09 نوفمبر 2024
الوجود المسيحي أو "حجارة فلسطين الحيّة"
لم يكن قرار حكومة الاحتلال الإسرائيلي، ممثلة ببلديتها في القدس، بخصوص فرض ضرائب على أملاك الكنائس، معزولا عن تطوراتٍ أخرى، بعضها سياسي يتعلق بحاضر المدينة ومستقبلها، وبعضها الآخر يتعلق بأملاك الكنيسة في المدينة. صدر القرار الإسرائيلي بفرض ضرائب على أملاك الكنيسة الأحد 26 فبراير/ شباط الماضي. وعلى الفور، أغلقت القيادة الدينية أبواب كنيسة القيامة، في إجراءٍ نادر في تاريخ هذه الكنيسة الأهم لدى المسيحيين. وبمضي اليوم الثالث، وبعدما فوجئت سلطة الاحتلال بحجم السخط على قرارها، أعلنت بلدية القدس تجميد القرار، والشروع بمفاوضاتٍ مع الكنيسة. وبهذا، فإنه لم يتم إلغاء القرار، أو التراجع عنه، كما لم يُعرف بعد مصير أصول مالية للكنيسة، تم تجميدها بدعوى عدم سداد ضرائب، تناهز نحو 185 مليون دولار. وعدا عن ذلك، فإن حكومة الاحتلال عاكفة على سن مشروع قانونٍ لمصادرة أراضٍ، سبق أن استأجرتها الكنيسة الأرثوذكسية التي يقودها البطريرك اليوناني، ثيوفيلوس الثالث، وتم كشف بعض أسرار الصفقة في العام الماضي، أو تمديد التأجير للفترات التي يراها الاحتلال مناسبة له! تجيء هذه الهجمة في أعقاب تسليم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، باختيار دولة الاحتلال القدس عاصمة لها، والقرار اللاحق بنقل السفارة إلى القدس المحتلة، مع حلول ذكرى النكبة في 15 مايو/ أيار المقبل. وهو ما يفسّر الزخم العدواني بالتضييق على الوجود المسيحي في المدينة، أسوةً باستباحة المسجد الأقصى، والمضي في التهويد القسري للمدينة، جنباً إلى جنب، مع التصفية التدريجية، لكن المنهجية ذات المضمون الاستئصالي للوجود المسيحي والإسلامي، وطمس الهوية العربية للمدينة.
وبلجوئها إلى سياسة امتصاص الغضب في أوساط الكنائس (158 كنيسة في القدس)، من
دون التراجع الفعلي عن القرار الذي أدى إلى اندلاع موجة الغضب، فإن حكومة نتنياهو تخوض مناورةً لسلب أراضٍ وممتلكات فلسطينية في القدس بغير ضجيج، وبعيداً عن أنظار الإعلام والرأي العام المسيحي في فلسطين، وعلى امتداد العالم. ويشدّد قادة رأي من الطائفة الأرثوذكسية على أن الأراضي والممتلكات التجارية هي مُلك لأبناء الطائفة، وكما هي الكنيسة نفسها ملكٌ لهم، وإنه لا يحق لها لا تسريب أراضٍ وممتلكات مما هو "وقف عربي فلسطيني مسيحي أرثوذكسي"، ولا دفع ضرائب، حيث لا تؤدي الكنائس أية ضرائب منذ العهد العثماني. وقد ثارت، على امتداد العام الماضي، حملة إعلامية واسعة ضد ما تكشف عن عمليات تأجير وبيوع قامت بها قيادة الكنيسة الأرثوذكسية، تشمل بيع أراضي جبل أبو غنيم الذي أقيمت عليه مستوطنة هارحوما. وباعت، أو أجّرت لأجل طويل، أكبر مأوى لحجّاج القدس من موسكو، وعليه يقوم اليوم معتقل المسكوبية، وأراضي جبل أبي طور، وساحة عمر بن الخطاب في البلدة القديمة في القدس، والتي تقع على مدخل كنيسة القيامة. كما كشف عن ذلك كتاب على "درب الآلام.. تاريخ الوجود المسيحي في القدس" (إعداد محمود حبلي، إصدار مؤسسة القدس الدولية، ديسمبر/ كانون الأول 2016). وتكمن مشكلة الكنيسة الأرثوذكسية في قيادتها الروحية غير العربية، حيث يصفها بعض قادة الرأي العام المسيحي بأنها كنيسة شرقية عربية (جسم شرقي عربي) برأس غير عربي (يوناني). وتعود القيادة اليونانية للكنيسة الأرثوذكسية إلى عهد السلطان العثماني سليم الأول (1512 ـ 1520)، حيث كانت السلطنة العثمانية تحتل اليونان، وقد منحها السلطان حق ترؤس الكنيسة في مقابل ممالأتها السلطنة.
