08 يونيو 2023
انتصار زائف لنظام مأزوم في مصر
توقّع صاحب هذه السطور، في مقالتين سابقتين، أن نظام الرئيس المصري الحالي، عبد الفتاح السيسي، غير قادر على حشد المواطنين في الانتخابات، وهذا سر إصراره على أن يبقى وحيدا في السباق الانتخابي، إلى جانب غريزة البقاء في السلطة أطول مدة. لكن الانتخابات الرئاسية التي جرت قبل أيام أبرزت أمورا لم تنل اهتماما أو قدرا كافيا من التحليل، فقد تركزت التحليلات على منظر اللجان الخالية وضعف الإقبال. ولكن ثمّة أمور وراء ذلك يجب الانتباه إليها.
بدا الأمر، منذ لحظته الأولى، أشبه بالهزلي، فحالة الفراغ التي شهدتها اللجان أخفت أمرين أساسيين: لا يتعلق الأول فقط بالقطاع العريض من الشباب، بل بالدولة نفسها، فالبيروقراطية المصرية، والتي بدا واضحا عدم رضاها عن الرئيس الحالي، وعدم وقوفها في صفه، تلك البيروقراطية تمت هندستها على يد اللورد كرومر، ووضعت لتكون في خدمة الحاكم، وهذا ما استفاد منه فيما بعد جمال عبد الناصر ثم أنور السادات، ثم حسني مبارك الذي استطاع أن يروّضها لحسابه، ويطبعها بطابعه، نتيجة طول بقائه في السلطة، ولعلها دانت له بالولاء في أشد فترات حكمه صعوبة، وهي الفترة التي اندلعت فيها الانتفاضة المصرية في يناير/كانون الثاني 2011، ثم الاعتصام في ميدان التحرير 16 يوما في الميدان نفسه، حتى تخلي مبارك عن السلطة في 11 فبراير، هذه البيروقراطية هي التي ساهمت في صمود مبارك تلك الفترة، إذ حاولت أن تقوم بتيسير العمل داخل أروقة الدولة، وجعل الأمر اعتياديا في الجهاز البيروقراطي، من دون التأثير على الحالة المعيشية للمواطنين في أنحاء الجمهورية، هادفة إلى عزل ميدان التحرير عن قطاعات واسعة من الجماهير، وإظهاره بصورة المعطل عجلة الإنتاج، والسعي إلى هدم الدولة، وتقويض أسس الاستقرار، وتطبيع الحياة بدونه، وبالتالي القضاء على قوة الميدان وتأثيره مع الوقت.
أدرك الجنرال عبد الفتاح السيسي هذه النقطة، حينما كان وزيرا للدفاع، واستخدمها في التحضير للانقلاب، حينما جعل البيروقراطية (بوعي أو بدون وعي) أن تكون طرفا في الانقلاب، من خلال حالة الشلل التي فرضتها على الدولة بعدم ذهاب الموظفين إلى أعمالهم، ما يعني التأثير على الحياة المعيشية للكتل الجماهيرية المختلفة. ترويض البيروقراطية المصرية أمر عصي، لن يتم بين ليلة وضحاها، ويحتاج وقتا وجهدا، لأن هناك ترسانة من القوانين التي تولدت وتراكمت عبر الزمن، وأوجدت نوعا من التحصين لها. لذا كان الحل الوحيد الذي بادر
الجنرال إليه هو القفز على فكرة الدولة، وتعطيل العمل بالقوانين في بعض المواقف لمحاولة ترويض تلك البيروقراطية، ثم التلويح أخيرا بفرض حالةٍ من العقاب على من يتخلف عن الذهاب للمشاركة في الانتخاب، إلا أن المحصلة النهائية هي فشل الجنرال في ذلك.
