10 نوفمبر 2024
مصر.. أينَ الدبلوماسية العميقة؟
(1)
كثيراً ما قرأنا في بعض كتابات الرأي وصفاً لمصر أنها "الدولة العميقة". بفهم أن المؤسسية ضاربة جذورها في تاريخها وجغرافيتها، وأن مسيرة تلك الدولة راسخة. وكان الظنّ أن ثباتها هو من ثبات نهر النيل، وأن وجودها على الأرض مثل وجود أبي الهول وأعمدة الكرنك وأهرامات الجيزة... إن كان لتلك المقولات مصداقية لا تزحزحها عاديات السياسة، أو تجذّر لا تهزّ ثباته أصواتٌ إعلامية طنانة، فإن العجب كل العجب ليدفعنا أن ننظر، أو نستمع، لبعض ما يرشح في الساحة الإعلامية في القاهرة، فتهتز في أذهاننا صورة تلك "الدولة العميقة" التي تجيء في وصف مصر.
(2)
عجبت كل العجب، حين جاء في الأخبار أن محامياً، من قبيلة المحامين ذوي الهمّة غير المحمودة، قد فتح بلاغاً أو رفع دعوى، مطالباً، بكل بجاحة، بطرد السفير السوداني في القاهرة.
لعلّ هذا المحامي غير مطلع على ما يضبط العلاقات الدبلوماسية والقنصلية التي تقوم بين الدول والحكومات، وهذا أمر يدعو إلى الرثاء. تلك ضوابط مُستمدة من اتفاقيات دولية، توافق عليها المجتمع الدولي، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة. على أن المعلوم أن هذه الاتفاقيات جاءت لتقنين أعرافٍ وتقاليد وقيم، راعتْ احترام الرّسل المبعوثين والممثلين الدبلوماسيين وتقديرهم، منذ قرون طويلة، من ممارسات التواصل بين الممالك والبلدان. كانت للرسل والسفراء حرمة وحصانة فلا تمسّ بما يشينها، ولا يلحق بالسفراء والرسل أذىً، وتحدّد القيم الأخلاقية السوية، حمايتهم حتى في أقصى حالات العداء بين الممالك والبلدان.
(3)
أرستْ اتفاقيتا فيينا للعلاقات الدبلوماسية والعلاقات القنصلية لعامي 1961 و1963 قواعد
معاملة السفراء والقناصل والممثلين الدبلوماسيين، بما يسهل أداءهم ومهامهم، ووفق ترتيبات الحماية والحصانة التي فصّلتها هاتان الاتفاقيتان. ولأن الأمم المتحدة هي التي أشرفت على هذه الاتفاقيات، فهي التي تراعي الالتزام بما جاء فيها من ضوابط. على سبيل المثال، فإن اتفاقية المقر الموقعة بين الأمم المتحدة والولايات المتحدة التي تستضيف مقر تلك المنظمة تمنح ممثلي أيّ دولة، وإن كانت في حالة حربٍ مع الولايات المتحدة، الحقَّ في دخول الولايات المتحدة، بحماية وحصانة كاملة وفق ذلك الاتفاق. كان لكوبا ممثلوها الذين يشاركون في اجتماعات المنظمة الدولية في نيويورك، على مدى زمني تجاوز الستين عاما، وهي على قطيعةٍ كاملة مع الولايات المتحدة. لم تجرؤ سلطات الولايات المتحدة على طرد أيّ ممثل لكوبا من نيويورك، إن جاء مشاركاً في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، التزاما واحتراما للقانون الدولي، والذي تعدّ اتفاقيتا فيينا جزءاً منه.
(4)
من أولى مواصفات الدولة العميقة التزامها باحترام الآخر، صديقاً كان أم عدواً، وإبداء كامل الاحترام والتقدير لمن يمثلونه، وهو التزام قرّرته الأعراف والتقاليد الإنسانية، عبر قرون من التعامل والتعاون والتشارك، قبل أن يضمّن لاحقا في اتفاقياتٍ مكتوبة يتم التوقيع عليها، إعترافاً بإلزاميتها. ولنا أن نتساءل ما إذا كانت للدولة العميقة في مصر "دبلوماسية عميقة"، تكون دعماً لعلاقاتها السياسية، لا خصماً عليها، فلا تسمح بتجاوز صلاحيات تلك الدبلوماسية السيادية، من محامٍ متواضع المقدرات، لا يعرف حدوداً لطموحاته لاكتساب شهرة مجانية؟
قبل أن ينبري السفير السوداني في القاهرة للاحتجاج على مسلك مواطن مصري، محاميا كان أم دبلوماسياً، فإن من الواجب على الدبلوماسية المصرية، إن كانت تحرص على "عمق" تجربتها ورسوخها أن تسارع وتبدي التزامها باحترام من يمثل السودان في القاهرة، بحسبانه مبعوثاً رسمياً من السودان، ومعتمداً من رئيس الدولة المصرية. المساس بمكانة ذلك السفير وهيبته يمتد، بالضرورة، لمن منح ذلك الاعتماد ووافق عليه. ليس ذلك فحسب، فلنا أن نقرّ أن القانون المحلي في مصر، الذي قد يجيز فتح دعوى ضد أيّ أجنبيٍّ يقيم في الأراضي المصرية، لا يعلو على الالتزامات المفروضة بموجب اتفاقيات دولية لحماية الأجنبي، إن كان مبعوثاً دبلوماسيا معتمدا، مثلما هو الحال فيما يتعلق بالسفير السوداني في مصر.
