17 أكتوبر 2024
العبث الغربي في سورية
لم تنقذ الضربة التي قام بها تحالف الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا السياسة الغربية في سورية، ولم تخرجها من الطريق المسدود والفشل المستمر منذ سبع سنوات. وما ضاعف من تهافت الرد الغربي على كيميائي الأسد وروسيا إصرار ممثلي هذه الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، على تأكيد أن الضربة المشتركة لا تهدف إلى التدخل في "الحرب الأهلية" السورية، ولا إلى تغيير النظام، ولا حتى إلى معاقبة الأسد الذي استخدم السلاح المحرّم، وإنما تقتصر على "إنزال العقاب" بالمؤسسات والمواقع والبنى المرتبطة بإنتاج الأسلحة الكيميائية واستخدامها. أي باختصار، ما أريد لها أن تكون ضربة تقنية ترد على استخدام وسيلة حربٍ محرّمةٍ، لا على مضمون هذه الحرب ومجرياتها.
لكن تجدّد الحديث، في اليوم التالي مباشرة، عن مبادرةٍ فرنسيةٍ لإيجاد حل سياسي، والإعلان عن الإعداد لمشروع قرار جديد في مجلس الأمن يؤكد على ضرورة وقف الأعمال القتالية والدخول في مفاوضات جدية من دون شروط، والدعوة إلى تسليم المقاتلين من المعارضة أسلحتهم، يشير إلى أنها لم تكن بريئة سياسياً، كما أراد أن يصورها الفاعلون. كانت بالأحرى رسالةً موجهة بشكل واضح للروس الذين يقودون اللعبة في سورية، ويملكون زمام المبادرة فيها، أن الحرب لا يمكن أن تنتهي كما تريدها موسكو وحلفاؤها، بفرض الأمر الواقع بالقوة، وإنهاء أي مفاوضاتٍ سياسية جدية، كما لا يمكن لاحتلال المناطق وتفريغها من سكانها، كما حصل في الغوطة الشرقية أن يكون نهاية المطاف. هي ضربةٌ على الطاولة، تعبّر عن رفض الثلاثي الغربي طبيعة الحل الذي يريد أن يفرضه ثلاثي أستانة، ويكرّس فيه تقاسم الاحتلال الروسي الإيراني السيطرة على البلاد، من وراء الواجهة الواهية لنظام الأسد الذي لم يعد موجوداً أصلاً من دون دعم الروس والإيرانيين. العودة إلى المفاوضات التي عمل التحالف الروسي الإيراني الأسدي المستحيل لتقويضها، وفرض الحل العسكري هو كلمة السر الوحيدة لهذه الضربة الرمزية، ومن ورائها رفض الحل الأحادي أو الانفراد الروسي بالحل، خصوصاً إذا كان يعني الشراكة مع النظام الإيراني.
لكن، ليس مؤكداً أن تقنع هذه الضربة الاستعراضية الروس والإيرانيين، وتابعهم الأسد، بالكف عن المناورة للانفراد بحل المسألة السورية لصالحهم، أي بإخراج كل الأطراف الأخرى الدولية، وقبل ذلك، الشعب السوري نفسه، من المعادلة. وإذا لم يكن الطابع الرمزي للضربة جزءاً من تفاهم مشترك روسي غربي على إيجاد مخرج من الحرب، يمكن لها، بالعكس، أن تزيد من مخاطر تقويض صدقية هذه الدول، وتثبيت عجزها عن مواجهة تحدّي مجموعة أستانة لها، وفشلها في إحداث أي تغيير أو تأثير في مجرى الحرب الدائرة منذ سبع سنوات.
