02 نوفمبر 2024
جنايات الحزب الواحد عربيّاً
لم يكن في مقدور الأنظمة الفردانية العربية أن تسود وتستمرّ تاريخياً، لولا وجود حزب حاكم يسندها، ويتولّى استقطاب الناس، وتوجيههم بطريقة ديماغوجية نحو القبول بهيمنة النظام القائم، والتشريع له على كيف ما. فالحزب الواحد يتلبّس بجميع أجهزة الدولة الحيوية، ويتمدّد داخلها ويسيطر على مراكز النفوذ فيها، ويتمتع بصلاحياتٍ كثيرة وامتيازات عديدة، ويشرف على تسييره أعضاء متفرّغون، يتقاضون أجورا خيالية مقابل أدوارهم في بثّ الوعي الزائف، المتمثّل أساسا في تلميع واجهة النظام وتسويق سياسات الدولة الشمولية، وتبرير ممارساتها القامعة. لذلك كان الحاكم العربي المعاصر سخيّا في الإنفاق على مؤسّسات الحزب الحاكم، ولا يرى حرجا في تمكينه من الأملاك العامّة، وإغداق الملايين على أنشطته في الداخل والخارج، وتأمين إفلاته من الرقابة والمساءلة والمحاسبة. وذلك راجعٌ إلى أنّ الرئيس يرى في الحزب الواحد حصنه المنيع، وأداته الطولى الضامنة لاستمرار مشروع استبلاه الجموع واحتكار السلطة، فبقاء الرئيس من بقاء الحزب، وتراجعه شعبيا ينعكس بالضرورة على كينونة الرئيس. من هنا، استجمع رئيس تونس الأسبق، الحبيب بورقيبة، مثَلاً، الناس تحت يافطة "الحزب الاشتراكي الدستوري"، باعتباره وريث الحركة الوطنية، ووظّفه لتغيير الدستور، وتمرير بدعة الحكم مدى الحياة، وجرى استخدام قواعد الحزب لتشويه المعارضين وتأليب النّاس على الحركات الاحتجاجية وعدّل زين العابدين بن علي اسم الحزب لاحقا ليصبح "التجمع الدستوري الديمقراطي"، إيهاما بالإصلاح والدمقرطة، واستمرّ في توظيف الآلة الحزبيّة للهيمنة على
الشأن العامّ وتكريس الحكم الفردي. وارتكن نظام الأسد إلى حزب "البعث" باعتباره إطارا مرجعيا لمشروع القومية العربية، وحلم الوحدة العربية ومناهضة إسرائيل. وتلوّن الحزب بلون عقائدي ايديولوجي مغلق، استخدمته الدولة "الأسدية" في إضفاء هالة من القداسة على النظام القائم مقابل إقصاء الآخر/ السياسي والتنكيل به. وتوسّل نظام حسني مبارك "الحزب الوطني"، لتأليف الناس حول الرئيس، وتأليبهم على خصومه، حتى كانت للحزب مليشيات تابعة له "ذات طابع بلطجي"، لا تتوانى في ترهيب المخالفين وشقّ صفوف المحتجّين على النّظام الحاكم . أمّا في اليمن، فركب علي عبد الله صالح حزب المؤتمر الشعبي العام، ليضمن بقاءه في الحكم وليستجمع القبائل من حوله، فخاض باسم الحزب معارك سياسية وحروبا أهلية طاحنة أربكت السلم الاجتماعي، واستنزفت مقدّرات البلاد، وفتحت الباب للتدخّل الأجنبي.
واستولت هذه الأحزاب الأحاديّة على الفضاء العمومي في الدول العربية عقودا، وأمسكت بمفاصل الإدارة، وبقنوات تشكيل الوعي الجمعي (وسائل الإعلام- المناهج الدراسية- دور الثقافة - الجمعيّات..) واستتبعت الجيش والشرطة (مصر/ سورية) لتبسط نفوذها على المشهد المجتمعي بشرائحه المختلفة، مُنتِجة حالة من التصحر السياسي الذي صادر حرية التفكير، ومتعة التعدد، ومارس الوصاية على عقول الناس سنين عددا. وفي المقابل، جرى الحجر على المعارضة، والتضييق عليها في تونس ومصر، وتم منع أي نشاط سياسي معارض للسلطة في سورية. فكانت الأحزاب الحاكمة تؤسس لذاتها عبر إقصاء الآخر، فشهدت دولة الأسد تصفية الإسلاميين في مذبحة حماة (1982)، وجدّ النظامان الحاكمان في تونس ومصر في التنكيل بالمعارضين الإسلاميين والقوميين، والليبراليين واليساريين، على نحو جعل البلاد بمثابة سجن كبير، تُصادر فيه الحريات، وتُكتم فيه الأصوات، ويمنع بين جدرانه التفكير، والتعبير، والتأثير.. وأنتجت تلك الحالة مشهدا سياسيا عربيا منمّطا، بائسا، أورث في قلوب الناس الإحساس بالملل، والسأم، والسّخط، وعجّل بقيام الثورات العربية سنة 2011.
