09 نوفمبر 2024
الجزائر.. الصّمت عنوان "استمرارية" الوضع السيّاسي
يتغنّى الجزائريون، حتى من غير الناطقين بالأمازيغية، بأغنية شهيرة للمغنّي الفيلسوف آيت منجلات، تحمل عنوانا صارخا يناسب حال بلادهم، مطلعها "نم قرير العين، فلم يحن الوقت بعد حتى تتكلّم..". وهو لسان حال الجزائريين، الآن، بل منذ الاستقلال، بشأن ما يخصّ الشّأن العام، وخصوصا منه الذي يرتكز عليه مصير تسيير السيّاسة العامّة للبلاد، وعلى كل المستويات، من القاعدة (البلدية) إلى القمة (الرئاسة)، مرورا بغرفتي التشريع (العليا والسفلى للبرلمان). كانت تلك مقدّمة للحديث، مرة أخرى، عن الصّمت السياسي من الموالاة والمعارضة، على حد سواء، حيال ما ينتظر الجزائر من انتخابات مصيرية في 2019.
مرّ الصيف، بأحداثه و أحاديثه، سريعا، لكنه كان حاملا نقاشاتٍ كثيرة أدارتها، كما جرت العادة، أحزابٌ موالية "للصمت"، حيث انطلق المسار من رفض مسرحية عرض مبادرة للتوافق من حزبٍ خرج من السّلطة (التحالف الرئاسي)، ويريد العودة إليها بأسرع ما يمكن تحسّبا، ليس لانتخابات 2019، بل لقطعة الكعكة التي ينتظرها من تشريعيـــات... 2022، وعلى الرغم من اجتماعات ولقاءات، إلا أن ذلك كله كان مقدمة لإرساء صمتٍ يسمعه الجميع، ويقبله الكل، عنوانه "الاستمرارية".. تحالف قديم/ جديد بشأن مسألةٍ لا تقبل النّقاش، بل هي من جملة مسائل "المقدّس"، الاستمرارية.
تستدعي تلك الاستمرارية، باعتبارها، بالنسبة للحالة الجزائرية، مكوّنا رئيسا، بل وحيدا، للثقافة السياسية لمنظومة الحكم في البلاد، أربع ملاحظات، تحلّل لرؤى الحكم (موالاة ومعارضة)، النّخبة، الشخصيات الوطنية، ثم، في الأخير، لرؤى مستقبلية (بحركية المجتمع المدني)، قد تؤدّي إلى معرفة اتّجاهات الحكم حيال سلوك الكلّ بشأن انتخابات 2019 الرئاسية.
الحديث عن الصمت، في مقاربة سلوك ممثلي الدائرة المقرّبة من الحكم، هو حديثٌ عن صوتٍ واحد، يعلو إزاء صمت إرادي ومفروض على الجميع، وهو الصوت الذي يُخرس، متى أراد،
بمنظومته الإعلامية وقدرته على النّفاذ إلى وعي الرأي العام الوطني، كل الأصوات، ليصنع مشهدا لطالما وُصف بأنه صمتٌ يشبه صمت الأموات أو، عودة إلى الأغنية المذكورة، صمت النائمين على الدوام، نائمين بأمرٍ من السلطة، وممنوعين من الاستيقاظ إلى إشعار (شكلا ومضمونا)، تراه المنظومة تلك حينا لائقا لقول ما تريده، أو ترديد ما تراه مناسبا.