لا يوجد في نظري أي سبب كي يتخلى الروس والإيرانيون بمحض إرادتهم عن الأسد، أي أن يقدموه من دون مقابل للغرب الذي وضعه في السلطة ورعاه، قبل أن يتمرّد على أسياد أمره، ويستنجد بطهران، ثم يسقط بين أيدي موسكو، بسبب أخطائه السياسية، ورفضه أي إصلاح، ويتشبث بالسياسة الانتحارية التي اتبعها منذ بداية الثورة السورية، والأزمة الدولية التي نجمت عنها. فالأسد يشكل، في وضعه الراهن، "رئيساً" لسورية، معترفاً به في الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه، دمية فاقدة للسيادة والمقدرة والأهلية، يحرّكها حُماتها من الخارج، وغير قادرة على حماية نفسها، أفضل ستارة يمكن للروس والإيرانيين العمل من ورائها لتحقيق مآربهم، من دون تحمل أي مسؤولية عن الجرائم الكبرى التي تجري، بمساعيهم الشريرة وتحت أنظارهم في سورية المنكوبة، فهو ورقة التوت التي تغطي على عورة سياستهم وأهدافها الاحتلالية غير المشروعة، ومخلب القط الذي يستخدمونه فزاعةً لرفع تكلفة التنافس على سورية. وبينما يعزّز وجود الأسد وإصراره على البقاء في الحكم موقف الروس والإيرانيين الذين يتحكّمون بتقرير مصير سورية وشعبها، اليوم، ويزيد بالتالي من رصيدهم الاستراتيجي، يشكل استمراره، وما يرافقه من مجازر دموية، واستهتار متعمد بقرارات مجلس الأمن، ورفض للمفاوضات أو التسويات الداخلية، تحدياً كبيراً للعواصم الغربية، ودليلاً على فشلها الدائم، وعجزها عن التأثير في الأحداث، وتقويضاً لمركزها السياسي القيادي في المنظومة الدولية.
لا يحتاج الأسد إلى أرضية أخلاقية أو سياسية لتطبيق مشروع الإبادة الجماعية، وقتل الشعب وتشريده وتدمير بلاده للإبقاء عليها مزرعة شخصية عبودية، فمشروعه قائم أصلاً على انعدام الضمير وإعدام السياسة وتجفيف ينابيعها. كما لا يحتاج بوتين وخامنئي إلى أي أخلاقيةٍ إنسانيةٍ أو قانونيةٍ لاستخدام سورية ورقة ضغطٍ ومسرح استعراض للقوة في مواجهة الدول الخصم المنافسة. فمثل هذا المشروع لا يتحقق أصلاً إلا بشرعنة الاحتلال، ومصادرة حق الشعب السوري في تقرير مصيره، وتجريده من حقوقه وسيادته على وطنه، وفرض نظام دميةٍ عليه يخدم الاحتلال، ويبرّر أعماله.
لكن الغرب الذي يدّعي رفض مشروع الاحتلال هذا، ويدافع عن حكم القانون وميثاق الأمم المتحدة، كما يدّعي التمسك بالمسؤولية عن فرض احترامهما وردع منتهكيهما، وفي مقدمهم بشار الأسد الذي لا يكفّ الروس عن التأكيد، على حق، بأنه كان رجل واشنطن والغرب، قبل أن يكون رجلهم، يحتاج إلى حد أدنى من مطابقة الأقوال مع الأفعال، لنيل الصدقية والمحافظة على الاعتبار والاحترام. فلا ينتظر أحد من طهران المتمرّدة على النظام والتقاليد والأعراف الدولية، ولا من موسكو التي لا تخفي الطابع الانتقامي لسياستها الغربية، لكن الوضع يختلف مع الدول الغربية التي بنت هيمنتها العالمية على التأكيد على مبادئ الحق والقانون، وأعلنت تأييدها التحولات الديمقراطية وحرية الشعوب، في الوقت الذي تنظر فيه مكتوفة اليدين إلى مأساة السوريين المستمرة، في أكثر صورها بشاعةً وشناعة، منذ سبع سنوات متواصلة، مع الاستخدام المتكرر للأسلحة الكيميائية وتجويع المدنيين وحصارهم، وقصف المشافي والمرافق العامة، وتفجير المدن وتهديمها على رؤوس ساكنيها، لإجبارهم على إخلائها، وتحطيم حاضنة الثورة الاجتماعية.
