11 أكتوبر 2024
مقطع انتخابي يجري في الجزائر
بلغ الأمر بالسياسة في الجزائر أقصى ما يمكن أن يبلغ بشأن استخدام كل الأدوات للتسويق لحملة انتخابية مبكرة. ولهذا تم التحضير لمخطّط إعلامي دقيق، طبعه توزيع للأدوار، بحبكةٍ يمكن وصفها بالدراما الرمضانية التي اعتاد الصائمون مشاهدتها في مختلف القنوات في الشهر الفضيل.
انطلقت مشاهد سيناريو هذه الدراما بقانون ماليةٍ تكميليّ عادي، يتم اللّجوء إليه، كل عام، لإعادة تنظيم الشؤون المالية للبلاد، وفق المستجدات التي لم يكن لقانون المالية السنوي أن يأخذها في الاعتبار. ومن بين المستجدات، بالنسبة لعام 2018، عودة ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية، إضافة إلى بروز الحاجة لضخّ ضرائب جديدة في الخزينة، رفعا للعجز المالي الذي سببه انخفاض تلك الأسعار نفسها.
ولم يكن لهذا القانون التّكميلي أن يمر من دون أن يسيّس، على الرغم من الظروف الصّعبة التي مرت وتمر بها الجزائر، منذ حوالي ثلاثة أعوام، وبرز هذا من خلال لعبة أدوار بين مؤسّستي الرّئاسة والحكومة، واللّتان حاولتا الاستفادة من ذلك كلّه، لفرض إدراك ورسم لصورة المتشدّد لمؤسّسة الحكومة والعقلانية، بلبوس الرحمة بالشعب، لمؤسسة الرئاسة.
بالنسبة للحبكة الدرامية، بدأت بمحاولة وسائل الإعلام، منذ نحو شهرين، ترويج رسوم على
الوثائق الإلكترونية التي تصدرها الدوائر الحكومية، والتي كانت الإدارة تنوي فرضها من خلال قانون المالية التكميلي، وهي رسوم باهظة لا تناسب القدرة الشرائية للمواطن الجزائري، كونها تعدّت كل ما يعمل به على المستوى العالمي.
تمّ التعامل إعلاميا مع هذه الرسوم على أنها مناسبة للاستثمار الكبير الذي على الدّولة استرجاعه، من خلال فرضها على كل مواطنٍ، يطلب تلك الوثائق، من دون الأخذ بالاعتبار لمتوسط أجور الجزائريين، إضافة إلى طابع الخدمة العمومية لتلك الوثائق، والتي لا يمكن أن تكون عملية استصدارها ربحية البتة.
من ناحية أخرى، انتشرت في وسائل الإعلام، وفي وسائل الاتّصال الاجتماعي، انتقادات لتلك الرسوم ولقانون المالية التكميلي، لتكتمل مشاهد السيناريو، من حيث إجرائية إصدار ذلك القانون، مناقشته ثم إقراره من مجلس الوزراء الذي كان مرجوّا، (أو مدعوّا) أن يعيد النظر أو يلغي، تماما، تلك الرّسوم، وهو ما حدث بالضبط. النهاية السعيدة.
إنه مخطّط تسويقي رائع لحملة انتخابية مبكرة، وذلك بإجماع التعليقات والتحليلات التي أعقبت اتخاذ مجلس الوزراء قرار إلغاء فرض تلك الرسوم، بحيث أن الأدوار بدت ظاهرة للعيان: مؤسستان، إحداهما تتشدد والأخرى تلين، ليصبح المشهد الكامل، في نهايته، تطبيقا حرفيا لمخطط تسويقي، ولكن طابع التكرار فيه بتفاصيله، جعله معروفا مسبقا للمشاهد.
ويكمن التّكرار، في هذا السيناريو، كونه جرى استنساخه من مشهدين آخرين، جريا منذ أشهر، بمناسبة محاولة الحكومة اتخاذ قرارين، وصفا بأنهما مصيريان، أحدهما خاص بخصخصة مؤسسات اقتصادية عمومية في إطار مشروع شراكة بين القطاعين، الخاص والعام. والآخر خاص بمنح أراض زراعية لمستثمرين، وهما قراران بدا أنهما فرضا لواقع اقتصادي جديد، تنهي به ما يعرف باليد العليا للدولة على القطاع الاقتصادي.