(5)
المبعوث الأجنبي، إذا ارتكب خطأً ما تجاه دولة الاعتماد، فإنّ وزارة الخارجية التي اعتمدته
ممثلاً لدولته هي التي تملك حقَّ التصرف معه، ووفق التدرّج المحدّد في الاتفاقيات الدولية المرعية، بدءاً بالاحتجاج المخفّف وطلب الاعتذار، وانتهاءً بالطرد وإعلان المبعوث المعنيّ شخصاً غير مرغوبٍ فيه.
على دولة المبعوث، في مثل حالة هذا المحامي المصري الذي "تطاول" بالإساءة وبالاتهام على سفير السودان في القاهرة، أن تعبّر عن الاحتجاج الرسمي على مسلكٍ غير مقبول، فيه مساسٌ بمكانة المبعوث المعني وباحترامه. وأكثر من ذلك لربما استوجب الأمر طلب اعتذار رسمي على مثل ذلك "التطاول" المجافي للأعراف والتقاليد والقوانين الدولية المرعية.
(6)
ولأنّ للعلاقات بين البلدين، خصوصية تجب معها مراعاة عدم التصعيد الدبلوماسي، فالأنسب توخّي الحكمة، وإبعاد الأمر عن ساحات التناول والتداول الإعلامي. وفي تقديرنا، يعدّ ما أقدم عليه المحامي المصري المذكور نوعاً من "السفه الإعلامي"، وتجاوزاً لا ينبغي أن تقبل به الدبلوماسية المصرية "العميقة".. بل هو مَسعىً مُخزٍ لاكتساب شهرة غير مستحقة، خصماً على علاقاتٍ تقوم بين البلدين، الحرص عليها أوجب من الاستخفاف بها. وإنّي أراه سقوطاً أخلاقياً وقانونياً، منفّراً وغير محمود.
(7)
السفير السوداني، وقد عاد إلى مقر عمله في القاهرة في مارس/ آذار الحالي، بعد استدعائه للتشاور في الخرطوم، يتوقع أن يرتفع التناول الإعلامي المصري، ليكون إيجابياً ومرحبا بعودته. الهدوء الدبلوماسي هو المطلوب الآن، وليس الانفعال الخاوي من أيّ معنى. صبرت الدبلوماسية السودانية على التجاوزات المصرية في مثلث حلايب أكثر من ستين عاماً، مراعاة لخصوصيةٍ في علاقةٍ، بدأ السودانيون، الرسميّون والشارع السوداني، يرونها تهاوناً وجب وضع حدٍّ له.
كثيراً ما قرأنا في بعض كتابات الرأي وصفاً لمصر أنها "الدولة العميقة". بفهم أن المؤسسية ضاربة جذورها في تاريخها وجغرافيتها، وأن مسيرة تلك الدولة راسخة. وكان الظنّ أن ثباتها هو من ثبات نهر النيل، وأن وجودها على الأرض مثل وجود أبي الهول وأعمدة الكرنك وأهرامات الجيزة... إن كان لتلك المقولات مصداقية لا تزحزحها عاديات السياسة، أو تجذّر لا تهزّ ثباته أصواتٌ إعلامية طنانة، فإن العجب كل العجب ليدفعنا أن ننظر، أو نستمع، لبعض ما يرشح في الساحة الإعلامية في القاهرة، فتهتز في أذهاننا صورة تلك "الدولة العميقة" التي تجيء في وصف مصر.
(2)
عجبت كل العجب، حين جاء في الأخبار أن محامياً، من قبيلة المحامين ذوي الهمّة غير المحمودة، قد فتح بلاغاً أو رفع دعوى، مطالباً، بكل بجاحة، بطرد السفير السوداني في القاهرة.