ليس لدى الأسد أي حافز يحثه على أن يتراجع عن خياراته الانتحارية التي اتبعها منذ بداية الثورة والأزمة الدولية التي نجمت عنها، فهو يعرف أنه انتهى، ولم يعد قادراً على البقاء إذا ما اختار العودة إلى الحالة الطبيعية، وأن استمرار الحرب، الداخلية والإقليمية والدولية، هي فرصته الوحيدة لكسب الوقت، وتجنّب الموت الحتمي السياسي أو المادي معاً.
وليس لدى الإيرانيين أيضاً، وهم يسعون إلى مشروعٍ لا يقل جنونيةً عن مشروع الأسد في البقاء في الحكم إلى "الأبد"، وهو تحويل سورية إلى منصةٍ خاصة لبسط هيمنتهم الإقليمية، أي مصلحة في وقف الحرب، أو العمل على تسويةٍ سورية داخلية، أو حتى الحد من الاستخدام المتكرّر للأسلحة المحرّمة دولياً، وفي مقدمها الأسلحة الكيميائية التي ليس لها مثيل في ترويع المدنيين، ودفعهم إلى النزوح عن أراضيهم ومدنهم، وتفريغ المناطق من سكانها وإعادة هندستها الديمغرافية والسياسية، ففي هذه العملية وحدها تكمن فرصة طهران لتثبيت وجودها المادي في بلدٍ يبعد عنها آلاف الأميال، ولا تملك فيه أي مرتكز ثابت للنفوذ والقوة.
أما الروس، فليس لديهم أفضل من الأسد الفاقد للسلطة والشرعية، والمحكوم بالإعدام السياسي مع وقف التنفيذ، ممسحةً للجرائم التي يرتكبونها ضد الإنسانية، وشبحاً يواجهون من ورائه الدول الغربية التي لا يستطيعون مواجهتها مباشرة، وليس من مصلحتهم الدخول في مواجهةٍ شاملة معها.
لن تنتهي هذه المأساة الدموية، ما لم يُزح الستار عن مسرح هذه اللعبة الجريمة. وليس الستار هنا سوى الأسد الذي يتخفّى وراء شبحه اللاعبون الحقيقيون، ويستخدمون وجهه الشاحب، قناعاً يخفون تحته أهدافهم ورهاناتهم الحقيقية، أي ما لم تنكشف حقيقة اللعبة، وتُعرَّى الأدوار التي تقوم بها جميع الأطراف. من دون ذلك، سوف يحتاج الغرب ضربات مستمرة كثيرة، وربما فقدان ما تبقى له من صدقيةٍ استراتيجية، قبل أن ينجح في وضع حد لهذه اللعبة الدموية التي هو الشريك الرئيسي فيها.
السؤال: هل يريد الغرب بالفعل وضع حد للعبة الموت الدموية هذه؟ من المحتمل أن لا يكون لدى الغرب اليوم سياسة بديلة لسياسة مهاوشة موسكو ومناكفتها، لنقل مركز اهتمامها من أوروبا إلى الشرق، واستنفاد طاقتها التوسعية هناك، فالبديل الوحيد عن سياسة إشعال الحروب والنزاعات وإدارتها هو إزالة أسبابها، وتغيير الشروط التي تولدها، ما يقتضي التعاون على صياغة جدول أعمال مختلف للسياسة الدولية، يتصدى، قبل أي شيء آخر، لمعالجة مشكلات الفقر والمرض والتخلف والتهميش الجماعي وتدهور البيئة وتنامي الجريمة وتدهور شروط الحياة السياسية والقانونية على امتداد المعمورة، وفي إثرها انحسار الثقة وفقدان الأمل واليأس من العالم والشك بالمستقبل.
