01 فبراير 2019
نهاية عالم
تنشغل مراكز التفكير ومعاهد البحث وكبريات المجلات والصحف المتخصّصة في محاولات عسيرة، لتحديد الملامح الغامضة للعالم "الجديد" الذي يتردّد في الإعلان عن نفسه، على مستويات العلاقات الدولية والنظام الدولي والثقافة السياسية ومنظومات القيم والأفكار السائدة. ينضاف إلى ذلك جهد واضح لمفكرين ومنظّرين ومثقفين، في رصد مظاهر التحول الذي يطاول السياسة الدولية ومؤشراته وأبعاده وحدوده.
وفي توصيف ذلك، تكاد تتشكّل، منذ سنوات قليلة، نوعية خاصة من الأدبيات التي تعتني بسؤال العالم الجديد ومضامينه الاستراتيجية والإيديولوجية والاقتصادية والسياسية، وهي كثيرا ما تبرز وتتكاثر في اللحظات المفصلية الكبرى للتاريخ السياسي للعالم. ولعل جديد محطاتها ما عرفته البشرية، في نهاية التسعينات وبداية الألفية، من فورة للتحاليل والقراءات التي حاولت تفكيك المعنى العميق الذي قاد العالم إلى ما عبّرت عنه، بكل مشهديةٍ مليئة بالشحنة الدراماتيكية، لحظة انهيار جدار برلين.
المقارنة بين ما نعيشه اليوم من قلق وأسئلة وما عرفه العالم إبّان تلك اللحظة، تبدو جدّ
مشروعة، فإذا كان انهيار الكتلة الاشتراكية وما رافقه من انهيار للتوازنات التي تأسست عليها مرحلة الحرب الباردة قد سمح بتبلور محاولات عديدة ساعية إلى تقديم إطارات نظرية ومرجعيات فكرية تسمح بقراءة التطورات وأشكال الصراع المتحولة (كان هنتنغتون في معرض التأسيس لأطروحة صراع الحضارات قد تحدث عن أربعة نماذج نظرية: العالم الوحيد الذي استعاد انسجامه الإيديولوجي، العالمين المتصارعين وفقا لمعيار الاستقرار أو التوتر، تعدّد الدول وتعقد الخريطة الدولية، وباراديم الفوضى العارمة والعالم الخارج عن المراقبة)، فإن لحظة اليوم تستدعي بالتأكيد قدرا من الاجتهادات في النظر والتحليل والفهم.
عنونت إحدى الأسبوعيات الفرنسية، في الشهر الماضي (يوليو/ تموز) غلافها بجملة مثيرة: نهاية العالم، في العنوان الفرعي وبخط أقلّ بروزا، نقرأ تتمة الجملة، لكي نفهم أن العالم المقصود بالنهاية هو العالم الذي نعرف. وفوق العنوان الرئيس وضعت هذه الكلمات: ترامب، الحمائية، الهجرة، التكنولوجيات...
في كل التحاليل التي تُعنى بفكّ أسرار هذا العالم الجديد، تتواتر مؤشراتٍ كثيرة، تبدأ بصعود الشعبويات الوطنية وحيوية الهويات الفرعية، وتطاول أزمات الليبرالية وانحباس مسارات الديمقراطية وتأجج حروب التجارة وتزايد الإرهاب، ولا تكاد تنتهي بمخاطر البيئة والمناخ.
في كتابه الذي سيصدر الشهر المقبل "الهوية.. الطلب على الكرامة وسياسات الاستياء"، يعود فرانسيس فوكوياما إلى المفهوم الهيغيلي للاعتراف الذي بنى عليه غالبية أطروحاته، ليلاحظ أن الاعتراف الذي يأمله كل مواطن حر داخل ديمقراطية ليبرالية لم يعد كافيا للجواب على الطلب الشعبي الواسع بالاعتراف بالهويات الجماعية وتعبيراتها السياسية. وهنا ينتبه صاحب "نهاية التاريخ" الى الحالة الأميركية، حيث إن الطلب على سياسات الاعتراف الهوياتي، إذا كان قد انطلق يسارا (الأقليات الأفروأميركية، المختلفون..) فقد تحول إلى اليمين مع مطالب الأميركيين البيض أنفسهم باعتراف أكبر داخل المجال العام.