بموازاة هذه البيوع، صادرت السلطات الإسرائيلية 11 ألف فدان من الأراضي المشجرة بالزيتون في بيت جالا، لبناء مستوطنة جيلو، ومصادرة آلاف الدونمات من أراضي المسيحيين لشق طريق يربط المستوطنات اليهودية جنوب بيت لحم والقدس. علاوة على مصادرة أراضي المسيحيين في القدس الغربية عام 1948. على هذا النحو، تم استهداف الوجود المسيحي، وسط تواطؤ زعامات دينية مسيحية، واحتجاجات واسعة في صفوف الرأي العام المسيحي الفلسطيني.
وقد جرى ذلك، وغيره من إجراءاتٍ، مع تقلص مضطرد في أعداد الفلسطينيين المسيحيين إلى ما نسبته 1% من مجموع أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة المقيمين في وطنهم، فيما كانت النسبة قبل وقوع احتلال عام 1967 تناهز 6%. وهو تناقصٌ يعود، في بعض أسبابه، إلى موجة هجرة بدأت إبَان العهد العثماني (قبل أكثر من قرن) إلى دول أميركا الجنوبية، على الرغم من أن المسيحيين لم يكونوا يخضعون للتجنيد الإجباري، وتواصلت الهجرات بدون توقف في فتراتٍ لاحقة، وتعود أسباب أخرى منها ثقافية، لعدم لجوء الأسر المسيحية إلى الإكثار من الإنجاب، وصولا إلى عهد الاحتلال الذي قام بالتضييق على كل ما هو غير يهودي في القدس وبيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور وبقية الأراضي المحتلة، ومرورا بأصداء الظاهرة الأصولية، وتداعياتها المحلية، منذ ثمانينات القرن الماضي، على الرغم مما عرف به المجتمع الفلسطيني من إرثٍ حي في الوئام الوطني والاجتماعي. وقد مثّل الاستنزاف البشري أكبر خسارةٍ لتنوع المجتمع الفلسطيني وتعدديته، ولإسهام الشريحة المسيحية في العمل الوطني والاجتماعي.
إنه لمن الأهمية بمكان في هذه الظروف الفاصلة الجمع بين أمرين: تركيز الأضواء على حملة الاحتلال التي قطعت أشواطاً بعيدة في تصفية الوجود المسيحي في الديار الفلسطينية المقدسة
في مهد السيد المسيح وموقع صلبه وقيامته، حسب المعتقد المسيحي، مع مواصلة الحملة في مواطن الوجود الأرثوذكسي لسحب اعتراف رعية الكنيسة بالبطريرك ثيوفيلوس، وذلك بموازاة تركيز الأضواء على استباحة المقدسات الإسلامية والمساس بها، خصوصا أن الوجود المسيحي في القدس وعموم فلسطين قديم العهد والجذور، وقد تشكّل من مزيج الآراميين والسريان والكنعانيين والغساسنة العرب، ما يجعل المسيحيين من قدامى الفلسطينيين، و"الحجارة الحيّة" لفلسطين وفق وصفٍ جميل ودقيق، فيما يجهد الاحتلال لتصوير الوجود المسيحي على أنه وجود ثانوي، وهو ما ينبري للقيام به إزاء الوجود الإسلامي، في سياق التهويد القسري للقدس وما حولها، مروراً بـ"إسرائيل دولة يهودية"، ثم "إسرائيل الكبرى اليهودية" وفق مخططات اليمين الأشد تطرّفاً، والجاري تنفيذها على قدم وساق على مرأى ومسمع من العالم المسيحي والإسلامي.