ثانياً: وضح تماما عدم قدرة الجنرال على القيام بعملية الربط المصلحي بينه وبين الفئات الشعبية المختلفة، ولعل هذا يرجع، كما أشارت مقالة سابقة، إلى عدم امتلاك الجنرال حزبا سياسيا على طريقة الحزب الوطني التي استفاد منها حسني مبارك، لكن ما أصبح أكثر وضوحا، حتى أنه لو أنشأ حزبا سياسيا لن يستطيع أن يجعله على غرار الحزب الوطني، للقيام بعملية الربط المصلحي بينه وبين الفئات المختلفة، فجنرال اليوم ليس هو جنرال الأمس. كما أن هناك حالة من الفراغ السياسي الذي تملأه الأجهزة الأمنية، وهو ما يشكل خطرا حقيقيا على الأمن الوطني، ويخدم فقط جماعات التطرّف، وينذر بفشل أي مشروع سياسي سيقدم عليه الرئيس وأجهزته، فقد كانت هناك حملات وأحزاب مختلفة، أنشأتها الأجهزة الأمنية، لكنها لم تنجح ولم تؤد دورها، حيث إنها تفتقد إلى المشروع والرؤية السياسيتين، وتعمل بالأمر المباشر من تلك الأجهزة.
في تطور أشد خطورةً، لجأت الأجهزة الأمنية التي يحكم من خلالها الرئيس إلى الاتكاء على فكرة الحشد الطائفي من خلال الكنيسة المصرية، ما يعني الانحراف في المهمة الأساسية للكنيسة عن كونها المرشد الروحي والديني للأقباط المصريين، واطلاعها بلعب دور في الفضاء السياسي المصري لصالح النظام، وشخص الجنرال، وليس لمستقبل الدولة. وهذا في حد ذاته مغامرة بالكنيسة المصرية وبالأقباط، كونهم أحد المكونات الأصيلة للبعد التاريخي للمجتمع المصري. وفي الوقت نفسه، انقضاض على فكرة الوطنية المصرية التي بنيت على أساس الولاء للدولة، وليس للنظام السياسي، وهذا يذكّرنا بالموقف التاريخي الذي قام به توفيق باشا دوس، وكذلك يوسف قطاوي باشا، في لجنة كتابة دستور 1923، حينما رفض كلاهما الإشارة إلى الأقباط أو اليهود بأنهما أقليات في الدستور، وهو على عكس ما كانت عليه رغبة القصر الملكي آنذاك. يعكس هذا في حد ذاته أن القومية المصرية التي تشكلت، عبر عقود وعبر سنوات عدة، باتت في مأزق شديد، ولم تعد موجودة، بل أصابها الاضمحلال، كأي شيء في مصر الآن، وأصبحت الوطنية رمزا للوطنية العسكرية فقط وإلغاء ما عداها. أصبحت الأمور مقلقة للغاية أكثر مما كانت عليه من قبل، وأصبحت الدولة ببنيتها الحالية أكثر هشاشة ورخاوة، كما أصبح المجتمع مأزوما أكثر من أي وقت مضى، وفي أي لحظةٍ سيكون مقبلا على الانفجار.
بدا الأمر، منذ لحظته الأولى، أشبه بالهزلي، فحالة الفراغ التي شهدتها اللجان أخفت أمرين أساسيين: لا يتعلق الأول فقط بالقطاع العريض من الشباب، بل بالدولة نفسها، فالبيروقراطية المصرية، والتي بدا واضحا عدم رضاها عن الرئيس الحالي، وعدم وقوفها في صفه، تلك البيروقراطية تمت هندستها على يد اللورد كرومر، ووضعت لتكون في خدمة الحاكم، وهذا ما استفاد منه فيما بعد جمال عبد الناصر ثم أنور السادات، ثم حسني مبارك الذي استطاع أن يروّضها لحسابه، ويطبعها بطابعه، نتيجة طول بقائه في السلطة، ولعلها دانت له بالولاء في أشد فترات حكمه صعوبة، وهي الفترة التي اندلعت فيها الانتفاضة المصرية في يناير/كانون الثاني 2011، ثم الاعتصام في ميدان التحرير 16 يوما في الميدان نفسه، حتى تخلي مبارك عن السلطة في 11 فبراير، هذه البيروقراطية هي التي ساهمت في صمود مبارك تلك الفترة، إذ حاولت أن تقوم بتيسير العمل داخل أروقة الدولة، وجعل الأمر اعتياديا في الجهاز البيروقراطي، من دون التأثير على الحالة المعيشية للمواطنين في أنحاء الجمهورية، هادفة إلى عزل ميدان التحرير عن قطاعات واسعة من الجماهير، وإظهاره بصورة المعطل عجلة الإنتاج، والسعي إلى هدم الدولة، وتقويض أسس الاستقرار، وتطبيع الحياة بدونه، وبالتالي القضاء على قوة الميدان وتأثيره مع الوقت.
