09 نوفمبر 2024
الجزائر إلى أين؟
كل شيء في الجزائر هو نفسه، التسيير نفسه بالمكانيزمات نفسها لتوليد الأزمات نفسها، وصولا إلى إدامة الاستعصاء. فجواتٌ بعضها فوق بعض، فجواتٌ في إدراك المواطنة، التغيير، الشفافية في التسيير، الحرية، الكرامة، حقوق الإنسان. تأخّرنا تصنعه فجوات. وصلنا بها إلى حدود "الجنون" في المحاجّة بالعبث. الجزائر أفضل من السويد. الجزائر أفضل من نيويورك. مستشفياتنا أفضل من مستشفيات أوروبا بل وأميركا. تحريم الحُرقة (الهجرة غير الشرعية بقوارب الموت في اللهجة المحلية المغاربية)، إنه العبث في درجاته القصوى.
في الوقت نفسه، هناك الحقيقة في تقرير دولي بمعايير لا يمكن التلاعب بها، خسارة الجزائر مركزين في ترتيب أفضل الدول الذي نشره موقع «us news» يوم 23 يناير/ كانون الثاني 2018، لتحتل بذلك المرتبة 80 والأخيرة، اعتمادا على معايير عديدة، منها ريادة الأعمال ونسبة المخاطر، المواطنية في المجتمع، بالإضافة إلى التأثير الثقافي والعادات والتقاليد في المجتمع وغيرها. وجاءت الجزائر في ذيل الترتيب بعيدةً عن عشر دول عربية، بعد الإمارات (23)، وقطر (35)، والسعودية (37)، ومصر (42)، والمغرب (47)، والبحرين (61)، وتونس (65) وعمان (73)، ولبنان (75).
هذا مؤشر على الوضع الحالي في الجزائر الذي يتصف بأزماتٍ متلاحقةٍ، يصمت عنها النظام، ولا يقترح لها حلا، بل يتمادى في معاملتها بازدراء. أطباء، جنود متقاعدون وأساتذة في طور التكوين (التأهيل) في الجامعة، جميعهم في غليان يرتفع صوته، ولا يصل إلى صانعي القرارات، خصوصا أن هؤلاء، وحدهم، هم عينة فقط، وديكور المشهد ينتهي بعشرات الجثث التي تنتشل بعد غرقها في البحر الذي حاول أصحابها الهروب، من خلاله، بقوارب الموت، إلى ضفة النجاة. إنه الانتحار المجتمعي.
لماذا وصلت الجزائر إلى هذا الوضع؟ وإلى أين تسير؟ وهل من مصغٍ لتلك الأصوات؟ أسئلة يردّدها المجتمع المدني ولا مجيب، لأن الكل إما غارقون في تشبيهات جنونية كالتي وردت أعلاه من القول إن الجزائر، تارة، كما السويد، وتارة أخرى، أفضل من نيويورك، أو غارقون في التفكير في أجندات سياسية للانتخابات الرئاسية في 2019، المحسومة بمقدماتٍ عوينت في المشاهد الانتخابية السابقة، وبمنظومة قانونية تضمن تحضيرا، تنظيما، ترشيحا، ثم إعلان نتائج، على المقاس، وبدون تزوير. حقّا، إذ لا مشاركة ولا عزوف، بل ولا اهتمام بمصير، آني، ولا مسار مستقبليا لبلادٍ أريد ويراد لها الجمود.
لماذا تغلي الجبهة الاجتماعية؟ سؤال سارعت بعض وسائل الإعلام إلى طرحه على فئات رفعت لواء الاعتصامات، الاحتجاجات والمسيرات، وكان الجواب صادما للكل. إنه الجمود التام وعلى الأصعدة كافة. لا تفكير جادّا في إصلاح الأمور، ولا تفكير جادّا في تغيير السياسات العامة التي تحكم تسيير الموارد البشرية.