لماذا الحاجة إلى هذا المخطّط الإعلامي في شأن اقتصادي/ مالي بحت؟ ذلك هو السّؤال الذي تم طرحه، والذي لم تكن محاولة الإجابة عليه إلا إسقاطا لحالة إرباك/ ارتباك، تقع فيه السّلطة، كلما حاولت مقاربة الرّئاسيات المقبلة (2020)، حيث لا تدرس هل ستمضي في الإبقاء على الحال، كما هو أم تخطط، حقيقة، لسيناريو آخر تحدثت عنه مقالة سابقة لكاتب هذه السطور في "العربي الجديد"، وهو "الجمهورية الثانية"، حيث يبدو التردّد بين الموقفين واضحا.
وبما أن شأن الارتباك هو عدم الانتباه إلى عملية تكرار مشاهد تم بثها من قبل، فقد سعت السلطة إلى فرض إدراك هرمية قرارية موجودة فعلا. ولكن في مضمون الإقرار للقوانين، ليس في إطار مراجعتها، كما يجري ذلك في كل الأنظمة السياسية، ويعرف باسم "الأثر العكسي"، بل في إطار حبكةٍ، يبدو منها تعمّد التشدد، بداية، ثم، في إطار عملية تشبه بناء سيناريوهات الدراما، انتظار اللحظة المناسبة لتسجيل "النهاية السعيدة"، بتدخل مؤسسة الرئاسة لإقرار التعديل/ المراجعة/ الإلغاء لقراراتٍ غير منطقية، لا يراد منها التسيير للشأن العام، بل إحداث ذلك الانتظار، رسم ذلك الإدراك، ثم رفع "جنيريك" ذلك الإخراج للمشهد النهائي السعيد.
هناك سؤال آخر طرحه محللون عديدون، وهو يتعلّق بمنهجية رسم تلك السياسة في الجزائر. تطبع الرتابة الحياة السياسية في الجزائر، وهي منهجية أصبحت واضحة للعيان، هدفها خريطة طريق، بخيارين لا ثالث لهما، الانتخابات الرئاسية بالسيناريو نفسه المعد، والمعروف سلفا، أو بحبكة تشبه حبكة عام 1979 غداة وفاة الرئيس هواري بومدين، والذي تولدت عنه الإبقاء على مقاربة الاختيار نفسه، ولكن من داخل "الصندوق الأسود" الذي تمتلك السلطة، وحدها، أسراره منذ 1962.
وما يدلّ على وضوح تلك المنهجية، من حيث الشّكل، مسارعة "الموالاة" (أحزاب موالية
لبرنامج الرّئيس) لطلب ترشّح الرئيس الحالي لعهدة خامسة، وهي المسارعة التي رفضتها مؤسسة الرئاسة في البداية، ثم تم إقرارها، ولكن بمضمونٍ وشكلٍ جديدين. تتحكّم مؤسسة الرئاسة في وتيرة تلك المطالبة، وكذا المخطّط الإعلامي المرافق لها (الحديث عن الإنجازات) إضافة، طبعا، إلى إقرار مخطط تلك الهرمية القرارية، مع تسجيل أولوية الكلمة العليا لمؤسّسة الرئاسة، تسجيلا لموقف تحكّمها في مقاليد عملية اتخاذ القرار، على الرّغم من كل ما يقال. خصوصا أن القرار الذي نحن بصدده جاء متزامنا، هذه المرّة، مع الموقف الحازم من شريط فيديو لصحافية بلجيكية/ جزائرية، تم بثه من مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، انتقدت فيه جمود الحياة السياسية في البلاد. ولكن بطريقة بعيدة عن أعراف الانتقاد السياسية، المقبولة والمعروفة.
من حيث المضمون، وهنا مربط الفرس والشّاهد من كل ما سبق، فهو غلق أبواب أية حركية سياسية محتملة في أفق تلك الانتخابات الرئاسية، وهو ما فهمته الأحزاب، ومنها التي أصبحت تعرف بــ"المعارضة" (الشكلية). ولعل ما يدلّل على هذا خطاب زعيم حركة المجتمع الإسلامي (حمس)، عبد الرزاق مقري، أخيرا، وقد تحدث فيه عن تشريعيات 2022، وكأن الحياة السياسية في الجزائر لا تتضمن إلا فضاء واحدا "للتنافس السياسي"، هو كل ما يقع خارج كرسي الرئاسة الذي يبقى شأنا حصريا للسلطة، تخطيطا، تحريكا وتنفيذا.