يرتكز ذلك الصمت (إيجادا ورعاية) على منظومة إعلامية تُسيّر، بقوانين، أقلام مردّدي الاستمرارية وأسنتهم، خيارا وحيدا للجزائر، وهو صمت تشهره تلك المنظومة في وجه من يريد رفع صوته بمنع الإشهار عنه، أو رفع سيف الديون لدى المطابع (كلها عمومية) كما يمكن أن يُنعت من له إرادة للتغريد خارج السرب بأنه خارج منظومة الخير أو الوطنية، كما يسعى إلى القول، في كل مشهد ولقاء، مردّدوا خطاب "الاستمرارية". وهذه تعني، في ذلك الخطاب، منعا للتغيير، وإملاءً لظروفٍ يُقال إنها مناط استقرار البلاد، ارتكازا على منجزات جزءُ منها موجود، ولا يمكن إنكاره، في حين أن كثيره، وخصوصا في الاقتصاد، التعليم، المجتمع، الصحة، إلخ.. يعاني من إعادة نظر، حتى لا نقول إيجاد قطيعة معه (الوضع) شكلا ومضمونا.
يُشارك في صنع مشهد الصّمت كل من الموالاة ومن يُسمّون المعارضة في بلدٍ تكاد تلك الفئة من "السياسيين" تمارس هوايتها المفضّلة أي النوم، ولا يكاد أحد يسمع لها صوتا إلا فيما ندر، ومن بعض الوجوه التي تحاول كسر جداره، وإيجاد ظروف سلوكٍ يوحي بأنه المخرج من تلك الثقافة السياسة "العدمية".
تتشكّل تلك المعارضة من لفيفٍ يمارس، هو نفسه، ثقافة "الاستمرارية"، حيث يتربّع بعضهم على عرش بُنى "الصمت" مددا تفوق، في بعضها، أو تقارب، مدة تربّع معمر القذّافي على كرسي الرئاسة في ليبيا. وعلى الرغم من ذلك، فهي، في أحيان كثيرة، وهو ما يُعترف لها، لا تتعرّض، في خطابها، إلى الاستمرارية، إلا بأنها مرادفة للاستقرار داخل الأحزاب، وهو استقرار يحمل معنى واحدا، لا غير، الاستفادة من معين الرّيع وكراسي التعيينات، أو البرلمان (بغرفتيه). وفي أحيان أخرى، تفرح بإرسالها بيانا بشأن حدثٍ ما، أو عندما تُدعى إلى اجتماع تكريسا لذلك الصمت، على غرار دعوات تقنين "الصمت في إطار تعديل "دستورٍ"، يضمن "الاستمرارية".
خرجت علينا تلك "المعارضة" في السنوات الأخيرة بمصطلح "الانقلاب العلمي"، لوصف أية محاولة لتغيير شكـــل الوقوف في وجه ثقافة "الصمت" وسلوكه، بل تستعين بقوانين ومنظومات نصوص إدارية، ضمنت لها "الاستمرارية" لتكون، حقيقة لا مجازا، غير معنية ولا مهتمة، بسعي بعضهم إلى إيقاظ الهمم، بقصد الحديث بعد طول صمت... طبعا، لم نشأ الحديث، هنا، عن يسار أو يمين، محافظ أو قومي، إسلامي أو علماني، فالكل نائمٌ أو يمارس هواية الدعوة إلى البقاء على تلك الوضعية.
نصل، في المقام الثالث، إلى النّخبة، وهي، باعتبارها طبقة وسطى، رمّانة التغيير في أي مجتمع. وبالنسبة للجزائر، تقف ثلاثة مواقف، إمّا الاصطفاف أو الإقصاء أو الرحيل. من خياره الاصطفاف يزيّن لثقافة الصّمت، بل يتحدّث عن حياة رغيدة في إطار "الاستمرارية"، ولا تكاد تراه إلا في موقف المطبّل بكتاباته، أو من خلال تغريداته وتصريحاته، خدمةً، كما يدّعي، لمشروع "قومي"، مراميه الأساسية الحفاظ على توازن المؤسسات والإنقاذ للبلاد من براثن "مغامرات التغيير"، وديدن تلك النخب تخيير الشعب بين "الاستمرارية" و"الذهاب نحو غياهب مشاريع تهديم الدول"، والأمثلة كثيرة، بعضها قريب وآخر تنقله يوميا، بل كل ساعة، شاشات التلفزيون، نشرات الأخبار، وعلى مدار الدقائق والثواني، وسائل التواصل الاجتماعية و الشبكة العنكبوتية.