لذلك يدافع فوكوياما عن إعادة بناء تصور إدماجي للهوية الوطنية، قاعدة أساسية للديمقراطية. من دون ذلك، لا يبدو هذا المفكر متفائلا بالنسبة لمستقبل ما يسميه عالما حرا ومفتوحا، صنعته الديمقراطيات التّقدمية منذ أوساط القرن الماضي. ويبدو اليوم قيد الهدم من طرف قوميات شعبوية، تتنافس حول غلق الحدود وصناعة الخوف من الانفتاح.
في عدد هذا الصيف من المجلة الأميركية المرموقة "Foreign Affairs" الهاجس الفكري نفسه: كيف نفهم عالما جديدا قيد التشكل. وفي الأجوبة التي تقدمها نخبة من علماء السياسة
والاقتصاد والقانون وكبار المؤرخين، هناك امتدادات للمقاربات التي ظلت حاضرةً في تأطير النظر إلى العلاقات الدولية، من قبيل المدرستين الليبرالية والواقعية، أو حتى ما تبقى من قراءات ماركسية تغلب العوامل الاقتصادية. وإلى جانب هذه الرؤى المألوفة، ثمّة تصورات مبنية على نفس كارثي، يقدم لوحة سوداء لتفاعلات النظام الدولي، على ضوء المصائب الحتمية للتغيرات المناخية وللحرب الرأسمالية على البيئة، فضلا عن مقاربة تتقمّص مفهوم القبيلة، لتطور تحليلا ينظر للعالم من زاوية اصطفافات قبلية جديدة، تلعب فيها الهويات أدوارا أكبر بكثير من القوميات أو الأيديولوجيات.
انطلاقا من رصده الحالة السياسية الفرنسية، لا يبدو المفكّر ألان تورين، في كتابه الجديد "القرن السياسي الجديد"، بعيدا عن الانشغالات ذات الصلة بعالمنا الجديد، ذلك أن كثيرا من خلاصات تأملاته تنسحب على عمومية التحولات التي طاولت الثقافة السياسية والمرجعيات الأيديولوجية للأنظمة السياسية الحديثة، بالقدر ذاته الذي تنطلق من خصوصية التجربة الفرنسية.
دلالات العصرالسياسي الجديد الذي ولجته فرنسا، ومعها العالم بكل تأكيد، ترتبط بالانفجار المدوي لثنائية اليسار واليمين، والتي باتت عاجزةً عن تأطير الجواب على الأسئلة الجديدة لمجتمعات اليوم، حيث تم تعويض النقاش حول المسألة الاجتماعية باعتبارها محورا مهيكلا للسياسة في العصر السابق بالنقاش حول المسألة الوطنية، وحيث قضايا الدين والعلمانية والهوية والإرهاب والبيئة باتت تشكل جدول أعمال العالم الجديد.
وفي توصيف ذلك، تكاد تتشكّل، منذ سنوات قليلة، نوعية خاصة من الأدبيات التي تعتني بسؤال العالم الجديد ومضامينه الاستراتيجية والإيديولوجية والاقتصادية والسياسية، وهي كثيرا ما تبرز وتتكاثر في اللحظات المفصلية الكبرى للتاريخ السياسي للعالم. ولعل جديد محطاتها ما عرفته البشرية، في نهاية التسعينات وبداية الألفية، من فورة للتحاليل والقراءات التي حاولت تفكيك المعنى العميق الذي قاد العالم إلى ما عبّرت عنه، بكل مشهديةٍ مليئة بالشحنة الدراماتيكية، لحظة انهيار جدار برلين.
