24 يوليو 2024
السودان.. الحكومة الجديدة بوجوه قديمة
استجدّت في السودان حكومة جديدة، بعدما كانت الحكومة المنصرفة قد صحبتها فضيحة تعيين وزير للعدل، أوقف ثم أبطل تعيينه، لحظات قبل دخوله لأداء القسم أمام الرئيس عمر البشير، وثبوت تزويره شهادة الدكتوراة. غير أن الحكومة الحالية أثارت اهتمام السودانيين بدرجة أكبر، بالنظر إلى حجم الأزمة السياسية والمالية في بلدهم، وباتت تهدد بفشل الدولة التام. وكثيرة هي الملاحظات التي يكشف عنها تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة معتز موسى، أولاها إطاحة رئيسها بكري حسن صالح، آخر اعضاء المجلس العسكري الذي نفذ انقلاب عام 1989 إلى جانب البشير، واستبعاده حتى من عملية التدوير الوزاري المتبعة من الحكم الحالي، وهذه خطوة ينظر بعضهم إليها مؤشّرا على وجود خلاف بين الرئيس ونائبه بكري الذي يتردّد أنه لا يؤيد ترشيح الرئيس البشير في انتخابات 2020. والثانية أن الحكومة الجديدة التي حشدت كثيرين من كوادر الإخوان المسلمين من الصفوف الخلفية تعكس روحا انقلابية، وتباينا في الرؤى داخل أروقة الحزب الحاكم. وأكبر مؤشر على ذلك غياب الكوادر التقليدية القيادية، والتي لعبت أدوارا مختلفة من خلال المناصب القيادية التي ظلت حكرا لها، وتُتداول بينها منذ الانقلاب، فقد اختفت عن المشهد قياداتٌ بارزة، مثل علي عثمان محمد طه أو نافع علي نافع وغيرهما، ما جعل الرئيس يبدو وحيدا منعزلا، ليواجه مصيره، ويتحمّل مسؤولية الأزمة الراهنة.
على أن أهم المظاهر التي صاحبت إقالة الحكومة السابقة، واختيار رئيس الوزراء الجديد من أقرباء الرئيس والصور المسرّبة للصحافة المحلية للرئيس، وبجواره شقيقه العباس، توحي بأن الرئيس بات يقود المركب الغارق منفردا، مستعينا بالأقربين، وبعيدا عن المؤسّسية ومشورة
الحزب الحاكم. وهذا يوحي بأن الثقة قد بلغت نقطة الصفر بين الرئيس والحزب وقيادات الحركة الإسلامية الغائبين تماما عن المشهد. هذا الغياب والتفرّد يفسّران الضجة الكبرى التي أثارها اختيار عبدالله حمدوك وزيرا المالية، وهو أحد الكوادر الوطنية المشهود لها بالكفاءة، وأطاحته سياسة الصالح العام التي اتبعها "الإخوان المسلمون" أول عهدهم بعد الانقلاب، حينما قدّموا الولاء على الكفاءة. وإشارة الرئيس البشير في هذا الصدد واضحةٌ، في خطابه الذي أعلن فيه عن تشكيل حكومة جديدة، وتعهّده بإعادة الخدمة المدنية في السودان إلى سابق عهدها، كأنه ينأى بنفسه عن سنوات التمكين التي دمّرت الخدمة المدنية، ويشير إلى الغائبين من قادة التنظيم عن المشهد اليوم بأنه سوف يُصلح ما نشروه من فوضى في الحكم المحلي إبّان سنوات التمكين. كذلك فإن الضجّة بشأن اختيار حمدوك، بخلفيته اليسارية، تفيد صراحة بأن الحزب الحاكم ورئيسه بات فاقد الثقة في كوادر الحركة الإسلامية، وبات يبحث عن طوق النجاة من الأزمة، حتى ولو جاء بأيدي غرماء الأمس.
يؤكّد المشهد اليوم داخل الحزب الحاكم، بوضوح، خلافا عميقا تحت السطح بين قيادات الإخوان المسلمين التاريخيين الذين باتوا اليوم في مواقع المتفرجين، يتابعون ثمرة سياساتهم التي تشكّل أبعاد الأزمة السياسية والمالية التي تهدّد الحكم والبلاد برمتها. وبعيدا عن هذا، فإن التشكيل الحكومي، في مجمله، لم يخرج عن سياسة تدوير المناصب، إذ اعيد "توظيف" وزراء كثيرين في وزارات أخرى، وظلت الوجوه هي نفسها في ثياب جديدة. كما أن انتقال قيادات الحركة الإسلامية من مواقع الحكم إلى مواقع المتفرّجين يأخذ الأزمة إلى مرحلة جديدة، ويزيد من حجم الكتلة المعارضة، فالثابت الوحيد في الحكومة الجديدة، وأسلوب إدارة الأزمة في السودان، أنها تدار بالعقلية نفسها التي تتجاهل الشعب السوداني، وحقّه في معرفة ما تفكّر فيه الحكومة التي تتحدّث عن علاجٍ للوضع الاقتصادي المنهار بالصدمة، فلا أحد يعرف خطط الحكومة للخروج من الأزمة، ولا أحد يعرف ما يردّده أركان النظام عن استراتيجية اقتصادية جديدة.