من الواضح أن هذا ليس جدول أعمال الرئيس ترامب. وهو ليس، بالتأكيد، جدول أعمال بوتين أو خامنئي. وإذا استمرت الأمور في العالم على هذا المنوال، يخشى أن لا يتأخر الوقت كثيراً قبل أن يصبح كيم جونغ أون، رئيس كوريا الشمالية الذي يعيش في جزيرة منعزلة من صنعه، ولا يهمه مستقبل أحد، ولا مصير المجموع، أي المعمورة بأكملها، هو النموذج السائد والمحتذى في معظم أصقاع العالم.
لكن تجدّد الحديث، في اليوم التالي مباشرة، عن مبادرةٍ فرنسيةٍ لإيجاد حل سياسي، والإعلان عن الإعداد لمشروع قرار جديد في مجلس الأمن يؤكد على ضرورة وقف الأعمال القتالية والدخول في مفاوضات جدية من دون شروط، والدعوة إلى تسليم المقاتلين من المعارضة أسلحتهم، يشير إلى أنها لم تكن بريئة سياسياً، كما أراد أن يصورها الفاعلون. كانت بالأحرى رسالةً موجهة بشكل واضح للروس الذين يقودون اللعبة في سورية، ويملكون زمام المبادرة فيها، أن الحرب لا يمكن أن تنتهي كما تريدها موسكو وحلفاؤها، بفرض الأمر الواقع بالقوة، وإنهاء أي مفاوضاتٍ سياسية جدية، كما لا يمكن لاحتلال المناطق وتفريغها من سكانها، كما حصل في الغوطة الشرقية أن يكون نهاية المطاف. هي ضربةٌ على الطاولة، تعبّر عن رفض الثلاثي الغربي طبيعة الحل الذي يريد أن يفرضه ثلاثي أستانة، ويكرّس فيه تقاسم الاحتلال الروسي الإيراني السيطرة على البلاد، من وراء الواجهة الواهية لنظام الأسد الذي لم يعد موجوداً أصلاً من دون دعم الروس والإيرانيين. العودة إلى المفاوضات التي عمل التحالف الروسي الإيراني الأسدي المستحيل لتقويضها، وفرض الحل العسكري هو كلمة السر الوحيدة لهذه الضربة الرمزية، ومن ورائها رفض الحل الأحادي أو الانفراد الروسي بالحل، خصوصاً إذا كان يعني الشراكة مع النظام الإيراني.
لكن، ليس مؤكداً أن تقنع هذه الضربة الاستعراضية الروس والإيرانيين، وتابعهم الأسد، بالكف عن المناورة للانفراد بحل المسألة السورية لصالحهم، أي بإخراج كل الأطراف الأخرى الدولية، وقبل ذلك، الشعب السوري نفسه، من المعادلة. وإذا لم يكن الطابع الرمزي للضربة جزءاً من تفاهم مشترك روسي غربي على إيجاد مخرج من الحرب، يمكن لها، بالعكس، أن تزيد من مخاطر تقويض صدقية هذه الدول، وتثبيت عجزها عن مواجهة تحدّي مجموعة أستانة لها، وفشلها في إحداث أي تغيير أو تأثير في مجرى الحرب الدائرة منذ سبع سنوات.
