21 يوليو 2024
لماذا لا يتذكّر الفرنسيون سارتر؟
بعد نصف قرن على واحدة من أشهر منعرجات القرن العشرين، ثورة الطلاب والشباب في مايو/أيار 1968 في فرنسا، تتساءل النخب الفرنسية اليوم: ماذا بقي من ذلك الانفجار الثقافي والاجتماعي الذي هز فرنسا، والبلاد والشعوب التي تشترك تاريخياً وثقافياً مع هذه الأرض التي ترفع شعار النبل الثقافي الكوني والتأصيل المعرفي والتعليمي، من خلال التراكم والمعالم الثقافية والتعليمية الأشهر في العالم، ومنها دور النشر العريقة على غرار سوي وغاليمار ومتحف اللوفر وجامعة السوربون العريقة والكوليج دي فرنس وغيرها...
فرنسا أرض الثقافات الكونية وقبلة الفلاسفة والمبدعين القادمين إلى عاصمتها باريس، عاصمة الأنوار، من كل أنحاء العالم. يعود أهلها اليوم، وبعد خمسين سنة، إلى ثورة مايو 1968من القرن الماضي، لينظروا إلى هذا الحدث التاريخي الذي غير وجه التاريخ وتفاصيله في مراجعاتٍ شملت الشخصية القاعدية الفرنسية، والمدرسة "شرف فرنسا" كما يصفونها، وثقافات الشعوب المهاجرة إليها منذ خمسين سنة والتاريخ الفكري والثقافي، وصولاً إلى الإرث "الديغولي"، الذي خرج منتصرا وقويا في الانتخابات البرلمانية الجديدة في يونيو/ حزيران 1968، بعد حل الجمعية الوطنية (البرلمان). ولم يكن الفرنسيون يعلمون، في تلك الفترة، أن رئيسهم القوي، الجنرال ديغول، كان قد سافر سراً إلى ألمانيا ساعات لمقابلة صديقه الجنرال جاك ماسو بغرض التأكد من وفاء الجيش له. وتقول المصادر إن رئيس وزرائه، جورج بومبيدو، لم يكن هو الآخر على علم بسفر رئيسه إلى ألمانيا.
اليوم وبعد خمسين سنة على أحداث مايو التاريخية، يجمع الفرنسيون على ضحايا ثلاثٍ لها: الجامعة والحزب الشيوعي والكنيسة، لكنهم يطرحون سؤالاً غريباً حول فيلسوف تلك المرحلة التي كانت فلسفته الدافع الأساس لثورة الشباب عموماً، والطلبة خصوصاً... إنهم يسألون اليوم سؤالاً طريفاً: أين اختفى فيلسوف الوجودية، سارتر ولماذا خرج من المشهد الفرنسي والوجداني العام، ولم يعد؟ كان سارتر المثقف العضوي الأكثر حضوراً في المشهد العام، يرى الناس صورته صباحاً في "فرانس سوار"، ويقرأون إسمه على المعلقات الإشهارية في محطات المترو لمسرحياته التي تعرض في المسارح الباريسية، ويستمعون لصوته مساءً في المذياع. كان معبود الشباب والطلبة، الرجل الذي رفض جائزة نوبل للأدب، رفيق سيمون دي بوفوار، والذي أراد وزير داخلية ديغول سجنه، بسبب معارضته الاستعمار الفرنسي للجزائر، ولكن الجنرال الرئيس فاجأ وزيره بالجملة الشهيرة: إننا لا نضع فولتير في السجن.
سارتر صاحب "الكلمات" و"الأيادي القذرة" و"نقد العقل الجدلي" و"الغثيان" وغيرها من الأعمال التي كانت تخرجها المطابع بملايين النسخ.. هذا الفيلسوف الذي أسس الوجودية، وأصبح قطبها الذي يتحلق حوله المريدون في فرنسا وخارجها، والذي ملأ الدنيا وشغل الناس، كيف اختفى اليوم من المشهد العام؟ ولماذا يقول اليوم أحد تلامذته من أساتذة "السوربون": عندما أحدّث الطلبة اليوم عنه، يعتريني شعور بأنني أحدثهم عن عشرين ألف مكان في أعماق البحار.
فرنسا "الزمن المكاروني".. أصبح رئيسها الشاب يستشهد بـ "الغريب" لألبير كامو، منتصراً للذاكرة الفرنسية التي لا يمكن أن تنسى مواقف الفيلسوف الوجودي الشيوعي الذي أعلن يوماً ما من ستينات القرن الماضي نقده المطلق للسياسات الاستعمارية لفرنسا، ودعا إلى مجتمعٍ لا مكان فيه للكنيسة والدين والله.