في النهاية، ما يمكن قوله، هنا، هو التأكيد على أنّ كل ما يجري لن ينتهي، حتما، إلا إلى خيار ثالث، هو الخيار المجتمعي، ولصالح جزائر المستقبل، من خلال فتح باب الحديث/ النقاش بشأن "الجمهورية الثانية"، أي طي صفحة "الشّكليات"، "الموالاة"، "المعارضة الشكلية"، ورسم خريطة طريق، تكون نهايتها السعيدة: الجزائر دولة ناشئة في حدود 2030. و إنّ غدا لناظره لقريب. وهذا هو السيناريو المحبّذ لجزائر المستقبل.
انطلقت مشاهد سيناريو هذه الدراما بقانون ماليةٍ تكميليّ عادي، يتم اللّجوء إليه، كل عام، لإعادة تنظيم الشؤون المالية للبلاد، وفق المستجدات التي لم يكن لقانون المالية السنوي أن يأخذها في الاعتبار. ومن بين المستجدات، بالنسبة لعام 2018، عودة ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية، إضافة إلى بروز الحاجة لضخّ ضرائب جديدة في الخزينة، رفعا للعجز المالي الذي سببه انخفاض تلك الأسعار نفسها.
ولم يكن لهذا القانون التّكميلي أن يمر من دون أن يسيّس، على الرغم من الظروف الصّعبة التي مرت وتمر بها الجزائر، منذ حوالي ثلاثة أعوام، وبرز هذا من خلال لعبة أدوار بين مؤسّستي الرّئاسة والحكومة، واللّتان حاولتا الاستفادة من ذلك كلّه، لفرض إدراك ورسم لصورة المتشدّد لمؤسّسة الحكومة والعقلانية، بلبوس الرحمة بالشعب، لمؤسسة الرئاسة.
بالنسبة للحبكة الدرامية، بدأت بمحاولة وسائل الإعلام، منذ نحو شهرين، ترويج رسوم على
تمّ التعامل إعلاميا مع هذه الرسوم على أنها مناسبة للاستثمار الكبير الذي على الدّولة استرجاعه، من خلال فرضها على كل مواطنٍ، يطلب تلك الوثائق، من دون الأخذ بالاعتبار لمتوسط أجور الجزائريين، إضافة إلى طابع الخدمة العمومية لتلك الوثائق، والتي لا يمكن أن تكون عملية استصدارها ربحية البتة.
من ناحية أخرى، انتشرت في وسائل الإعلام، وفي وسائل الاتّصال الاجتماعي، انتقادات لتلك الرسوم ولقانون المالية التكميلي، لتكتمل مشاهد السيناريو، من حيث إجرائية إصدار ذلك القانون، مناقشته ثم إقراره من مجلس الوزراء الذي كان مرجوّا، (أو مدعوّا) أن يعيد النظر أو يلغي، تماما، تلك الرّسوم، وهو ما حدث بالضبط. النهاية السعيدة.
إنه مخطّط تسويقي رائع لحملة انتخابية مبكرة، وذلك بإجماع التعليقات والتحليلات التي أعقبت اتخاذ مجلس الوزراء قرار إلغاء فرض تلك الرسوم، بحيث أن الأدوار بدت ظاهرة للعيان: مؤسستان، إحداهما تتشدد والأخرى تلين، ليصبح المشهد الكامل، في نهايته، تطبيقا حرفيا لمخطط تسويقي، ولكن طابع التكرار فيه بتفاصيله، جعله معروفا مسبقا للمشاهد.
ويكمن التّكرار، في هذا السيناريو، كونه جرى استنساخه من مشهدين آخرين، جريا منذ أشهر، بمناسبة محاولة الحكومة اتخاذ قرارين، وصفا بأنهما مصيريان، أحدهما خاص بخصخصة مؤسسات اقتصادية عمومية في إطار مشروع شراكة بين القطاعين، الخاص والعام. والآخر خاص بمنح أراض زراعية لمستثمرين، وهما قراران بدا أنهما فرضا لواقع اقتصادي جديد، تنهي به ما يعرف باليد العليا للدولة على القطاع الاقتصادي.