كيف يعقل أن يتكوّن (يتأهل) طبيب مدة 12 سنة (من طور التّكوين القاعدي إلى التخصّص) ثم يلزم بإجراء خدمة مدنية (سنتان) ثم عسكرية (المدة نفسها) من دون مخرج لتغيير تلك الإلزامية إلى إمكانية مساعدة على الاستعانة بتلك الخبرات الشابة في بناء منظومةٍ صحيةٍ تكاد تكون منهارة تماما، على المستويات كافة. كيف يعقل أن يقال إن القطاع التربوي يحتاج آلافا من الأساتذة، ثم لا يستعان بمن تكوّنهم مدارس عليا جامعية، بل وتتخذ قرارات، إما بنقلهم بعيدا عن مقار إقاماتهم عند التعيين، أو برفض إلزامية التعيين المباشر بعد التخرّج من الجامعة؟
كيف يعقل أن يُضرِب من، بالأمس، كان درعا لحماية الدولة والمؤسسات في فترة العشرية الحمراء العصيبة في تسعينيات القرن الماضي؟ العسكريون المتقاعدون، والمعاد استدعاؤهم من جنود الخدمة العسكرية وضباطها، وكان ممكنا التفكير في التفاوض معهم وتسجيل أعمالهم في قمة تضحيات قدمت لتبقى البلاد واقفةً، ثم تعطى لهم حقوقهم وفق القوانين المعمول بها؟
هذه أسئلة صادرة من انشغالات فئات اجتماعية أخرى، لم يرفع لها صوت، لكنها تعاني في صمت، وتبرز مطالبها عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تعد بالنسبة لكثيرين منهم وسيلة تنفيس عن الإحباط. وهناك من يجاول الانتحار، أو يختار مغامرة الحياة و/أو الموت في قوارب الهجرة نحو الشمال المحفوفة بالمخاطر، السجن، القتل، الموت غرقا.
قد يقول قائل إن الجزائر في أزمة مالية وضائقة، بسبب انهيار أسعار النفط، وقد يتحجّج آخر بأنها استثمرت كثيرا لتعويض سنوات الجمر في تسعينيات القرن الماضي. يمكن الرد بكل اتزان وثقة على شقي الملاحظة بأن التسيير لا يتم إلا من خلال سياسة عامة، كتب صاحب هذه السطور، في أكثر من مقالة في "العربي الجديد"، إنها سياسة تعتمد على الكفاءات وعلى مراحل الدراسة، التقييم، التقويم ثم الاستشراف للمستقبل، وهي المراحل التي لا يبدو، البتة، أنها كانت المنطلق في تسيير البلاد في الفترة التالية عن توقف الإرهاب والقلاقل الأمنية.
انهيار الأسعار في سوق النفط العالمية سبقته تحذيرات من المختصين الذين دعوا إلى جلسات استشارة واسعة لإعطاء البلاد دفعة المشروع التسييري نحو اكتساب أدوات القوة الدائمة، ومنها الاستثمار في الزراعة والطاقة البديلة (مشروع عرضته ألمانيا وكان سيدر على البلاد مداخيل
مستقرة ولعقود باستغلال الطاقة الشمسية) في الصحراء الجنوبية الشرقية. هل استمع أحد إلى ذلك؟ هل استشير أهل الاختصاص من كفاءات جزائرية في ذلك؟ الجواب، بكل أسف: لا، بل استمر النظام في التعامل مع الأسعار على أنها فرصة لإدامة الريع.. وبعدها، قد نفكر في غير ذلك. أما عن الشق الثاني من الملاحظة، فالجواب أنه لا يمكن إغفال حجم الاستثمارات، ولا حجم التغيير، وخصوصا في البنية التحتية، بيد أن ذلك تم بعيدا عن بقية أضلع العملية التسييرية الناجعة، أي الإنسان وأبعاده: التكوين، الصحة، التربية، الكرامة و الحقوق.. إنها المواطنة، بكل بساطة.