لا يوجد في نظري أي سبب كي يتخلى الروس والإيرانيون بمحض إرادتهم عن الأسد، أي أن يقدموه من دون مقابل للغرب الذي وضعه في السلطة ورعاه، قبل أن يتمرّد على أسياد أمره، ويستنجد بطهران، ثم يسقط بين أيدي موسكو، بسبب أخطائه السياسية، ورفضه أي إصلاح، ويتشبث بالسياسة الانتحارية التي اتبعها منذ بداية الثورة السورية، والأزمة الدولية التي نجمت عنها. فالأسد يشكل، في وضعه الراهن، "رئيساً" لسورية، معترفاً به في الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه، دمية فاقدة للسيادة والمقدرة والأهلية، يحرّكها حُماتها من الخارج، وغير قادرة على حماية نفسها، أفضل ستارة يمكن للروس والإيرانيين العمل من ورائها لتحقيق مآربهم، من دون تحمل أي مسؤولية عن الجرائم الكبرى التي تجري، بمساعيهم الشريرة وتحت أنظارهم في سورية المنكوبة، فهو ورقة التوت التي تغطي على عورة سياستهم وأهدافها الاحتلالية غير المشروعة، ومخلب القط الذي يستخدمونه فزاعةً لرفع تكلفة التنافس على سورية. وبينما يعزّز وجود الأسد وإصراره على البقاء في الحكم موقف الروس والإيرانيين الذين يتحكّمون بتقرير مصير سورية وشعبها، اليوم، ويزيد بالتالي من رصيدهم الاستراتيجي، يشكل استمراره، وما يرافقه من مجازر دموية، واستهتار متعمد بقرارات مجلس الأمن، ورفض للمفاوضات أو التسويات الداخلية، تحدياً كبيراً للعواصم الغربية، ودليلاً على فشلها الدائم، وعجزها عن التأثير في الأحداث، وتقويضاً لمركزها السياسي القيادي في المنظومة الدولية.
لا يحتاج الأسد إلى أرضية أخلاقية أو سياسية لتطبيق مشروع الإبادة الجماعية، وقتل الشعب وتشريده وتدمير بلاده للإبقاء عليها مزرعة شخصية عبودية، فمشروعه قائم أصلاً على انعدام الضمير وإعدام السياسة وتجفيف ينابيعها. كما لا يحتاج بوتين وخامنئي إلى أي أخلاقيةٍ إنسانيةٍ أو قانونيةٍ لاستخدام سورية ورقة ضغطٍ ومسرح استعراض للقوة في مواجهة الدول الخصم المنافسة. فمثل هذا المشروع لا يتحقق أصلاً إلا بشرعنة الاحتلال، ومصادرة حق الشعب السوري في تقرير مصيره، وتجريده من حقوقه وسيادته على وطنه، وفرض نظام دميةٍ عليه يخدم الاحتلال، ويبرّر أعماله.
لكن الغرب الذي يدّعي رفض مشروع الاحتلال هذا، ويدافع عن حكم القانون وميثاق الأمم المتحدة، كما يدّعي التمسك بالمسؤولية عن فرض احترامهما وردع منتهكيهما، وفي مقدمهم بشار الأسد الذي لا يكفّ الروس عن التأكيد، على حق، بأنه كان رجل واشنطن والغرب، قبل أن يكون رجلهم، يحتاج إلى حد أدنى من مطابقة الأقوال مع الأفعال، لنيل الصدقية والمحافظة على الاعتبار والاحترام. فلا ينتظر أحد من طهران المتمرّدة على النظام والتقاليد والأعراف الدولية، ولا من موسكو التي لا تخفي الطابع الانتقامي لسياستها الغربية، لكن الوضع يختلف مع الدول الغربية التي بنت هيمنتها العالمية على التأكيد على مبادئ الحق والقانون، وأعلنت تأييدها التحولات الديمقراطية وحرية الشعوب، في الوقت الذي تنظر فيه مكتوفة اليدين إلى مأساة السوريين المستمرة، في أكثر صورها بشاعةً وشناعة، منذ سبع سنوات متواصلة، مع الاستخدام المتكرر للأسلحة الكيميائية وتجويع المدنيين وحصارهم، وقصف المشافي والمرافق العامة، وتفجير المدن وتهديمها على رؤوس ساكنيها، لإجبارهم على إخلائها، وتحطيم حاضنة الثورة الاجتماعية.
ليس لدى الأسد أي حافز يحثه على أن يتراجع عن خياراته الانتحارية التي اتبعها منذ بداية الثورة والأزمة الدولية التي نجمت عنها، فهو يعرف أنه انتهى، ولم يعد قادراً على البقاء إذا ما اختار العودة إلى الحالة الطبيعية، وأن استمرار الحرب، الداخلية والإقليمية والدولية، هي فرصته الوحيدة لكسب الوقت، وتجنّب الموت الحتمي السياسي أو المادي معاً.