لماذا الحاجة إلى هذا المخطّط الإعلامي في شأن اقتصادي/ مالي بحت؟ ذلك هو السّؤال الذي تم طرحه، والذي لم تكن محاولة الإجابة عليه إلا إسقاطا لحالة إرباك/ ارتباك، تقع فيه السّلطة، كلما حاولت مقاربة الرّئاسيات المقبلة (2020)، حيث لا تدرس هل ستمضي في الإبقاء على الحال، كما هو أم تخطط، حقيقة، لسيناريو آخر تحدثت عنه مقالة سابقة لكاتب هذه السطور في "العربي الجديد"، وهو "الجمهورية الثانية"، حيث يبدو التردّد بين الموقفين واضحا.
وبما أن شأن الارتباك هو عدم الانتباه إلى عملية تكرار مشاهد تم بثها من قبل، فقد سعت السلطة إلى فرض إدراك هرمية قرارية موجودة فعلا. ولكن في مضمون الإقرار للقوانين، ليس في إطار مراجعتها، كما يجري ذلك في كل الأنظمة السياسية، ويعرف باسم "الأثر العكسي"، بل في إطار حبكةٍ، يبدو منها تعمّد التشدد، بداية، ثم، في إطار عملية تشبه بناء سيناريوهات الدراما، انتظار اللحظة المناسبة لتسجيل "النهاية السعيدة"، بتدخل مؤسسة الرئاسة لإقرار التعديل/ المراجعة/ الإلغاء لقراراتٍ غير منطقية، لا يراد منها التسيير للشأن العام، بل إحداث ذلك الانتظار، رسم ذلك الإدراك، ثم رفع "جنيريك" ذلك الإخراج للمشهد النهائي السعيد.
هناك سؤال آخر طرحه محللون عديدون، وهو يتعلّق بمنهجية رسم تلك السياسة في الجزائر. تطبع الرتابة الحياة السياسية في الجزائر، وهي منهجية أصبحت واضحة للعيان، هدفها خريطة طريق، بخيارين لا ثالث لهما، الانتخابات الرئاسية بالسيناريو نفسه المعد، والمعروف سلفا، أو بحبكة تشبه حبكة عام 1979 غداة وفاة الرئيس هواري بومدين، والذي تولدت عنه الإبقاء على مقاربة الاختيار نفسه، ولكن من داخل "الصندوق الأسود" الذي تمتلك السلطة، وحدها، أسراره منذ 1962.
وما يدلّ على وضوح تلك المنهجية، من حيث الشّكل، مسارعة "الموالاة" (أحزاب موالية
من حيث المضمون، وهنا مربط الفرس والشّاهد من كل ما سبق، فهو غلق أبواب أية حركية سياسية محتملة في أفق تلك الانتخابات الرئاسية، وهو ما فهمته الأحزاب، ومنها التي أصبحت تعرف بــ"المعارضة" (الشكلية). ولعل ما يدلّل على هذا خطاب زعيم حركة المجتمع الإسلامي (حمس)، عبد الرزاق مقري، أخيرا، وقد تحدث فيه عن تشريعيات 2022، وكأن الحياة السياسية في الجزائر لا تتضمن إلا فضاء واحدا "للتنافس السياسي"، هو كل ما يقع خارج كرسي الرئاسة الذي يبقى شأنا حصريا للسلطة، تخطيطا، تحريكا وتنفيذا.
في النهاية، ما يمكن قوله، هنا، هو التأكيد على أنّ كل ما يجري لن ينتهي، حتما، إلا إلى خيار ثالث، هو الخيار المجتمعي، ولصالح جزائر المستقبل، من خلال فتح باب الحديث/ النقاش بشأن "الجمهورية الثانية"، أي طي صفحة "الشّكليات"، "الموالاة"، "المعارضة الشكلية"، ورسم خريطة طريق، تكون نهايتها السعيدة: الجزائر دولة ناشئة في حدود 2030. و إنّ غدا لناظره لقريب. وهذا هو السيناريو المحبّذ لجزائر المستقبل.