28 أكتوبر 2024
مصر السلطوية وإخفاق الدولة
تسبّب ارتباك النظام، وقصور أداء الخارجية المصرية، في أن تقوم قناة cbs بأكبر حملة دعائية في الوطن العربي، قبل إذاعة حوارها مع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي. كان لافتا أن يطلب سفير مصر في واشنطن عدم إذاعة الحديث، وهو تصرّف غريب، ليس له ما يبرّره، فالمتحدث رئيس الجمهورية، وهو المعبّر عن النظام، وهو أيضا، كما يرى ويرى أنصاره، يجيد الخطاب والتعبير عن مواقف الدولة، فما الأزمة في أن يسمعه جمهور أوسع، في برنامج غير عربي واسع الانتشار، وفي قناة تلفزيونية أميركية، يحب أن يصل إلى جمهورها.
لم يُفهم على وجه التحديد الأساس الذي طلبت بسببه سفارة مصر في الولايات المتحدة عدم إذاعة الحوار، ولم توضح أي جهة رسمية أسباب ذلك، وحتى ردود إعلاميي النظام لم تناقش محتوى الخطاب من قضايا مهمة، أبرزها مسألة المعتقلين والعلاقة مع إسرائيل. واقتصر حديثهم على مسائل شكلية، مثل زوايا التصوير، أو تعرّق الرئيس في أثناء الحوار، وأرجعت طلب التأجيل إلى عدم تقدير القناة الحديث وتأجيل بثه، وظهور معارضين بجانب الرئيس لا يتناسبون من حيث المكانة مع شخص الرئيس، وهذه كلها أمور شكلية، لا تمس جوهر ما جاء في الحديث بقدر ما تمسّ شخص الرئيس.
وجاء طلب عدم بث اللقاء فرصةً لا تتكرر كثيرا للدعاية للحوار، خصوصاً أن أهل مصر باتوا يعرفون أغلب أخبارها من وسائل الإعلام الخارجية، بسبب عملية تعتيم تُمارس على بعض القضايا في وسائل إعلامها، بينما تطرح في الإعلام الخارجي، كما أن الحديث عن ديمقراطية
الحكم أو تسلّطه، ودور مؤسسة الرئاسة أمر غير وارد للنقاش، ولا يتم تناول موقع رئيس الجمهورية وممارسته أو خطابه إلا في إطار التمجيد والمديح، أو الاستجداء. وتمتلئ الصحف برسائل إلى الرئيس، تتنوع ما بين النصح أو الاستجداء، ناهيك عن أحاديث ومطالب هنا وهناك من دوائر مصالح متعدّدة بشأن ضرورة استمرار حكمه فترة أطول عبر تعديل دستوري، أحاديث تطالب، في أقل تقدير، بمد فترة الرئاسة الثانية أو تقنين وجوده في موقع اتخاذ القرار، مرشدا عاما وحاميا لنظام الحكم بعد انتهاء الفترة الثانية. ما عدا ذلك يندر أن تجد كاتبا مصريا في إحدى وسائل الإعلام المصري ينتقد آراء أو سياسات أو تصريحات صادرة عن مؤسسة الرئاسة. وانطلاقا من هذه النقطة، يمكن الحديث عن أحد مظاهر الديمقراطية
المفتقدة، وهو حرية التعبير، بما فيها نقد سياسات مؤسسة الرئاسة، وما يصدر عنها.
لا تقتصر حالة الخوف من التعليق على مجمل ما يخصّ مؤسسة الرئاسة على وسائل الإعلام، أو قوى المعارضة التي شهدت أغلبها عملية احتواء. ولكن أيضا توجد الحالة ذاتها، كما توضح شواهد عديدة في مؤسسات الدولة، والتي لم تعد قادرةً على إصدار بياناتٍ أو توضيحاتٍ فيما يخص هذا الجانب. وتعتبر حالة الحوار مع برنامج "60 دقيقة" في القناة الأميركية إحدى الوقائع فى هذا الشأن، ويرجع ذلك إلى محاولة عودة نموذج سياسي قديم، يختصر الدولة والنظام في شخص الرئيس، ليحل الحاكم مكان كل مؤسسات الدولة، عبر إحكام السيطرة عليها. ويصبح من حوله، على قلتهم، مجرّد معاونين أقل في المكانة من مستشارين، أو كما يحلو لبعضهم أن يصفوا هؤلاء بطاقم سكرتاريا، بمن فيهم من الوزراء ورجال الدولة. يختصر ذلك في دراسات النظم السياسية بالمقولة المنسوبة إلى لويس الرابع عشر حاكم فرنسا (1661- 1715) "أنا الدولة والدولة أنا"، والذي أراد فيها تثبت حكمه الملكي المطلق. لا تتشكل هذه الحالة من نزوع الحاكم وحسب، ولكنها تتشكّل في ظروفٍ تجتمع فيها مجموعات المصالح، لتقوي هذا النمط لتستفيد من نتائجه.
