيع الاستثمارات الخليجية والعالمية للعمل في عُمان. بالإضافة إلى افتتاح أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في 5 سبتمبر/ أيلول الحالي، ميناء حمد في منطقة الحول جنوب الدوحة الذي يعد من أحدث الموانئ في المنطقة وأكبرها. ومن المتوقع أن يستحوذ الميناء على ما نسبته 35% من تجارة منطقة الشرق الأوسط، ويحتوي على مشروع كبير لتخزين المواد الغذائية، ومخزون يسد احتياجات ثلاثة ملايين نسمة لعامين. ويوفر أكثر من 200% من احتياجات السوق المحلية، حيث يساهم الميناء في الحد من آثار الحصار المفروض على دولة قطر.
لعبت الموانئ البحرية دورًا فاعلا في تعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري للقوى الدولية الكلاسيكية في القرن العشرين. وكانت تقع في صلب استراتيجياتها العسكرية، لأهميتها في التجارة الدولية. واليوم وفي عالم متشابك ومتداخل، أصبحت فيه الشركات المتعددة الجنسيات ذات أهمية محورية في الاقتصاد العالمي، ترى في الموانئ البحرية العصب الأساسي للتجارة الدولية. والشركات التي تسيطر على أهم الموانئ تسيطر على التجارة الدولية، ومن يسيطر على التجارة الدولية يسيطر على الاقتصاد العالمي، ويكون قادرا على التأثير في السياسات الدولية، أو على أقل تقدير يمكنه الحد من آثار تلك السياسات في وقت الأزمات التي تفرض على الدول خياراتٍ جديدة، وتضعها أمام تحديات الاعتماد على الذات، في معركة البقاء والاستمرار في نظامٍ دولي سمته الأساسية الفوضى.
لكن، ماذا لو أن ماكندر قُدر له أن عاش في القرن الواحد والعشرين، وعاصر ثورة التقانة والاتصالات وحالة الترابط الاقتصادي بين دول العالم، بفضل العولمة الاقتصادية والثقافية، والتغير الجاري في دور الدولة ووظيفتها، واللذين بدآ يتراجعان لصالح شركات متعدّدة الجنسيات.
أعتقد أن الرجل سيضع جلّ اهتماماته البحثية والأكاديمية على خطوط التجارة العالمية، وأظنه سينطلق من افتراض جديد، مفاده أن من يسيطر على الموانئ التجارية الكبرى في العالم
بالاستعانة ببيانات أصدرها مجلس الشحن العالمي عام 2016، والذي اعتمد في التصنيف على معيار شحن البضائع في حاوياتٍ، يقدر حجمها بعشرين قدما، فإن أكبر الموانئ عالميًا في معظمها صينية، وهو ما يعطي صورة واضحة للدور الاقتصادي المتصاعد للصين، الباحثة عن دور ونفوذ سياسي أكبر في النظام الدولي، والموانئ هي ميناء شانغهاي، ميناء شنتشن، ميناء هونغ كونغ، ميناء نينغبو تشوشان، ميناء تشينغداو، ميناء قوانغتشو، ميناء تيانجين، بالإضافة إلى ميناء بوسان كوريا الجنوبية. وجاء عربيًا ميناء جيل علي في إمارة دبي الذي تديره شركة موانئ دبي التي تعتبر من أكبر مشغلي الموانئ البحرية في العالم. وهذا ما يدفعنا حقيقة إلى فهم سلوك الدول التي لها تصنيف عالمي في الاستثمار في الموانئ الدولية في محيطها الإقليمي، لا سيما أن تحليلات عديدة تفسّر سلوك دولة الإمارات في اليمن، من بوابة السيطرة على ميناء عدن ذي الأهمية الاستراتيجية في التجارة الدولية، والذي يعتبر من أهم الموانئ الطبيعية في العالم، وترى دوائر صنع القرار الإماراتية في الميناء تهديدا حقيقيا لمدينة دبي وتجارتها.
أوروبيا، يُعد ميناء أنكونا الإيطالي من أهم الموانئ التجارية في القارة الأوروبية، حيث يصل إليه أكثر من مليون راكب على العبارات والسفن السياحية، المتوجهة إلى الشواطئ الشرقية للبحر الأدرياتيكي، كرواتيا وألبانيا واليونان، وبحر إيجة كل عام. وقد نمت حركة الحاويات في السنوات الأخيرة، لتتجاوز 150 ألف حاوية سنويًا، وجذب جميع شركات النقل العالمية الكبرى في قطاع نقل الحاويات. ويعتبر ميناء أنكونا "بوابة إلى الشرق"، عبر نقل البضائع الأوروبية إلى منطقة الشرق الأوسط، ونقل الطاقة، ما يعطي إيطاليا ميزة نسبية في حركة التجارة العالمية. وفي ألمانيا ميناء هامبورغ الذي يعد ثاني أكبر ميناء في أوروبا، لقربه من بحر الشمال، وله تأثير كبير في حركة الملاحة والتجارة من الاتحاد الأوروبي وإليه.
خليجيًا، كشفت الأزمة الراهنة أهمية الموانئ التجارية، لتعزيز النفوذ الاقتصادي لدول المنطقة واستخدامها أوراق ضغط سياسي على دول أخرى، بعد قرار كل من الإمارات والبحرين
لعبت الموانئ البحرية دورًا فاعلا في تعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري للقوى الدولية الكلاسيكية في القرن العشرين. وكانت تقع في صلب استراتيجياتها العسكرية، لأهميتها في التجارة الدولية. واليوم وفي عالم متشابك ومتداخل، أصبحت فيه الشركات المتعددة الجنسيات ذات أهمية محورية في الاقتصاد العالمي، ترى في الموانئ البحرية العصب الأساسي للتجارة الدولية. والشركات التي تسيطر على أهم الموانئ تسيطر على التجارة الدولية، ومن يسيطر على التجارة الدولية يسيطر على الاقتصاد العالمي، ويكون قادرا على التأثير في السياسات الدولية، أو على أقل تقدير يمكنه الحد من آثار تلك السياسات في وقت الأزمات التي تفرض على الدول خياراتٍ جديدة، وتضعها أمام تحديات الاعتماد على الذات، في معركة البقاء والاستمرار في نظامٍ دولي سمته الأساسية الفوضى.