وبعد سنوات من اندلاع الحراك الاحتجاجي العربي، مازالت تلك الأحزاب الأحاديّة، السلطوية،
التقليدية، تبذل جهدها لتتصدّر المشهد السياسي من جديد، فعلى الرغم مما اعتراها من تشتّت وكمون وهروب من المسؤولية إبّان الثورة، فإنّها استغلّت حالة التعثّر المشهودة في المراحل الانتقالية، لتعمل على إعادة إنتاج نفسها وتجميع هياكلها، مدّعية أنّها سفينة الخلاص، وأنّها تمتلك الحقيقة المطلقة والحلول النهائية لمشكلات الشارع العربي، موظّفة الآلة الإعلامية والمال الفاسد والعصبيات الجهوية والقبلية والطائفية، لتنفّر الناس من حدث الثورة، ولتعود بالتاريخ إلى الخلف. ومن المفارقات أنّ تلك الأحزاب لم تكلّف نفسها عناء القيام بمراجعة ذاتية نقدية لخلفيّاتها الأيديولوجية ومُنجَزها الحُكمي، ولم تصارح الناس بحدود مسؤوليتها في استدامة الاستبداد عربيّا. بل استمرّت في تمجيد الحقبة الدكتاتورية، وفي ترويج خطاب تشويه الثورة، كما رفضت مشروع العدالة الانتقالية والخضوع للمساءلة والمحاسبة، وهو ما يُخبر بأنّ تلك الأحزاب لم تغادر بعد جُبّة الكليانية، وما فتئت مسكونةً بهاجس ردّ المواطنين العرب إلى كنَف الدولة الشمولية القامعة.
لذلك، الحاجة أكيدة في سياق عربي إلى بلورة مشروع نقد علمي موضوعي، يفكّك منظومة حكم الحزب الواحد، ويكشف بناها وكيفيّات اشتغالها ومسؤوليتها الأخلاقية والعمليّة عن تخلّف المشهد السياسي العربي.
واستولت هذه الأحزاب الأحاديّة على الفضاء العمومي في الدول العربية عقودا، وأمسكت بمفاصل الإدارة، وبقنوات تشكيل الوعي الجمعي (وسائل الإعلام- المناهج الدراسية- دور الثقافة - الجمعيّات..) واستتبعت الجيش والشرطة (مصر/ سورية) لتبسط نفوذها على المشهد المجتمعي بشرائحه المختلفة، مُنتِجة حالة من التصحر السياسي الذي صادر حرية التفكير، ومتعة التعدد، ومارس الوصاية على عقول الناس سنين عددا. وفي المقابل، جرى الحجر على المعارضة، والتضييق عليها في تونس ومصر، وتم منع أي نشاط سياسي معارض للسلطة في سورية. فكانت الأحزاب الحاكمة تؤسس لذاتها عبر إقصاء الآخر، فشهدت دولة الأسد تصفية الإسلاميين في مذبحة حماة (1982)، وجدّ النظامان الحاكمان في تونس ومصر في التنكيل بالمعارضين الإسلاميين والقوميين، والليبراليين واليساريين، على نحو جعل البلاد بمثابة سجن كبير، تُصادر فيه الحريات، وتُكتم فيه الأصوات، ويمنع بين جدرانه التفكير، والتعبير، والتأثير.. وأنتجت تلك الحالة مشهدا سياسيا عربيا منمّطا، بائسا، أورث في قلوب الناس الإحساس بالملل، والسأم، والسّخط، وعجّل بقيام الثورات العربية سنة 2011.
وبعد سنوات من اندلاع الحراك الاحتجاجي العربي، مازالت تلك الأحزاب الأحاديّة، السلطوية،
لذلك، الحاجة أكيدة في سياق عربي إلى بلورة مشروع نقد علمي موضوعي، يفكّك منظومة حكم الحزب الواحد، ويكشف بناها وكيفيّات اشتغالها ومسؤوليتها الأخلاقية والعمليّة عن تخلّف المشهد السياسي العربي.