والأمر الثاني واجب الاهتمام به هو وضع الحملة الإسرائيلية على المقدسات في سياق الهجمة لتصفية القضية الوطنية، وليس تديين الصراع فحسب، فالمساس بالمقدسات المسيحية يمسّ بحقوق الفلسطينيين المسلمين، كما أن المساس بالمقدسات الإسلامية يمسّ بالفلسطينيين المسيحيين، وكل خسارة على هذا الجانب أو ذاك تنال من الحقوق الوطنية الثابتة والتاريخية للشعب في أرضه ومقدساته.
وبلجوئها إلى سياسة امتصاص الغضب في أوساط الكنائس (158 كنيسة في القدس)، من
بموازاة هذه البيوع، صادرت السلطات الإسرائيلية 11 ألف فدان من الأراضي المشجرة بالزيتون في بيت جالا، لبناء مستوطنة جيلو، ومصادرة آلاف الدونمات من أراضي المسيحيين لشق طريق يربط المستوطنات اليهودية جنوب بيت لحم والقدس. علاوة على مصادرة أراضي المسيحيين في القدس الغربية عام 1948. على هذا النحو، تم استهداف الوجود المسيحي، وسط تواطؤ زعامات دينية مسيحية، واحتجاجات واسعة في صفوف الرأي العام المسيحي الفلسطيني.
وقد جرى ذلك، وغيره من إجراءاتٍ، مع تقلص مضطرد في أعداد الفلسطينيين المسيحيين إلى ما نسبته 1% من مجموع أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة المقيمين في وطنهم، فيما كانت النسبة قبل وقوع احتلال عام 1967 تناهز 6%. وهو تناقصٌ يعود، في بعض أسبابه، إلى موجة هجرة بدأت إبَان العهد العثماني (قبل أكثر من قرن) إلى دول أميركا الجنوبية، على الرغم من أن المسيحيين لم يكونوا يخضعون للتجنيد الإجباري، وتواصلت الهجرات بدون توقف في فتراتٍ لاحقة، وتعود أسباب أخرى منها ثقافية، لعدم لجوء الأسر المسيحية إلى الإكثار من الإنجاب، وصولا إلى عهد الاحتلال الذي قام بالتضييق على كل ما هو غير يهودي في القدس وبيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور وبقية الأراضي المحتلة، ومرورا بأصداء الظاهرة الأصولية، وتداعياتها المحلية، منذ ثمانينات القرن الماضي، على الرغم مما عرف به المجتمع الفلسطيني من إرثٍ حي في الوئام الوطني والاجتماعي. وقد مثّل الاستنزاف البشري أكبر خسارةٍ لتنوع المجتمع الفلسطيني وتعدديته، ولإسهام الشريحة المسيحية في العمل الوطني والاجتماعي.
إنه لمن الأهمية بمكان في هذه الظروف الفاصلة الجمع بين أمرين: تركيز الأضواء على حملة الاحتلال التي قطعت أشواطاً بعيدة في تصفية الوجود المسيحي في الديار الفلسطينية المقدسة
والأمر الثاني واجب الاهتمام به هو وضع الحملة الإسرائيلية على المقدسات في سياق الهجمة لتصفية القضية الوطنية، وليس تديين الصراع فحسب، فالمساس بالمقدسات المسيحية يمسّ بحقوق الفلسطينيين المسلمين، كما أن المساس بالمقدسات الإسلامية يمسّ بالفلسطينيين المسيحيين، وكل خسارة على هذا الجانب أو ذاك تنال من الحقوق الوطنية الثابتة والتاريخية للشعب في أرضه ومقدساته.