07 نوفمبر 2024
معنى "المراجعة الفكرية"
ما نعايشه اليوم أخطر من هزيمة حزيران/ يونيو 1967. وقتها، غُلبت الجيوش العربية في معركتها مع إسرائيل، فقامت الدنيا الفكرية ولم تقعد: عصف فكري.. "نقد ذاتي بعد الهزيمة".. أحزاب على يسار اليسار.. تنظيمات مسلحة تعمل على تحرير الأراضي المحتلة بجيوش شعبية متأصلة بالنظريات الثورية المعترف بها آنذاك.. وكانت ذروتها، كما نعلم، خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في نهاية العام 1982.
الآن، يتجاوز الخراب هزيمة الجيوش العربية التي لم تهزم على كل حال إلا خارجيا؛ إذ انتصرت داخلياً كما نعلم وبقيت حاكمة، وهذه قمة غايتها. الدمار نال المجتمعات، والمثال السوري في الدمار يتجاوز الوصف، ويستدعيه في آن. الآن، التاريخ معلقٌ بين أيادي لاعبين ومحتلين قدماء وجُدُد، وربما يفلت منهم أيضاً، في لحظة هوجاء. والحرب الأهلية العربية الطائفية صارت لعبتهم الضرورية، مصدر رزقهم؛ وهم قادرون على إبقاء شعلتها متقدةً إلى آجال لا يعلمونها، حتى هم. وإذا كان كل هؤلاء المستقوين بالدمار العربي المشرقي يملكون شيئاً من ناصية التاريخ، يلعبون بمجرياته، فإن ضحاياهم باتوا معلقين بحياتهم وموتهم. فهؤلاء الذين قضوا في هذه الحرب ليسوا مجرّد أرقام. إنهم موارد بشرية أبيدت، معها مخزون إنساني، روحي، عقلي؛ كانوا سيشاركون، لو عاشوا، في التفكير بتلك الأفق المسدودة، أو في صناعة الأفق بإرادتهم.
هذا ما تحدس به غالبية المثقفين المعنيين بهذا التدمير، إذ يكرّرون، بلا هوادة، وعند كل مناسبة كبيرة، اللازمة التي يعتقدون أنها سحرية، بمجرد ورودها سيتحقق الأمل: عبارات مثل
"ضرورة المراجعة النقدية"، أو أن "كل ترسانتنا الفكرية ما عادت صالحة".. إلخ. كلٌ حسب درجة تطرّفه أو تطلّبه، يطرح درجة هذه "المراجعة" أو ذاك "النقد". ولكن في النتيجة، يعودون، من دون قصد على الأرجح، إلى "حبهم النظري الأول"، أي إلى الأسس التي شكلت وعيهم أو أيديولوجيتهم. وهم بذلك لا يتخابثون، إنما يقومون أحيانا بجهود صادقة، تبدو واضحةً هنا وهناك من فقرات نصوصهم؛ لكن هذه الجهود موقوفة، معطّلة، تضعف أمام المخزون القديم من السرديات والأفكار. وكاتبة هذه السطور غير معفاة من هذا القصور.
وهذه حالةٌ موصوفةٌ لما يمكن تسميتها الغربة الفكرية. شبيهة غربة العامل البروليتاري عن الآلة التي يشتغل عليها بكدّ متواصل طوال النهار؛ من أنه لا يفهم تماماً الغرض النهائي لهذا العمل الذي يقوم به، فربّ العمل هو الذي يقرّر (وصف كارل ماركس). والغربة في حالتنا هي أننا مطرودون من جنة سيطرتنا على موضوعنا، ومدفوعون إلى الكتابة، مع ذلك، بشروط الوعي القاصر عن الارتفاع إلى مستوى الدور. فهو لا يقرّر هذا الدور، لا يحدّده. وبالتالي، كيف له أن يخلق ديناميكية، أو أن يكون ندّاً لديناميكية أخرى يحتكّ بها، فيخلق بذلك دوره؟
ولكن، هل يمكن الخروج من هذه الغربة العقلية؟ نعم، قليلاً، وربما بالتخلص أولا من التفاؤل الأيديولوجي الذي يقوم على اعتبار أن العقلانية وحدها كفيلة بحل كل المعضلات الفكرية. ليست هنا العقلانية السطحية التي تتزين بها بعض الكتابات من دون أن تمارسها، إنما العقلانية المطبّقة التي يمارسها بعض الكتاب الآخرين. وهذه العقلانية، على الرغم من جديتها وعمقها، وتحديدها مجالاتها وتعريفها نفسها، انسلت من بين شباكها الغليظة ظواهر وحالات وديناميات لم تتمكّن من التقاطها، أو تفسيرها، أو حتى تسميتها. فتكون الأسئلة البديهية: هل "العقلانية هي الحل"؟ ثم، هل يكفي أن يأخذك مسارك إلى العقلانية، لتصبح عقلانياً؟ أو أن تأخذ قراراً
أن تكون عقلانيا فتصبح، بفعل إرادة حديدية، عقلانيا؟ مثل أن تقرأ ماركس ولينين في حلقة حزبية، فتصبح "ماركسيا - لينيناً".. ينطبق الكلام نفسه على الديمقراطية، والتي انجذب إلى فكرتها عديد من أصحاب الترسانة الفكرية القديمة، فطعّموها بها: هل يكفي أن تعلن خيارك الديمقراطي لتصبح ديمقراطياً؟ وإذا افترضنا أنك أصبحت فعلاً ديمقراطياً، أيضاً بفعل إرادة حديدية؛ فهل الديمقراطية وحدها تضيء أعمال "مراجعتك"؟ خصوصاً أنك لا تمارس شيئاً من حقوقك وواجباتك الديمقراطية؟
وسط كل هذه العتمة، يلتمع نقص فادح آخر، غربة إضافية، قوامها الابتعاد عن الواقع، أو عن الميدان. نحن بعيدون عن الاثنين: إما لأننا نُفينا جغرافياً من ديارنا، أو لأننا، وإن أقمنا فيها، لا نملك أي دور ينشِّط نقديتنا لهياكلنا الفكرية، فيحرّرنا من أنفسنا، ومن رتابة عقولنا، فالتنظير للميدان بعيداً عنه هو تنظير مبتور. ربما التنبّه إلى نقصٍ كهذا، إلى غربةٍ كهذه، هو أضعف الإيمان...