هناك فئة اختارت الصمود، ورفعت لواء الدفاع عن قيم تراها أساس التغيير، وهي، بما تملكه من علم وثقافة، منخرطة في كل النشاطات، وموجودة على كل المستويات. تعيش هذه الفئة مقصاةً من كل شيء، ولا تُرفع لها راية للترقية، بل تدفع إلى الانزواء في أركان النسيان، لكنها ما زالت تمانع وتدافع، تقاوم بما لديها من إمكانات. وقد خيّرت هذه الفئة بين البقاء في العوز والإقصاء أو الرحيل، وهو ما اختارته، مرغمةً، قامات علمية، فرضت احترامها أينما وُجدت، وما زالت تحمل للجزائر أحلاما بالنهوض، وتعرض، كما يفعل بعضهم بالعودة إلى الوطن، أو بالمجيء لإلقاء المحاضرات، خدماتِها آملةً صنع التغيير.
أمّا الشّخصيات الوطنية التي يُعوّل عليها للعب دور الوسيط بين إرادة التغيير و"الاستمرارية" فهي، أيضا، خُيرت، لبعضٍ منها، بين "الصمت" مقابل بعض الامتيازات، في حين أن آخرين يحاولون استغلال مذكراته، ودعوات الذاكرة في المناسبات الوطنية، لإلقاء نداءات، ورفع الصوت أمام موجة الصمت التي اجتاحت البلاد، وحوّلتها إلى فضاء للنوم إلى إشعارٍ لا نراه في عتمة "الاستمرارية".
تملك هذه الشخصيات وزنا حقيقيا للعب دور تلك الوساطة، وهي على وعي بذلك الدور ورمزيته لدى الجميع، حكاما ومحكومين، وقد أدى كثيرون منهم ما كان يؤمّل منه، على غرار فرحات عباس، محمد بوضياف، أحمد آيت أحمد، يوسف بن خدة، وآخرين كثيرين صدقوا وما زالوا، بالنسبة لمن بقي حيا يُرزق.
المستقبل آتٍ، ويحمل نُذُر الخير وبشائر الأمل، لما في الجزائر من قدرات، وخصوصا البشرية
التي تؤمن بالمخرج من "الاستمراريّة"، وصنع "أمل الحركيّة". والصمت، و إن دام، والجمود، و إن طال، سيزولان حتما، وحركية المجتمع، كما كتب صاحب هذه السطور في عدة مقالات في "العربي الجديد"، باديةٌ لمن يريد تحرّيها، وهي وإن كانت خافتة، إلا أنها قضت على النوم الطويل، والصمت المديد اللذين أُريد للبلاد أن تبدو غارقة فيهما.
كيف نحاكم "الاستمرارية" أو نقيّمها؟ إشكالية تدلّل على الإجابة بشأنها مقاربات السياسة العامة التي تنطلق من الفكرة، تؤسّس للمشروع، تُخطّط للتنفيذ، ثم تُقوّم الأخطاء، وتُقيّم المراحل المنجزة، وصولا إلى استشراف المستقبل، وهي، وهذا اعتراف، بالنسبة للجزائر، أنجزت أشياء، وفاتتها أشياء، ومناط ما فاتها هو التغيير.
العجيب، في هذا المقام، أن ظاهرة الحكم، في لغتنا، سّميت "دولة". أي عزّ لهذا اليوم ذلّ (بمعنى البعد عن الحكم والدخول في المعارضة) لآخر، غدا، حكم لبعضهم، اليوم، تداول، غدا، للآخر. وهكذا هي حركية التاريخ، " وتلك الأيام نداولها بين الناس". أما في الغرب، فقد حملت الظاهرة مسمّى الجمود (State)، أو بقاء الحال على وضعه "صامتا" و"جامدا"، على الرغم من ذلك، يوجد الجمود عندنا، والتداول عندهم، وهو جمود، دأبنا على تسميته "الاستمرارية" من دون فرصة لإعمال المراحل التي أشير إليها بشأن السياسة العامة، أيّا كانت، ومنها، طبعا، بل في مقدمتها مسألة الحكم و"التداول" عليها.