ويبدو حديث الخروج من الأزمة بعيد المنال في ظل حكومةٍ وسياسات حزبٍ، أوصلت جميعها
إلى الأزمة العميقة الحادثة اليوم في السودان. وبالتالي لم يكن مطلوبا الاستعانة بقدرات شخص واحد لإعادة الوضع المالي إلى الطريق الصحيح، فهذا من المستحيل. وإنما كان الأجدى أن يعترف الحزب الحاكم والرئيس البشير بفشل السياسات التي اتخذت بشكل أحادي، طوال الفترة الماضية، وهي السياسات نفسها والشخصيات التي أسهمت فيها، والتي لا تزال على مواقعها في الحكومة. وأكثر من ذلك، تؤشر دعوة رئيس الوزراء الجديد الوزراء، في أول اجتماع للحكومة، إلى تسليمه استراتيجيات وخططا للعمل في غضون 24 ساعة، إلى قدر كبير من انعدام الواقعية، فجزء من أسباب الأزمة وزراء ومسؤولون حاليون. وكان الأجدر بالرئيس أن يفتح الباب أمام الكفاءات السودانية الموجودة في الداخل، أو الذين ابتلعتهم المنافي، لصياغة تصوّر شامل لحل أزمات السودان، المالية والاقتصادية، وفق رؤى علمية. ومن مساخر القدر أن انقلاب البشير، حينما جاء عام 1989، كان قد سبقته بأسابيع قليلة صياغة أول برنامج اقتصادي شامل للنمو والتقدّم، شاركت في صياغته الكفاءات والعقول الاقتصادية السودانية، لبناء اقتصادٍ، يخرج بالسودان من أزماته، واستشراف مستقبل أفضل. ولهذا، فإن الخروج من الأزمة الراهنة يقود بالضرورة إلى رحيل الحكم الذي ثبت فشله، وهذا أجدى وأنفع من تقديم وجوه الأزمة أنفسهم، بثياب جديدة.
على أن أهم المظاهر التي صاحبت إقالة الحكومة السابقة، واختيار رئيس الوزراء الجديد من أقرباء الرئيس والصور المسرّبة للصحافة المحلية للرئيس، وبجواره شقيقه العباس، توحي بأن الرئيس بات يقود المركب الغارق منفردا، مستعينا بالأقربين، وبعيدا عن المؤسّسية ومشورة
يؤكّد المشهد اليوم داخل الحزب الحاكم، بوضوح، خلافا عميقا تحت السطح بين قيادات الإخوان المسلمين التاريخيين الذين باتوا اليوم في مواقع المتفرجين، يتابعون ثمرة سياساتهم التي تشكّل أبعاد الأزمة السياسية والمالية التي تهدّد الحكم والبلاد برمتها. وبعيدا عن هذا، فإن التشكيل الحكومي، في مجمله، لم يخرج عن سياسة تدوير المناصب، إذ اعيد "توظيف" وزراء كثيرين في وزارات أخرى، وظلت الوجوه هي نفسها في ثياب جديدة. كما أن انتقال قيادات الحركة الإسلامية من مواقع الحكم إلى مواقع المتفرّجين يأخذ الأزمة إلى مرحلة جديدة، ويزيد من حجم الكتلة المعارضة، فالثابت الوحيد في الحكومة الجديدة، وأسلوب إدارة الأزمة في السودان، أنها تدار بالعقلية نفسها التي تتجاهل الشعب السوداني، وحقّه في معرفة ما تفكّر فيه الحكومة التي تتحدّث عن علاجٍ للوضع الاقتصادي المنهار بالصدمة، فلا أحد يعرف خطط الحكومة للخروج من الأزمة، ولا أحد يعرف ما يردّده أركان النظام عن استراتيجية اقتصادية جديدة.
ويبدو حديث الخروج من الأزمة بعيد المنال في ظل حكومةٍ وسياسات حزبٍ، أوصلت جميعها