وليس لدى الإيرانيين أيضاً، وهم يسعون إلى مشروعٍ لا يقل جنونيةً عن مشروع الأسد في البقاء في الحكم إلى "الأبد"، وهو تحويل سورية إلى منصةٍ خاصة لبسط هيمنتهم الإقليمية، أي مصلحة في وقف الحرب، أو العمل على تسويةٍ سورية داخلية، أو حتى الحد من الاستخدام المتكرّر للأسلحة المحرّمة دولياً، وفي مقدمها الأسلحة الكيميائية التي ليس لها مثيل في ترويع المدنيين، ودفعهم إلى النزوح عن أراضيهم ومدنهم، وتفريغ المناطق من سكانها وإعادة هندستها الديمغرافية والسياسية، ففي هذه العملية وحدها تكمن فرصة طهران لتثبيت وجودها المادي في بلدٍ يبعد عنها آلاف الأميال، ولا تملك فيه أي مرتكز ثابت للنفوذ والقوة.
أما الروس، فليس لديهم أفضل من الأسد الفاقد للسلطة والشرعية، والمحكوم بالإعدام السياسي مع وقف التنفيذ، ممسحةً للجرائم التي يرتكبونها ضد الإنسانية، وشبحاً يواجهون من ورائه الدول الغربية التي لا يستطيعون مواجهتها مباشرة، وليس من مصلحتهم الدخول في مواجهةٍ شاملة معها.
لن تنتهي هذه المأساة الدموية، ما لم يُزح الستار عن مسرح هذه اللعبة الجريمة. وليس الستار هنا سوى الأسد الذي يتخفّى وراء شبحه اللاعبون الحقيقيون، ويستخدمون وجهه الشاحب، قناعاً يخفون تحته أهدافهم ورهاناتهم الحقيقية، أي ما لم تنكشف حقيقة اللعبة، وتُعرَّى الأدوار التي تقوم بها جميع الأطراف. من دون ذلك، سوف يحتاج الغرب ضربات مستمرة كثيرة، وربما فقدان ما تبقى له من صدقيةٍ استراتيجية، قبل أن ينجح في وضع حد لهذه اللعبة الدموية التي هو الشريك الرئيسي فيها.
السؤال: هل يريد الغرب بالفعل وضع حد للعبة الموت الدموية هذه؟ من المحتمل أن لا يكون لدى الغرب اليوم سياسة بديلة لسياسة مهاوشة موسكو ومناكفتها، لنقل مركز اهتمامها من أوروبا إلى الشرق، واستنفاد طاقتها التوسعية هناك، فالبديل الوحيد عن سياسة إشعال الحروب والنزاعات وإدارتها هو إزالة أسبابها، وتغيير الشروط التي تولدها، ما يقتضي التعاون على صياغة جدول أعمال مختلف للسياسة الدولية، يتصدى، قبل أي شيء آخر، لمعالجة مشكلات الفقر والمرض والتخلف والتهميش الجماعي وتدهور البيئة وتنامي الجريمة وتدهور شروط الحياة السياسية والقانونية على امتداد المعمورة، وفي إثرها انحسار الثقة وفقدان الأمل واليأس من العالم والشك بالمستقبل.
من الواضح أن هذا ليس جدول أعمال الرئيس ترامب. وهو ليس، بالتأكيد، جدول أعمال بوتين أو خامنئي. وإذا استمرت الأمور في العالم على هذا المنوال، يخشى أن لا يتأخر الوقت كثيراً قبل أن يصبح كيم جونغ أون، رئيس كوريا الشمالية الذي يعيش في جزيرة منعزلة من صنعه، ولا يهمه مستقبل أحد، ولا مصير المجموع، أي المعمورة بأكملها، هو النموذج السائد والمحتذى في معظم أصقاع العالم.