مصير "الاستمرارية" المرور من خلال قوانين التقييم/ التقويم، ويومها، نعترف بقيمة ما أُنجز، ونعرف ما قطعناه من طريق، وما بقي من مفاوز علينا قطعها، معا. إنّها حركية "مجتمعية" تحتاج للجميع. هل حان وقت الاستيقاظ؟ أكمل آيت منجلات أغنيته بإعطائنا كل الأوضاع التي تحافظ على "النوم"، وتشجع على "الصّمت"، وهي أوضاعٌ، للأسف، ما زالت طاغية، لعل ما يجري، في البلاد، من حركيةٍ "مجتمعية"، ترفع عنا صمت النوم، وتوقظ هممنا لصنع الغد.. وإنّ غدا لناظره لقريب.
مرّ الصيف، بأحداثه و أحاديثه، سريعا، لكنه كان حاملا نقاشاتٍ كثيرة أدارتها، كما جرت العادة، أحزابٌ موالية "للصمت"، حيث انطلق المسار من رفض مسرحية عرض مبادرة للتوافق من حزبٍ خرج من السّلطة (التحالف الرئاسي)، ويريد العودة إليها بأسرع ما يمكن تحسّبا، ليس لانتخابات 2019، بل لقطعة الكعكة التي ينتظرها من تشريعيـــات... 2022، وعلى الرغم من اجتماعات ولقاءات، إلا أن ذلك كله كان مقدمة لإرساء صمتٍ يسمعه الجميع، ويقبله الكل، عنوانه "الاستمرارية".. تحالف قديم/ جديد بشأن مسألةٍ لا تقبل النّقاش، بل هي من جملة مسائل "المقدّس"، الاستمرارية.
تستدعي تلك الاستمرارية، باعتبارها، بالنسبة للحالة الجزائرية، مكوّنا رئيسا، بل وحيدا، للثقافة السياسية لمنظومة الحكم في البلاد، أربع ملاحظات، تحلّل لرؤى الحكم (موالاة ومعارضة)، النّخبة، الشخصيات الوطنية، ثم، في الأخير، لرؤى مستقبلية (بحركية المجتمع المدني)، قد تؤدّي إلى معرفة اتّجاهات الحكم حيال سلوك الكلّ بشأن انتخابات 2019 الرئاسية.
الحديث عن الصمت، في مقاربة سلوك ممثلي الدائرة المقرّبة من الحكم، هو حديثٌ عن صوتٍ واحد، يعلو إزاء صمت إرادي ومفروض على الجميع، وهو الصوت الذي يُخرس، متى أراد،
يرتكز ذلك الصمت (إيجادا ورعاية) على منظومة إعلامية تُسيّر، بقوانين، أقلام مردّدي الاستمرارية وأسنتهم، خيارا وحيدا للجزائر، وهو صمت تشهره تلك المنظومة في وجه من يريد رفع صوته بمنع الإشهار عنه، أو رفع سيف الديون لدى المطابع (كلها عمومية) كما يمكن أن يُنعت من له إرادة للتغريد خارج السرب بأنه خارج منظومة الخير أو الوطنية، كما يسعى إلى القول، في كل مشهد ولقاء، مردّدوا خطاب "الاستمرارية". وهذه تعني، في ذلك الخطاب، منعا للتغيير، وإملاءً لظروفٍ يُقال إنها مناط استقرار البلاد، ارتكازا على منجزات جزءُ منها موجود، ولا يمكن إنكاره، في حين أن كثيره، وخصوصا في الاقتصاد، التعليم، المجتمع، الصحة، إلخ.. يعاني من إعادة نظر، حتى لا نقول إيجاد قطيعة معه (الوضع) شكلا ومضمونا.