ترجع خطورة هذا النمط السياسي إلى جانبين: الأول مجتمعي، فهو منتج بكثافة للفساد، وينتهك كل الحقوق والحريات. والثاني يرتبط ببناء الدولة ومدى قدرة النظام على تصحيح أخطائه. وبمرور الوقت، يضعف أداء الدولة، وتتعمق أزمتها مستقبلا على مستوى الإدارة والكفاءة، وتخسر قدراتها ونخبها، وتعطل إمكانات أجهزتها، وتزيد من تكلسها. وبهذا، فإنها تهدر إمكانات وطاقات النخب الموجودة فيها. وفي الوقت نفسه، ينفي هذا النمط من الحكم على
مراهنات بعضهم بشأن إصلاحية النظام، وقدرته على الإنجاز والمراجعة لخطواته.
وبغض النظر عن الظرف السياسي الراهن والمؤقت، فإن دور مصر وحجمها، وما تمتلكه من قدراتٍ وتاريخ طويل لدولتها، لا يتناسب مع نمط إدارة الدولة ومؤسساتها الحالي. وحتى بالمقارنة مع دولة حسني مبارك، وما كانت تضعه من محاذير في تناول مؤسسة الرئاسة، إلا أن ذلك لم يمنع النقد لسياساته، ولم تشل سلطويته أجهزة الدولة أو تصيبها بمثل الارتباك القائم الآن، والذي يستند إلى حالة الخوف والحذر الشديدين.
أخيرا، يمكن القول إنه لم يعد ممكنا إعادة نظام حكم القبيلة، حتى وإن تم إبدال زعيمها بحاكم حداثي، أو استبدلت سلطة القبيلة بمؤسساتٍ قمعية حديثة، لأن ما عرفته النظم السياسية من تطوّر لا يمكن أن يصاب بحالة نكوص، وإن كان هذا بديهيا على المستوى النظري، فإنه عمليا، وبعد ثورات الربيع العربي التي أعلنت سقوط دولة الفرد التي كرّستها نظم ما بعد الاستقلال، يجعل الأمر أكثر صعوبةً، حتى وإن استمر هذا النمط السلطوي فترة تحت ضغوطٍ وعوامل ظرفية عديدة، فنظم الحكم الفردي أسقطتها حركات الشعوب الاحتجاجية، وأوضحت عجزها عن الاستمرار، بعدما استنزفت فرصها في الإصلاح. ولذلك، لن يُكتب النجاح لكل المحاولات البائسة في إعادة صياغة هذا النمط من الحكم، كما فشلت نظمٌ قبلها.
وليست هذه النتيجة محصلة تفاؤل ثوري، بقدر ما أنها دروسٌ تاريخية، كما تستند إلى حقيقة أن عصور الدعاية السلطوية والحشد وصنع القائد الأوحد قد ولّت وانتهت، وحتى وإن حققت الدعاية نجاحاتٍ فإنها تكون ظرفية ومؤقتة، لأننا أمام عصرٍ يمكن أن نسميه عصر المعرفة التشاركية التي يمتلك فيه أفراد المجتمع فرصا تمكّنهم من تشكيل وجهات نظر متنوعة، ووعي يواجه الوعي الزائف، حتى وإن تواضعت فرصهم التعليمية والمعيشية، أو خيّل لبعضهم أنهم غير متابعين أو مهتمين بما يجري.
وجاء طلب عدم بث اللقاء فرصةً لا تتكرر كثيرا للدعاية للحوار، خصوصاً أن أهل مصر باتوا يعرفون أغلب أخبارها من وسائل الإعلام الخارجية، بسبب عملية تعتيم تُمارس على بعض القضايا في وسائل إعلامها، بينما تطرح في الإعلام الخارجي، كما أن الحديث عن ديمقراطية
المفتقدة، وهو حرية التعبير، بما فيها نقد سياسات مؤسسة الرئاسة، وما يصدر عنها.