لعلّ هذا المحامي غير مطلع على ما يضبط العلاقات الدبلوماسية والقنصلية التي تقوم بين الدول والحكومات، وهذا أمر يدعو إلى الرثاء. تلك ضوابط مُستمدة من اتفاقيات دولية، توافق عليها المجتمع الدولي، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة. على أن المعلوم أن هذه الاتفاقيات جاءت لتقنين أعرافٍ وتقاليد وقيم، راعتْ احترام الرّسل المبعوثين والممثلين الدبلوماسيين وتقديرهم، منذ قرون طويلة، من ممارسات التواصل بين الممالك والبلدان. كانت للرسل والسفراء حرمة وحصانة فلا تمسّ بما يشينها، ولا يلحق بالسفراء والرسل أذىً، وتحدّد القيم الأخلاقية السوية، حمايتهم حتى في أقصى حالات العداء بين الممالك والبلدان.
(3)
أرستْ اتفاقيتا فيينا للعلاقات الدبلوماسية والعلاقات القنصلية لعامي 1961 و1963 قواعد
(4)
من أولى مواصفات الدولة العميقة التزامها باحترام الآخر، صديقاً كان أم عدواً، وإبداء كامل الاحترام والتقدير لمن يمثلونه، وهو التزام قرّرته الأعراف والتقاليد الإنسانية، عبر قرون من التعامل والتعاون والتشارك، قبل أن يضمّن لاحقا في اتفاقياتٍ مكتوبة يتم التوقيع عليها، إعترافاً بإلزاميتها. ولنا أن نتساءل ما إذا كانت للدولة العميقة في مصر "دبلوماسية عميقة"، تكون دعماً لعلاقاتها السياسية، لا خصماً عليها، فلا تسمح بتجاوز صلاحيات تلك الدبلوماسية السيادية، من محامٍ متواضع المقدرات، لا يعرف حدوداً لطموحاته لاكتساب شهرة مجانية؟
قبل أن ينبري السفير السوداني في القاهرة للاحتجاج على مسلك مواطن مصري، محاميا كان أم دبلوماسياً، فإن من الواجب على الدبلوماسية المصرية، إن كانت تحرص على "عمق" تجربتها ورسوخها أن تسارع وتبدي التزامها باحترام من يمثل السودان في القاهرة، بحسبانه مبعوثاً رسمياً من السودان، ومعتمداً من رئيس الدولة المصرية. المساس بمكانة ذلك السفير وهيبته يمتد، بالضرورة، لمن منح ذلك الاعتماد ووافق عليه. ليس ذلك فحسب، فلنا أن نقرّ أن القانون المحلي في مصر، الذي قد يجيز فتح دعوى ضد أيّ أجنبيٍّ يقيم في الأراضي المصرية، لا يعلو على الالتزامات المفروضة بموجب اتفاقيات دولية لحماية الأجنبي، إن كان مبعوثاً دبلوماسيا معتمدا، مثلما هو الحال فيما يتعلق بالسفير السوداني في مصر.
(5)
المبعوث الأجنبي، إذا ارتكب خطأً ما تجاه دولة الاعتماد، فإنّ وزارة الخارجية التي اعتمدته
على دولة المبعوث، في مثل حالة هذا المحامي المصري الذي "تطاول" بالإساءة وبالاتهام على سفير السودان في القاهرة، أن تعبّر عن الاحتجاج الرسمي على مسلكٍ غير مقبول، فيه مساسٌ بمكانة المبعوث المعني وباحترامه. وأكثر من ذلك لربما استوجب الأمر طلب اعتذار رسمي على مثل ذلك "التطاول" المجافي للأعراف والتقاليد والقوانين الدولية المرعية.
(6)
ولأنّ للعلاقات بين البلدين، خصوصية تجب معها مراعاة عدم التصعيد الدبلوماسي، فالأنسب توخّي الحكمة، وإبعاد الأمر عن ساحات التناول والتداول الإعلامي. وفي تقديرنا، يعدّ ما أقدم عليه المحامي المصري المذكور نوعاً من "السفه الإعلامي"، وتجاوزاً لا ينبغي أن تقبل به الدبلوماسية المصرية "العميقة".. بل هو مَسعىً مُخزٍ لاكتساب شهرة غير مستحقة، خصماً على علاقاتٍ تقوم بين البلدين، الحرص عليها أوجب من الاستخفاف بها. وإنّي أراه سقوطاً أخلاقياً وقانونياً، منفّراً وغير محمود.
(7)
السفير السوداني، وقد عاد إلى مقر عمله في القاهرة في مارس/ آذار الحالي، بعد استدعائه للتشاور في الخرطوم، يتوقع أن يرتفع التناول الإعلامي المصري، ليكون إيجابياً ومرحبا بعودته. الهدوء الدبلوماسي هو المطلوب الآن، وليس الانفعال الخاوي من أيّ معنى. صبرت الدبلوماسية السودانية على التجاوزات المصرية في مثلث حلايب أكثر من ستين عاماً، مراعاة لخصوصيةٍ في علاقةٍ، بدأ السودانيون، الرسميّون والشارع السوداني، يرونها تهاوناً وجب وضع حدٍّ له.