يُشارك في صنع مشهد الصّمت كل من الموالاة ومن يُسمّون المعارضة في بلدٍ تكاد تلك الفئة من "السياسيين" تمارس هوايتها المفضّلة أي النوم، ولا يكاد أحد يسمع لها صوتا إلا فيما ندر، ومن بعض الوجوه التي تحاول كسر جداره، وإيجاد ظروف سلوكٍ يوحي بأنه المخرج من تلك الثقافة السياسة "العدمية".
تتشكّل تلك المعارضة من لفيفٍ يمارس، هو نفسه، ثقافة "الاستمرارية"، حيث يتربّع بعضهم على عرش بُنى "الصمت" مددا تفوق، في بعضها، أو تقارب، مدة تربّع معمر القذّافي على كرسي الرئاسة في ليبيا. وعلى الرغم من ذلك، فهي، في أحيان كثيرة، وهو ما يُعترف لها، لا تتعرّض، في خطابها، إلى الاستمرارية، إلا بأنها مرادفة للاستقرار داخل الأحزاب، وهو استقرار يحمل معنى واحدا، لا غير، الاستفادة من معين الرّيع وكراسي التعيينات، أو البرلمان (بغرفتيه). وفي أحيان أخرى، تفرح بإرسالها بيانا بشأن حدثٍ ما، أو عندما تُدعى إلى اجتماع تكريسا لذلك الصمت، على غرار دعوات تقنين "الصمت في إطار تعديل "دستورٍ"، يضمن "الاستمرارية".
خرجت علينا تلك "المعارضة" في السنوات الأخيرة بمصطلح "الانقلاب العلمي"، لوصف أية محاولة لتغيير شكـــل الوقوف في وجه ثقافة "الصمت" وسلوكه، بل تستعين بقوانين ومنظومات نصوص إدارية، ضمنت لها "الاستمرارية" لتكون، حقيقة لا مجازا، غير معنية ولا مهتمة، بسعي بعضهم إلى إيقاظ الهمم، بقصد الحديث بعد طول صمت... طبعا، لم نشأ الحديث، هنا، عن يسار أو يمين، محافظ أو قومي، إسلامي أو علماني، فالكل نائمٌ أو يمارس هواية الدعوة إلى البقاء على تلك الوضعية.
نصل، في المقام الثالث، إلى النّخبة، وهي، باعتبارها طبقة وسطى، رمّانة التغيير في أي مجتمع. وبالنسبة للجزائر، تقف ثلاثة مواقف، إمّا الاصطفاف أو الإقصاء أو الرحيل. من خياره الاصطفاف يزيّن لثقافة الصّمت، بل يتحدّث عن حياة رغيدة في إطار "الاستمرارية"، ولا تكاد تراه إلا في موقف المطبّل بكتاباته، أو من خلال تغريداته وتصريحاته، خدمةً، كما يدّعي، لمشروع "قومي"، مراميه الأساسية الحفاظ على توازن المؤسسات والإنقاذ للبلاد من براثن "مغامرات التغيير"، وديدن تلك النخب تخيير الشعب بين "الاستمرارية" و"الذهاب نحو غياهب مشاريع تهديم الدول"، والأمثلة كثيرة، بعضها قريب وآخر تنقله يوميا، بل كل ساعة، شاشات التلفزيون، نشرات الأخبار، وعلى مدار الدقائق والثواني، وسائل التواصل الاجتماعية و الشبكة العنكبوتية.