سقطت اليوم أغلب أعمال الفيلسوف الوجودي الملحد من الذاكرة الجماعية للفرنسيين، ولم يفلت من النسيان الموحش غير عملين له، يباع من الأول عشرون ألف نسخة ومن الثاني ست وعشرون ألف نسخة. وتكتب الصحافة الأدبية الفرنسية الحالية إن سيرة سارتر الذاتية التي ضمّنها في كتابه الشهير "الكلمات" "لم تعد النسخ التي تباع منها سنوياً تتجاوز عشرة آلاف نسخة، أما "نقد العقل الجدلي" فلم يعد يشد اهتمام المترددين على المكتبات. وفي المقابل،
تجاوزت مبيعات "الغريب" لألبير كامو خلال السنة الأخيرة، مائة وعشرين ألف نسخة. وبذلك انتهى الصراع الأبدي بين الرجلين، لصالح الفيلسوف ذي الأصول الجزائرية، الذي ما زال اسمه متداولاً على ألسنة الناس، وكان آخر من استشهد به الرئيس الفرنسي الشاب ماكرون.
ويقول محللون إن تراجع مكانة سارتر في المجتمع الفرنسي، وبالتالي غيابه عن المشهد الفكري والثقافي عموماً، يعود إلى أسباب عديدة، أهمها عودة الدين بقوة إلى هذا المجتمع الكاثوليكي أساساً، وانتشاره في كل الأوساط، وصولاً إلى شرائح اليسار المتطرّف، إذ لا يمكن في مدارك هؤلاء أن نتصوّر عالماً يغيب فيه الله. ودليلهم على ذلك أن أغلب النقاشات في مجمل الأوساط أصبحت تستحضر الله وتستشهد به. ويضيف هؤلاء إن المجتمع الفرنسي الحالي أصبح يعيش تحولاتٍ متواترة وسريعة، سقطت من مرجعياتها كل الإيديولوجيات الكبرى، وفي مقدمتها الشيوعية، ومؤسسوها على غرار ماركس وإخوانه. لقد تجاوز الأمر أكثر من ذلك، حيث يرى المتخصص في سارتر، فيليب قافي، إن أيقونة واحدة بقيت تسكن الخيال الجمعي الفرنسي: هي علاقته بسيمون دي بوفوار، أما مقهى الفلور الذي كان مكانه المفضل للجلوس والكتابة فقد أصبح مزاراً للسائحين من بلاد الرأسمالية والبرجوازية التي كان سارتر يعلن عداءه لهما صباح مساء.
عن الحالة السارترية هذه، والسياقات الفرنسية إزاءها، يقول الفيلسوف حمادي بن جاب الله: هي حالة عامة، تتراجع فيها الثقافة ورموزها في مجتمعات استهلاكية، تعيش الآني وتغيب فيها الأعمال الفكرية الصادمة. لعلنا نحن كذلك لم نعد نذكر كتاب طه حسين حول الشعر الجاهلي وكتاب علي عبد الرازق عن أصول الحكم وغيرهما. قد يكون الأمر شمل رموزاً فكرية وفلسفية أخرى، على غرار ماركس وفوكو وهايدغر وغيرهم.
فرنسا أرض الثقافات الكونية وقبلة الفلاسفة والمبدعين القادمين إلى عاصمتها باريس، عاصمة الأنوار، من كل أنحاء العالم. يعود أهلها اليوم، وبعد خمسين سنة، إلى ثورة مايو 1968من القرن الماضي، لينظروا إلى هذا الحدث التاريخي الذي غير وجه التاريخ وتفاصيله في مراجعاتٍ شملت الشخصية القاعدية الفرنسية، والمدرسة "شرف فرنسا" كما يصفونها، وثقافات الشعوب المهاجرة إليها منذ خمسين سنة والتاريخ الفكري والثقافي، وصولاً إلى الإرث "الديغولي"، الذي خرج منتصرا وقويا في الانتخابات البرلمانية الجديدة في يونيو/ حزيران 1968، بعد حل الجمعية الوطنية (البرلمان). ولم يكن الفرنسيون يعلمون، في تلك الفترة، أن رئيسهم القوي، الجنرال ديغول، كان قد سافر سراً إلى ألمانيا ساعات لمقابلة صديقه الجنرال جاك ماسو بغرض التأكد من وفاء الجيش له. وتقول المصادر إن رئيس وزرائه، جورج بومبيدو، لم يكن هو الآخر على علم بسفر رئيسه إلى ألمانيا.