وما زال السؤال نفسه مطروحا: إلى أين؟ ما زال الطموح والمرجو والمأمول حوارا أو، على الأقل، أذنا صاغية لمطلب التغيير في كل شيء، وعلى الأصعدة كافة. إنه الجمود في عالم تتسارع فيه وتيرة التقدم الافتراضي والواقعي، على حد سواء. وقد علق واحدٌ في "فيسبوك" على إعلان وزيرة البريد وتكنولوجيا الاتصال، هدى فرعون، عن قرب إطلاق الجزائر خدمة الإنترنت عالي التدفق، إن الجزائريين يريدون بلدا يسير بوتيرة العقل، يُعالجون فيه بطب حقيقي، يجذبهم للعيش فيه، ولا يدفعهم إلى الهروب منه، "ثم وفروا لنا إنترنت بتدفق يليق بوتيرة حياتنا".
في الوقت نفسه، هناك الحقيقة في تقرير دولي بمعايير لا يمكن التلاعب بها، خسارة الجزائر مركزين في ترتيب أفضل الدول الذي نشره موقع «us news» يوم 23 يناير/ كانون الثاني 2018، لتحتل بذلك المرتبة 80 والأخيرة، اعتمادا على معايير عديدة، منها ريادة الأعمال ونسبة المخاطر، المواطنية في المجتمع، بالإضافة إلى التأثير الثقافي والعادات والتقاليد في المجتمع وغيرها. وجاءت الجزائر في ذيل الترتيب بعيدةً عن عشر دول عربية، بعد الإمارات (23)، وقطر (35)، والسعودية (37)، ومصر (42)، والمغرب (47)، والبحرين (61)، وتونس (65) وعمان (73)، ولبنان (75).
هذا مؤشر على الوضع الحالي في الجزائر الذي يتصف بأزماتٍ متلاحقةٍ، يصمت عنها النظام، ولا يقترح لها حلا، بل يتمادى في معاملتها بازدراء. أطباء، جنود متقاعدون وأساتذة في طور التكوين (التأهيل) في الجامعة، جميعهم في غليان يرتفع صوته، ولا يصل إلى صانعي القرارات، خصوصا أن هؤلاء، وحدهم، هم عينة فقط، وديكور المشهد ينتهي بعشرات الجثث التي تنتشل بعد غرقها في البحر الذي حاول أصحابها الهروب، من خلاله، بقوارب الموت، إلى ضفة النجاة. إنه الانتحار المجتمعي.
لماذا وصلت الجزائر إلى هذا الوضع؟ وإلى أين تسير؟ وهل من مصغٍ لتلك الأصوات؟ أسئلة يردّدها المجتمع المدني ولا مجيب، لأن الكل إما غارقون في تشبيهات جنونية كالتي وردت أعلاه من القول إن الجزائر، تارة، كما السويد، وتارة أخرى، أفضل من نيويورك، أو غارقون في التفكير في أجندات سياسية للانتخابات الرئاسية في 2019، المحسومة بمقدماتٍ عوينت في المشاهد الانتخابية السابقة، وبمنظومة قانونية تضمن تحضيرا، تنظيما، ترشيحا، ثم إعلان نتائج، على المقاس، وبدون تزوير. حقّا، إذ لا مشاركة ولا عزوف، بل ولا اهتمام بمصير، آني، ولا مسار مستقبليا لبلادٍ أريد ويراد لها الجمود.
لماذا تغلي الجبهة الاجتماعية؟ سؤال سارعت بعض وسائل الإعلام إلى طرحه على فئات رفعت لواء الاعتصامات، الاحتجاجات والمسيرات، وكان الجواب صادما للكل. إنه الجمود التام وعلى الأصعدة كافة. لا تفكير جادّا في إصلاح الأمور، ولا تفكير جادّا في تغيير السياسات العامة التي تحكم تسيير الموارد البشرية.