الآن، يتجاوز الخراب هزيمة الجيوش العربية التي لم تهزم على كل حال إلا خارجيا؛ إذ انتصرت داخلياً كما نعلم وبقيت حاكمة، وهذه قمة غايتها. الدمار نال المجتمعات، والمثال السوري في الدمار يتجاوز الوصف، ويستدعيه في آن. الآن، التاريخ معلقٌ بين أيادي لاعبين ومحتلين قدماء وجُدُد، وربما يفلت منهم أيضاً، في لحظة هوجاء. والحرب الأهلية العربية الطائفية صارت لعبتهم الضرورية، مصدر رزقهم؛ وهم قادرون على إبقاء شعلتها متقدةً إلى آجال لا يعلمونها، حتى هم. وإذا كان كل هؤلاء المستقوين بالدمار العربي المشرقي يملكون شيئاً من ناصية التاريخ، يلعبون بمجرياته، فإن ضحاياهم باتوا معلقين بحياتهم وموتهم. فهؤلاء الذين قضوا في هذه الحرب ليسوا مجرّد أرقام. إنهم موارد بشرية أبيدت، معها مخزون إنساني، روحي، عقلي؛ كانوا سيشاركون، لو عاشوا، في التفكير بتلك الأفق المسدودة، أو في صناعة الأفق بإرادتهم.
هذا ما تحدس به غالبية المثقفين المعنيين بهذا التدمير، إذ يكرّرون، بلا هوادة، وعند كل مناسبة كبيرة، اللازمة التي يعتقدون أنها سحرية، بمجرد ورودها سيتحقق الأمل: عبارات مثل
وهذه حالةٌ موصوفةٌ لما يمكن تسميتها الغربة الفكرية. شبيهة غربة العامل البروليتاري عن الآلة التي يشتغل عليها بكدّ متواصل طوال النهار؛ من أنه لا يفهم تماماً الغرض النهائي لهذا العمل الذي يقوم به، فربّ العمل هو الذي يقرّر (وصف كارل ماركس). والغربة في حالتنا هي أننا مطرودون من جنة سيطرتنا على موضوعنا، ومدفوعون إلى الكتابة، مع ذلك، بشروط الوعي القاصر عن الارتفاع إلى مستوى الدور. فهو لا يقرّر هذا الدور، لا يحدّده. وبالتالي، كيف له أن يخلق ديناميكية، أو أن يكون ندّاً لديناميكية أخرى يحتكّ بها، فيخلق بذلك دوره؟
ولكن، هل يمكن الخروج من هذه الغربة العقلية؟ نعم، قليلاً، وربما بالتخلص أولا من التفاؤل الأيديولوجي الذي يقوم على اعتبار أن العقلانية وحدها كفيلة بحل كل المعضلات الفكرية. ليست هنا العقلانية السطحية التي تتزين بها بعض الكتابات من دون أن تمارسها، إنما العقلانية المطبّقة التي يمارسها بعض الكتاب الآخرين. وهذه العقلانية، على الرغم من جديتها وعمقها، وتحديدها مجالاتها وتعريفها نفسها، انسلت من بين شباكها الغليظة ظواهر وحالات وديناميات لم تتمكّن من التقاطها، أو تفسيرها، أو حتى تسميتها. فتكون الأسئلة البديهية: هل "العقلانية هي الحل"؟ ثم، هل يكفي أن يأخذك مسارك إلى العقلانية، لتصبح عقلانياً؟ أو أن تأخذ قراراً
وسط كل هذه العتمة، يلتمع نقص فادح آخر، غربة إضافية، قوامها الابتعاد عن الواقع، أو عن الميدان. نحن بعيدون عن الاثنين: إما لأننا نُفينا جغرافياً من ديارنا، أو لأننا، وإن أقمنا فيها، لا نملك أي دور ينشِّط نقديتنا لهياكلنا الفكرية، فيحرّرنا من أنفسنا، ومن رتابة عقولنا، فالتنظير للميدان بعيداً عنه هو تنظير مبتور. ربما التنبّه إلى نقصٍ كهذا، إلى غربةٍ كهذه، هو أضعف الإيمان...