لا تقتصر حالة الخوف من التعليق على مجمل ما يخصّ مؤسسة الرئاسة على وسائل الإعلام، أو قوى المعارضة التي شهدت أغلبها عملية احتواء. ولكن أيضا توجد الحالة ذاتها، كما توضح شواهد عديدة في مؤسسات الدولة، والتي لم تعد قادرةً على إصدار بياناتٍ أو توضيحاتٍ فيما يخص هذا الجانب. وتعتبر حالة الحوار مع برنامج "60 دقيقة" في القناة الأميركية إحدى الوقائع فى هذا الشأن، ويرجع ذلك إلى محاولة عودة نموذج سياسي قديم، يختصر الدولة والنظام في شخص الرئيس، ليحل الحاكم مكان كل مؤسسات الدولة، عبر إحكام السيطرة عليها. ويصبح من حوله، على قلتهم، مجرّد معاونين أقل في المكانة من مستشارين، أو كما يحلو لبعضهم أن يصفوا هؤلاء بطاقم سكرتاريا، بمن فيهم من الوزراء ورجال الدولة. يختصر ذلك في دراسات النظم السياسية بالمقولة المنسوبة إلى لويس الرابع عشر حاكم فرنسا (1661- 1715) "أنا الدولة والدولة أنا"، والذي أراد فيها تثبت حكمه الملكي المطلق. لا تتشكل هذه الحالة من نزوع الحاكم وحسب، ولكنها تتشكّل في ظروفٍ تجتمع فيها مجموعات المصالح، لتقوي هذا النمط لتستفيد من نتائجه.
ترجع خطورة هذا النمط السياسي إلى جانبين: الأول مجتمعي، فهو منتج بكثافة للفساد، وينتهك كل الحقوق والحريات. والثاني يرتبط ببناء الدولة ومدى قدرة النظام على تصحيح أخطائه. وبمرور الوقت، يضعف أداء الدولة، وتتعمق أزمتها مستقبلا على مستوى الإدارة والكفاءة، وتخسر قدراتها ونخبها، وتعطل إمكانات أجهزتها، وتزيد من تكلسها. وبهذا، فإنها تهدر إمكانات وطاقات النخب الموجودة فيها. وفي الوقت نفسه، ينفي هذا النمط من الحكم على
وبغض النظر عن الظرف السياسي الراهن والمؤقت، فإن دور مصر وحجمها، وما تمتلكه من قدراتٍ وتاريخ طويل لدولتها، لا يتناسب مع نمط إدارة الدولة ومؤسساتها الحالي. وحتى بالمقارنة مع دولة حسني مبارك، وما كانت تضعه من محاذير في تناول مؤسسة الرئاسة، إلا أن ذلك لم يمنع النقد لسياساته، ولم تشل سلطويته أجهزة الدولة أو تصيبها بمثل الارتباك القائم الآن، والذي يستند إلى حالة الخوف والحذر الشديدين.
أخيرا، يمكن القول إنه لم يعد ممكنا إعادة نظام حكم القبيلة، حتى وإن تم إبدال زعيمها بحاكم حداثي، أو استبدلت سلطة القبيلة بمؤسساتٍ قمعية حديثة، لأن ما عرفته النظم السياسية من تطوّر لا يمكن أن يصاب بحالة نكوص، وإن كان هذا بديهيا على المستوى النظري، فإنه عمليا، وبعد ثورات الربيع العربي التي أعلنت سقوط دولة الفرد التي كرّستها نظم ما بعد الاستقلال، يجعل الأمر أكثر صعوبةً، حتى وإن استمر هذا النمط السلطوي فترة تحت ضغوطٍ وعوامل ظرفية عديدة، فنظم الحكم الفردي أسقطتها حركات الشعوب الاحتجاجية، وأوضحت عجزها عن الاستمرار، بعدما استنزفت فرصها في الإصلاح. ولذلك، لن يُكتب النجاح لكل المحاولات البائسة في إعادة صياغة هذا النمط من الحكم، كما فشلت نظمٌ قبلها.
وليست هذه النتيجة محصلة تفاؤل ثوري، بقدر ما أنها دروسٌ تاريخية، كما تستند إلى حقيقة أن عصور الدعاية السلطوية والحشد وصنع القائد الأوحد قد ولّت وانتهت، وحتى وإن حققت الدعاية نجاحاتٍ فإنها تكون ظرفية ومؤقتة، لأننا أمام عصرٍ يمكن أن نسميه عصر المعرفة التشاركية التي يمتلك فيه أفراد المجتمع فرصا تمكّنهم من تشكيل وجهات نظر متنوعة، ووعي يواجه الوعي الزائف، حتى وإن تواضعت فرصهم التعليمية والمعيشية، أو خيّل لبعضهم أنهم غير متابعين أو مهتمين بما يجري.