هناك فئة اختارت الصمود، ورفعت لواء الدفاع عن قيم تراها أساس التغيير، وهي، بما تملكه من علم وثقافة، منخرطة في كل النشاطات، وموجودة على كل المستويات. تعيش هذه الفئة مقصاةً من كل شيء، ولا تُرفع لها راية للترقية، بل تدفع إلى الانزواء في أركان النسيان، لكنها ما زالت تمانع وتدافع، تقاوم بما لديها من إمكانات. وقد خيّرت هذه الفئة بين البقاء في العوز والإقصاء أو الرحيل، وهو ما اختارته، مرغمةً، قامات علمية، فرضت احترامها أينما وُجدت، وما زالت تحمل للجزائر أحلاما بالنهوض، وتعرض، كما يفعل بعضهم بالعودة إلى الوطن، أو بالمجيء لإلقاء المحاضرات، خدماتِها آملةً صنع التغيير.
أمّا الشّخصيات الوطنية التي يُعوّل عليها للعب دور الوسيط بين إرادة التغيير و"الاستمرارية" فهي، أيضا، خُيرت، لبعضٍ منها، بين "الصمت" مقابل بعض الامتيازات، في حين أن آخرين يحاولون استغلال مذكراته، ودعوات الذاكرة في المناسبات الوطنية، لإلقاء نداءات، ورفع الصوت أمام موجة الصمت التي اجتاحت البلاد، وحوّلتها إلى فضاء للنوم إلى إشعارٍ لا نراه في عتمة "الاستمرارية".
تملك هذه الشخصيات وزنا حقيقيا للعب دور تلك الوساطة، وهي على وعي بذلك الدور ورمزيته لدى الجميع، حكاما ومحكومين، وقد أدى كثيرون منهم ما كان يؤمّل منه، على غرار فرحات عباس، محمد بوضياف، أحمد آيت أحمد، يوسف بن خدة، وآخرين كثيرين صدقوا وما زالوا، بالنسبة لمن بقي حيا يُرزق.
المستقبل آتٍ، ويحمل نُذُر الخير وبشائر الأمل، لما في الجزائر من قدرات، وخصوصا البشرية
كيف نحاكم "الاستمرارية" أو نقيّمها؟ إشكالية تدلّل على الإجابة بشأنها مقاربات السياسة العامة التي تنطلق من الفكرة، تؤسّس للمشروع، تُخطّط للتنفيذ، ثم تُقوّم الأخطاء، وتُقيّم المراحل المنجزة، وصولا إلى استشراف المستقبل، وهي، وهذا اعتراف، بالنسبة للجزائر، أنجزت أشياء، وفاتتها أشياء، ومناط ما فاتها هو التغيير.
العجيب، في هذا المقام، أن ظاهرة الحكم، في لغتنا، سّميت "دولة". أي عزّ لهذا اليوم ذلّ (بمعنى البعد عن الحكم والدخول في المعارضة) لآخر، غدا، حكم لبعضهم، اليوم، تداول، غدا، للآخر. وهكذا هي حركية التاريخ، " وتلك الأيام نداولها بين الناس". أما في الغرب، فقد حملت الظاهرة مسمّى الجمود (State)، أو بقاء الحال على وضعه "صامتا" و"جامدا"، على الرغم من ذلك، يوجد الجمود عندنا، والتداول عندهم، وهو جمود، دأبنا على تسميته "الاستمرارية" من دون فرصة لإعمال المراحل التي أشير إليها بشأن السياسة العامة، أيّا كانت، ومنها، طبعا، بل في مقدمتها مسألة الحكم و"التداول" عليها.
مصير "الاستمرارية" المرور من خلال قوانين التقييم/ التقويم، ويومها، نعترف بقيمة ما أُنجز، ونعرف ما قطعناه من طريق، وما بقي من مفاوز علينا قطعها، معا. إنّها حركية "مجتمعية" تحتاج للجميع. هل حان وقت الاستيقاظ؟ أكمل آيت منجلات أغنيته بإعطائنا كل الأوضاع التي تحافظ على "النوم"، وتشجع على "الصّمت"، وهي أوضاعٌ، للأسف، ما زالت طاغية، لعل ما يجري، في البلاد، من حركيةٍ "مجتمعية"، ترفع عنا صمت النوم، وتوقظ هممنا لصنع الغد.. وإنّ غدا لناظره لقريب.