06 نوفمبر 2024
يحدث في غوطة الشام
يبدو أننا بحاجة للذهاب إلى دوستويفسكي، ليكون حكما فيصلا بيننا وبين كتّابٍ وسياسيين يتنازعون الرأي في ما جرى ويجري في غوطة الشام، إذ يجزم دوستويفسكي بأن دمعة صغيرة لطفل بريء تظل أكبر قيمةً من أي حربٍ أو أي ثورة، وفي مواجهتها تسقط كل المبرّرات والأعذار. نحيل هذا الحكم إلى الذين يكابرون، ولا يريدون رؤية ما يجري بالعين المجرّدة، والمجرّدة عن الهوى. لكن باستطاعتهم أن يحسبوا عدد الأطفال الذين استشهدوا على أرض الغوطة، ومقادير الدموع المنسابة من عيونهم، وهم يودعون أهلهم وأحباءهم. هذا وحده فقط يكفي لتوجيه الإدانة للذين أغرقوا سورية بالدم، أو كانوا السبب في ذلك، ففي سبعة أيام فقط لك أن تحسب أكثر من خمسمئة مدني سقطوا جرّاء القصف بمواد حارقة، بينهم 123 طفلا، كما أصيب أكثر من 2500. هنا الأرقام تعطي دلالاتها، فهي في غوطة دمشق ليست مجرد أرقام، إنها نساء وأطفال وشباب وشيوخ، وحكايات ممزوجة بالدمع والدم. لك أيضا أن تستعيد ما قاله المدير الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، خيرت كابالاري، أن ليس ثمة كلمات في وسعها أن تصف الأطفال القتلى، وأمهاتهم وآباءهم وأحباءهم. ولك أيضا أن تضع عينيك على مئات الصور التي سجلتها الصحافة، والفضائيات العالمية، ومواقع التواصل، كي تكتشف حجم الدموع التي ذرفت، وقبل ذلك كمية الدماء التي أريقت!
لك أيضا أن تتعرّف على حجم الدمار الذي عانته المدينة، بعد تعرّض عشرات المساكن والمشافي ومراكز الإسعاف الطبي والأسواق والمخابز، وكل وسائل العيش المادية إلى القصف المتواصل. وبحسب ما وثقته الصور وتقارير شهود العيان، فإن قدرا غاشما اختزل مساحة المدينة التي بلغت، في غابر الأيام، مئات الكيلومترات إلى حد العشرات، وأن سكانها الذين وصلت أعدادهم، زمانا مضى، إلى مليونين ومئتي ألف، لا يتجاوز عددهم اليوم الأربعمئة ألف، إذ فعلت حروب المدينة فعلها فيهم، وأخرجت مئات الألوف منهم عن الخدمة. ويمكنك أن تكتشف كيف يعيش هؤلاء الذين فضلوا البقاء في المدينة على النزوح خارجها، من خلال ما ثبتته المنظمات العالمية عن الحال. يقول برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة إن غوطة دمشق تعاني من كارثة إنسانية، ثمّة نقص حاد في المواد الغذائية الأساسية والأدوية، إلى درجة أن بعضهم كان يبحث عن الطعام في أكياس القمامة، وقد يتعرّض إلى فقدان الوعي بسبب الجوع، وإن أسرا فقيرة تجبر أطفالها على التناوب على تناول وجبات الطعام.
كل هذا الذي حدث ويحدث في غوطة الشام لم يستنفر شعورا بالتعاطف لدى عديد من أعضاء
مجلس الأمن الذين تأخر على أيديهم إصدار قرار وقف إطلاق نار مؤقت، يلتقط عبره الضحايا أنفاسهم، ويحصل الجياع على ما يقيم أودهم، ولو إلى حين. لكن عندما تدبر الطرفان، الأميركي والروسي، أمرهما، وأمن كل منهما لنفسه موطئ قدم في ما يمكن أن يستجدّ من مساوماتٍ وتسوياتٍ في إطار صراع النفوذ وتقاسم المصالح، صدر القرار اليتيم الذي لا يحمل دلائل الاستمرارية والصمود، وسارعت إيران لتؤكد أنها هي وسورية ستواصلان ضرب المجموعات "الإرهابية"، وأن القرار لا يعني التوقف عن ذلك. وهكذا عادت غارات الطائرات وراجمات الصواريخ إلى الفعل، وجرت محاولة توغل بري في المدينة، وقالت مراسلة "سي إن إن" إنها شاهدت آباء وأمهات يقبلون أطفالهم، لأنهم قد لا يرونهم أحياء مرة أخرى.