المقارنة بين ما نعيشه اليوم من قلق وأسئلة وما عرفه العالم إبّان تلك اللحظة، تبدو جدّ
عنونت إحدى الأسبوعيات الفرنسية، في الشهر الماضي (يوليو/ تموز) غلافها بجملة مثيرة: نهاية العالم، في العنوان الفرعي وبخط أقلّ بروزا، نقرأ تتمة الجملة، لكي نفهم أن العالم المقصود بالنهاية هو العالم الذي نعرف. وفوق العنوان الرئيس وضعت هذه الكلمات: ترامب، الحمائية، الهجرة، التكنولوجيات...
في كل التحاليل التي تُعنى بفكّ أسرار هذا العالم الجديد، تتواتر مؤشراتٍ كثيرة، تبدأ بصعود الشعبويات الوطنية وحيوية الهويات الفرعية، وتطاول أزمات الليبرالية وانحباس مسارات الديمقراطية وتأجج حروب التجارة وتزايد الإرهاب، ولا تكاد تنتهي بمخاطر البيئة والمناخ.
في كتابه الذي سيصدر الشهر المقبل "الهوية.. الطلب على الكرامة وسياسات الاستياء"، يعود فرانسيس فوكوياما إلى المفهوم الهيغيلي للاعتراف الذي بنى عليه غالبية أطروحاته، ليلاحظ أن الاعتراف الذي يأمله كل مواطن حر داخل ديمقراطية ليبرالية لم يعد كافيا للجواب على الطلب الشعبي الواسع بالاعتراف بالهويات الجماعية وتعبيراتها السياسية. وهنا ينتبه صاحب "نهاية التاريخ" الى الحالة الأميركية، حيث إن الطلب على سياسات الاعتراف الهوياتي، إذا كان قد انطلق يسارا (الأقليات الأفروأميركية، المختلفون..) فقد تحول إلى اليمين مع مطالب الأميركيين البيض أنفسهم باعتراف أكبر داخل المجال العام.
لذلك يدافع فوكوياما عن إعادة بناء تصور إدماجي للهوية الوطنية، قاعدة أساسية للديمقراطية. من دون ذلك، لا يبدو هذا المفكر متفائلا بالنسبة لمستقبل ما يسميه عالما حرا ومفتوحا، صنعته الديمقراطيات التّقدمية منذ أوساط القرن الماضي. ويبدو اليوم قيد الهدم من طرف قوميات شعبوية، تتنافس حول غلق الحدود وصناعة الخوف من الانفتاح.
في عدد هذا الصيف من المجلة الأميركية المرموقة "Foreign Affairs" الهاجس الفكري نفسه: كيف نفهم عالما جديدا قيد التشكل. وفي الأجوبة التي تقدمها نخبة من علماء السياسة
انطلاقا من رصده الحالة السياسية الفرنسية، لا يبدو المفكّر ألان تورين، في كتابه الجديد "القرن السياسي الجديد"، بعيدا عن الانشغالات ذات الصلة بعالمنا الجديد، ذلك أن كثيرا من خلاصات تأملاته تنسحب على عمومية التحولات التي طاولت الثقافة السياسية والمرجعيات الأيديولوجية للأنظمة السياسية الحديثة، بالقدر ذاته الذي تنطلق من خصوصية التجربة الفرنسية.
دلالات العصرالسياسي الجديد الذي ولجته فرنسا، ومعها العالم بكل تأكيد، ترتبط بالانفجار المدوي لثنائية اليسار واليمين، والتي باتت عاجزةً عن تأطير الجواب على الأسئلة الجديدة لمجتمعات اليوم، حيث تم تعويض النقاش حول المسألة الاجتماعية باعتبارها محورا مهيكلا للسياسة في العصر السابق بالنقاش حول المسألة الوطنية، وحيث قضايا الدين والعلمانية والهوية والإرهاب والبيئة باتت تشكل جدول أعمال العالم الجديد.