اليوم وبعد خمسين سنة على أحداث مايو التاريخية، يجمع الفرنسيون على ضحايا ثلاثٍ لها: الجامعة والحزب الشيوعي والكنيسة، لكنهم يطرحون سؤالاً غريباً حول فيلسوف تلك المرحلة التي كانت فلسفته الدافع الأساس لثورة الشباب عموماً، والطلبة خصوصاً... إنهم يسألون اليوم سؤالاً طريفاً: أين اختفى فيلسوف الوجودية، سارتر ولماذا خرج من المشهد الفرنسي والوجداني العام، ولم يعد؟ كان سارتر المثقف العضوي الأكثر حضوراً في المشهد العام، يرى الناس صورته صباحاً في "فرانس سوار"، ويقرأون إسمه على المعلقات الإشهارية في محطات المترو لمسرحياته التي تعرض في المسارح الباريسية، ويستمعون لصوته مساءً في المذياع. كان معبود الشباب والطلبة، الرجل الذي رفض جائزة نوبل للأدب، رفيق سيمون دي بوفوار، والذي أراد وزير داخلية ديغول سجنه، بسبب معارضته الاستعمار الفرنسي للجزائر، ولكن الجنرال الرئيس فاجأ وزيره بالجملة الشهيرة: إننا لا نضع فولتير في السجن.
سارتر صاحب "الكلمات" و"الأيادي القذرة" و"نقد العقل الجدلي" و"الغثيان" وغيرها من الأعمال التي كانت تخرجها المطابع بملايين النسخ.. هذا الفيلسوف الذي أسس الوجودية، وأصبح قطبها الذي يتحلق حوله المريدون في فرنسا وخارجها، والذي ملأ الدنيا وشغل الناس، كيف اختفى اليوم من المشهد العام؟ ولماذا يقول اليوم أحد تلامذته من أساتذة "السوربون": عندما أحدّث الطلبة اليوم عنه، يعتريني شعور بأنني أحدثهم عن عشرين ألف مكان في أعماق البحار.
فرنسا "الزمن المكاروني".. أصبح رئيسها الشاب يستشهد بـ "الغريب" لألبير كامو، منتصراً للذاكرة الفرنسية التي لا يمكن أن تنسى مواقف الفيلسوف الوجودي الشيوعي الذي أعلن يوماً ما من ستينات القرن الماضي نقده المطلق للسياسات الاستعمارية لفرنسا، ودعا إلى مجتمعٍ لا مكان فيه للكنيسة والدين والله.
سقطت اليوم أغلب أعمال الفيلسوف الوجودي الملحد من الذاكرة الجماعية للفرنسيين، ولم يفلت من النسيان الموحش غير عملين له، يباع من الأول عشرون ألف نسخة ومن الثاني ست وعشرون ألف نسخة. وتكتب الصحافة الأدبية الفرنسية الحالية إن سيرة سارتر الذاتية التي ضمّنها في كتابه الشهير "الكلمات" "لم تعد النسخ التي تباع منها سنوياً تتجاوز عشرة آلاف نسخة، أما "نقد العقل الجدلي" فلم يعد يشد اهتمام المترددين على المكتبات. وفي المقابل،
ويقول محللون إن تراجع مكانة سارتر في المجتمع الفرنسي، وبالتالي غيابه عن المشهد الفكري والثقافي عموماً، يعود إلى أسباب عديدة، أهمها عودة الدين بقوة إلى هذا المجتمع الكاثوليكي أساساً، وانتشاره في كل الأوساط، وصولاً إلى شرائح اليسار المتطرّف، إذ لا يمكن في مدارك هؤلاء أن نتصوّر عالماً يغيب فيه الله. ودليلهم على ذلك أن أغلب النقاشات في مجمل الأوساط أصبحت تستحضر الله وتستشهد به. ويضيف هؤلاء إن المجتمع الفرنسي الحالي أصبح يعيش تحولاتٍ متواترة وسريعة، سقطت من مرجعياتها كل الإيديولوجيات الكبرى، وفي مقدمتها الشيوعية، ومؤسسوها على غرار ماركس وإخوانه. لقد تجاوز الأمر أكثر من ذلك، حيث يرى المتخصص في سارتر، فيليب قافي، إن أيقونة واحدة بقيت تسكن الخيال الجمعي الفرنسي: هي علاقته بسيمون دي بوفوار، أما مقهى الفلور الذي كان مكانه المفضل للجلوس والكتابة فقد أصبح مزاراً للسائحين من بلاد الرأسمالية والبرجوازية التي كان سارتر يعلن عداءه لهما صباح مساء.
عن الحالة السارترية هذه، والسياقات الفرنسية إزاءها، يقول الفيلسوف حمادي بن جاب الله: هي حالة عامة، تتراجع فيها الثقافة ورموزها في مجتمعات استهلاكية، تعيش الآني وتغيب فيها الأعمال الفكرية الصادمة. لعلنا نحن كذلك لم نعد نذكر كتاب طه حسين حول الشعر الجاهلي وكتاب علي عبد الرازق عن أصول الحكم وغيرهما. قد يكون الأمر شمل رموزاً فكرية وفلسفية أخرى، على غرار ماركس وفوكو وهايدغر وغيرهم.
دلالات
مقالات أخرى
25 اغسطس 2023
02 اغسطس 2023
14 يوليو 2023