هذا يعني أن حرب الغوطة لن تنتهي، وأن الصراع على سورية سيتواصل فصولا، ترجح ذلك عوامل عدة، فنظام دمشق يعاني من الارتباك، ولا يبدو قادرا على بلورة دورٍ له، بعد ما تآكلت شرعيته، ودخل في لعبة الدم مع معارضيه الذين هم أيضا يعانون من الارتباك، ومعظمهم مرتهنون لقوى خارجية، تفقدهم إمكانية توحيد رؤاهم وأطرهم التنظيمية، فيما تسعى القوى الدولية الفاعلة في الساحة إلى الحصول على مواقع قوة على أرضٍ مفتوحةٍ في كل الاتجاهات، وهي تناور وتحاور، إلى حين أن يكون في مقدورها تشكيل الخريطة الإقليمية على النحو الذي تراه. في الوقت نفسه، يسعى كل من القطبين الإقليميين، تركيا وإيران، إلى إحراز مكاسب تخدم مشروعه الخاص، في إطار استعادة مجد أمبراطوري غابر، أما الدول العربية فقد باتت خارج الحساب، بعد أن تفرقت أيدي سبأ، ولم تعد في وارد التأثير، لا هنا ولا هناك.
لك أيضا أن تتعرّف على حجم الدمار الذي عانته المدينة، بعد تعرّض عشرات المساكن والمشافي ومراكز الإسعاف الطبي والأسواق والمخابز، وكل وسائل العيش المادية إلى القصف المتواصل. وبحسب ما وثقته الصور وتقارير شهود العيان، فإن قدرا غاشما اختزل مساحة المدينة التي بلغت، في غابر الأيام، مئات الكيلومترات إلى حد العشرات، وأن سكانها الذين وصلت أعدادهم، زمانا مضى، إلى مليونين ومئتي ألف، لا يتجاوز عددهم اليوم الأربعمئة ألف، إذ فعلت حروب المدينة فعلها فيهم، وأخرجت مئات الألوف منهم عن الخدمة. ويمكنك أن تكتشف كيف يعيش هؤلاء الذين فضلوا البقاء في المدينة على النزوح خارجها، من خلال ما ثبتته المنظمات العالمية عن الحال. يقول برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة إن غوطة دمشق تعاني من كارثة إنسانية، ثمّة نقص حاد في المواد الغذائية الأساسية والأدوية، إلى درجة أن بعضهم كان يبحث عن الطعام في أكياس القمامة، وقد يتعرّض إلى فقدان الوعي بسبب الجوع، وإن أسرا فقيرة تجبر أطفالها على التناوب على تناول وجبات الطعام.
كل هذا الذي حدث ويحدث في غوطة الشام لم يستنفر شعورا بالتعاطف لدى عديد من أعضاء
هذا يعني أن حرب الغوطة لن تنتهي، وأن الصراع على سورية سيتواصل فصولا، ترجح ذلك عوامل عدة، فنظام دمشق يعاني من الارتباك، ولا يبدو قادرا على بلورة دورٍ له، بعد ما تآكلت شرعيته، ودخل في لعبة الدم مع معارضيه الذين هم أيضا يعانون من الارتباك، ومعظمهم مرتهنون لقوى خارجية، تفقدهم إمكانية توحيد رؤاهم وأطرهم التنظيمية، فيما تسعى القوى الدولية الفاعلة في الساحة إلى الحصول على مواقع قوة على أرضٍ مفتوحةٍ في كل الاتجاهات، وهي تناور وتحاور، إلى حين أن يكون في مقدورها تشكيل الخريطة الإقليمية على النحو الذي تراه. في الوقت نفسه، يسعى كل من القطبين الإقليميين، تركيا وإيران، إلى إحراز مكاسب تخدم مشروعه الخاص، في إطار استعادة مجد أمبراطوري غابر، أما الدول العربية فقد باتت خارج الحساب، بعد أن تفرقت أيدي سبأ، ولم تعد في وارد التأثير، لا هنا ولا هناك.