أدرك الجنرال عبد الفتاح السيسي هذه النقطة، حينما كان وزيرا للدفاع، واستخدمها في التحضير للانقلاب، حينما جعل البيروقراطية (بوعي أو بدون وعي) أن تكون طرفا في الانقلاب، من خلال حالة الشلل التي فرضتها على الدولة بعدم ذهاب الموظفين إلى أعمالهم، ما يعني التأثير على الحياة المعيشية للكتل الجماهيرية المختلفة. ترويض البيروقراطية المصرية أمر عصي، لن يتم بين ليلة وضحاها، ويحتاج وقتا وجهدا، لأن هناك ترسانة من القوانين التي تولدت وتراكمت عبر الزمن، وأوجدت نوعا من التحصين لها. لذا كان الحل الوحيد الذي بادر
ثانياً: وضح تماما عدم قدرة الجنرال على القيام بعملية الربط المصلحي بينه وبين الفئات الشعبية المختلفة، ولعل هذا يرجع، كما أشارت مقالة سابقة، إلى عدم امتلاك الجنرال حزبا سياسيا على طريقة الحزب الوطني التي استفاد منها حسني مبارك، لكن ما أصبح أكثر وضوحا، حتى أنه لو أنشأ حزبا سياسيا لن يستطيع أن يجعله على غرار الحزب الوطني، للقيام بعملية الربط المصلحي بينه وبين الفئات المختلفة، فجنرال اليوم ليس هو جنرال الأمس. كما أن هناك حالة من الفراغ السياسي الذي تملأه الأجهزة الأمنية، وهو ما يشكل خطرا حقيقيا على الأمن الوطني، ويخدم فقط جماعات التطرّف، وينذر بفشل أي مشروع سياسي سيقدم عليه الرئيس وأجهزته، فقد كانت هناك حملات وأحزاب مختلفة، أنشأتها الأجهزة الأمنية، لكنها لم تنجح ولم تؤد دورها، حيث إنها تفتقد إلى المشروع والرؤية السياسيتين، وتعمل بالأمر المباشر من تلك الأجهزة.
في تطور أشد خطورةً، لجأت الأجهزة الأمنية التي يحكم من خلالها الرئيس إلى الاتكاء على فكرة الحشد الطائفي من خلال الكنيسة المصرية، ما يعني الانحراف في المهمة الأساسية للكنيسة عن كونها المرشد الروحي والديني للأقباط المصريين، واطلاعها بلعب دور في الفضاء السياسي المصري لصالح النظام، وشخص الجنرال، وليس لمستقبل الدولة. وهذا في حد ذاته مغامرة بالكنيسة المصرية وبالأقباط، كونهم أحد المكونات الأصيلة للبعد التاريخي للمجتمع المصري. وفي الوقت نفسه، انقضاض على فكرة الوطنية المصرية التي بنيت على أساس الولاء للدولة، وليس للنظام السياسي، وهذا يذكّرنا بالموقف التاريخي الذي قام به توفيق باشا دوس، وكذلك يوسف قطاوي باشا، في لجنة كتابة دستور 1923، حينما رفض كلاهما الإشارة إلى الأقباط أو اليهود بأنهما أقليات في الدستور، وهو على عكس ما كانت عليه رغبة القصر الملكي آنذاك. يعكس هذا في حد ذاته أن القومية المصرية التي تشكلت، عبر عقود وعبر سنوات عدة، باتت في مأزق شديد، ولم تعد موجودة، بل أصابها الاضمحلال، كأي شيء في مصر الآن، وأصبحت الوطنية رمزا للوطنية العسكرية فقط وإلغاء ما عداها. أصبحت الأمور مقلقة للغاية أكثر مما كانت عليه من قبل، وأصبحت الدولة ببنيتها الحالية أكثر هشاشة ورخاوة، كما أصبح المجتمع مأزوما أكثر من أي وقت مضى، وفي أي لحظةٍ سيكون مقبلا على الانفجار.