كيف يعقل أن يتكوّن (يتأهل) طبيب مدة 12 سنة (من طور التّكوين القاعدي إلى التخصّص) ثم يلزم بإجراء خدمة مدنية (سنتان) ثم عسكرية (المدة نفسها) من دون مخرج لتغيير تلك الإلزامية إلى إمكانية مساعدة على الاستعانة بتلك الخبرات الشابة في بناء منظومةٍ صحيةٍ تكاد تكون منهارة تماما، على المستويات كافة. كيف يعقل أن يقال إن القطاع التربوي يحتاج آلافا من الأساتذة، ثم لا يستعان بمن تكوّنهم مدارس عليا جامعية، بل وتتخذ قرارات، إما بنقلهم بعيدا عن مقار إقاماتهم عند التعيين، أو برفض إلزامية التعيين المباشر بعد التخرّج من الجامعة؟
كيف يعقل أن يُضرِب من، بالأمس، كان درعا لحماية الدولة والمؤسسات في فترة العشرية الحمراء العصيبة في تسعينيات القرن الماضي؟ العسكريون المتقاعدون، والمعاد استدعاؤهم من جنود الخدمة العسكرية وضباطها، وكان ممكنا التفكير في التفاوض معهم وتسجيل أعمالهم في قمة تضحيات قدمت لتبقى البلاد واقفةً، ثم تعطى لهم حقوقهم وفق القوانين المعمول بها؟
هذه أسئلة صادرة من انشغالات فئات اجتماعية أخرى، لم يرفع لها صوت، لكنها تعاني في صمت، وتبرز مطالبها عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تعد بالنسبة لكثيرين منهم وسيلة تنفيس عن الإحباط. وهناك من يجاول الانتحار، أو يختار مغامرة الحياة و/أو الموت في قوارب الهجرة نحو الشمال المحفوفة بالمخاطر، السجن، القتل، الموت غرقا.
قد يقول قائل إن الجزائر في أزمة مالية وضائقة، بسبب انهيار أسعار النفط، وقد يتحجّج آخر بأنها استثمرت كثيرا لتعويض سنوات الجمر في تسعينيات القرن الماضي. يمكن الرد بكل اتزان وثقة على شقي الملاحظة بأن التسيير لا يتم إلا من خلال سياسة عامة، كتب صاحب هذه السطور، في أكثر من مقالة في "العربي الجديد"، إنها سياسة تعتمد على الكفاءات وعلى مراحل الدراسة، التقييم، التقويم ثم الاستشراف للمستقبل، وهي المراحل التي لا يبدو، البتة، أنها كانت المنطلق في تسيير البلاد في الفترة التالية عن توقف الإرهاب والقلاقل الأمنية.
انهيار الأسعار في سوق النفط العالمية سبقته تحذيرات من المختصين الذين دعوا إلى جلسات استشارة واسعة لإعطاء البلاد دفعة المشروع التسييري نحو اكتساب أدوات القوة الدائمة، ومنها الاستثمار في الزراعة والطاقة البديلة (مشروع عرضته ألمانيا وكان سيدر على البلاد مداخيل
وما زال السؤال نفسه مطروحا: إلى أين؟ ما زال الطموح والمرجو والمأمول حوارا أو، على الأقل، أذنا صاغية لمطلب التغيير في كل شيء، وعلى الأصعدة كافة. إنه الجمود في عالم تتسارع فيه وتيرة التقدم الافتراضي والواقعي، على حد سواء. وقد علق واحدٌ في "فيسبوك" على إعلان وزيرة البريد وتكنولوجيا الاتصال، هدى فرعون، عن قرب إطلاق الجزائر خدمة الإنترنت عالي التدفق، إن الجزائريين يريدون بلدا يسير بوتيرة العقل، يُعالجون فيه بطب حقيقي، يجذبهم للعيش فيه، ولا يدفعهم إلى الهروب منه، "ثم وفروا لنا إنترنت بتدفق يليق بوتيرة حياتنا".