07 نوفمبر 2024
في مصر تظاهرات وفي العراق مؤامرات
لقيت التظاهرات التي حصلت في مصر في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) استحساناً من إعلام الممانعة، بفرعيه المحلي والإقليمي. وصف للقمع، للتوقيفات، تغطية للإجراءات الأمنية والعسكرية، كلام عن الفساد والتهميش والفقر والضياع واستزلام الإعلام الموالي، خُدعاته وانحطاطه وكذبه، وديكتاتورية عبد الفتاح السيسي غير المقنّعة، المتمتِّعة بإعجاب البيت الأبيض... إلى ما هنالك من مواقف كلها متعاطفةٌ مع المتظاهرين، عبّر عنها هذا الإعلام الممانع، بالتحليلات والتحقيقات والمقابلات.
لم يمضِ أسبوع على إخماد التظاهرات المصرية، حتى اشتعلت في بغداد وجنوبها. أيضاً: شباب مهمّش، عفوي، غير منظّم، غير محزّب، يخرج بإشاراتٍ من مواقع التواصل، يائس، كما الشباب المصري، يصرخ بحقّه بالحياة الكريمة، بالماء والكهرباء والعمل. يحرق العلم الإيراني، تعبيراً عن سخطه ضد الطبقة الحاكمة، لا سلاح لديه غير روحه. فكيف تكون تغطية الممانعة المحلية لبركانهم؟ إنها مؤامرة إمبريالية صهيونية، تحمل معها الفتنة، والدمار، مدعومةً من كل الدول الصغيرة والكبيرة المعادية لإيران.. إلى نهاية المعزوفة المحفوظة. وقد استمدّت صداها من مصدر الممانعة نفسه، حيث تناوبت شخصيات النظام الإيراني على تشويه مقاصد هذه التظاهرات، فكانت دعوات، من بينها التي أطلقتها الصحيفة الموالية، كيهان، إلى اقتحام السفارة
الأميركية في بغداد؛ فيما وصف عضو هيئة رئاسة مجلس خبراء القيادة في إيران، عباس كعبي: "إن أعداء الشعبين، العراقي والإيراني، أي بريطانيا الخبيثة وأميركا والسعوديين، كانوا يخطّطون منذ أكثر من عام، لإثارة الاضطرابات والفتن ولتجيير سلاح المقاومة في العراق لصالح أميركا والسعودية". على المنوال نفسه، تكلم رئيس "الحشد الشعبي"، فالح الفياض، ولا حاجة للتكرار.
مع أن تظاهرات مصر شابتها ظنون وحيرة بعض ثوار ميدان التحرير، وبعض المتحمِّسين عادة للتحرّكات الشعبية، إذ إن الذي أطلقها مقاول اسمه محمد علي، ويُقال أيضا إنه ممثل، كان على علاقة "استثمارية" مع النظام المصري، انفكَّ عنه لسببٍ نجهله، ولكنه يشرحه هو، أو يلخصه بـ"الفساد"، فساد الجيش وعبد الفتاح السيسي شخصياً. بل ذهب بعضهم الآخر إلى التفكير بأن كل هذه الحركة يقف خلفها صراع أجنحة أو مصالح داخل مؤسسة الجيش نفسها، يخوضها محمد علي عبر شرائط "يوتيوب" المولّعة، لتحريك الشعب من أجل قضيته. وهذا لا يعني أن المتظاهرين مشبوهون، إنما وجدوها فرصةً للخروج بغضبهم إلى العَلَن.
ومع أن تظاهرات مصر قمعت بشدة، صحيح. دخل إلى السجون ما يقترب من الثلاثة آلاف مواطن مصري. يتعرّضون داخل أروقة المراكز الأمنية لأبشع أصناف المعاملة، لا محامين مسموح لهم بالمرافعة عنهم، ولا تحقيقات، إنما مقابلات تلفزيونية لثلاثة أجانب، أرغموا على المشاركة في مسرحية مساهمتهم مع الإرهاب في محاولة تخريب البلاد، واتهامات لـ"الإخوان المسلمين" بتنظيمهم هذه التظاهرات. وفي المقابل، في العراق، لم تكن السجون مرحّبة بالمتظاهرين؛ إنما القبور بعينها. مئات من الشرائط التي أمكن تهريبها إلى العالم الافتراضي، بعد قطع خطوط الإنترنت أربعة أيام، كانت البرهان الأكيد على أن المتظاهرين السلميين، المتسلِّحين بغضبهم العارم، كانوا يُقتلون برصاصٍ حيّ، مباشر، يصيب قلوبهم أو رؤوسهم، يطلقها عليهم رجال الأمن، أو القناصة، "المجهولون" دائما، أو مدنيون يحملون سلاحاً، تسلّلوا من أطراف التظاهرات إلى قلبها. عدد القتلى من المتظاهرين العراقيين بلغ المئة وعشرة، فيما الجرحى تجاوز عددهم الستة آلاف. طبعاً الرئيس ورئيس الوزراء أبلغا من يهمّه الأمر بأنهما ضد هذه "الأخطاء" التي ارتُكبت بحق المتظاهرين، وأن مرتكبيها سوف يحاسبون عليها.. إلخ.
ومع أن للموقف الأميركي من هذه التظاهرات، ومن المعادين لها، تاريخا وحاضرا معروفَين. في الأصل، عندما اندلعت التظاهرات الإيرانية الشعبية عام 2009، احتجاجاً على تزوير الانتخابات الرئاسية، وقمعت بشراسة وفاعلية، لم يحرّك باراك أوباما ساكناً. مفاوضات النووي كانت شغالة، وهو حريصٌ عليها، حرص الزعيم الراغب بـ"الإنجازات" الخارجية. سلفه المجنون، دونالد
ترامب، ليس أقل انسحابيةً منه. بالشكل الأهوج المعروف عنه، تابع السياسة نفسها. من دون خطة، أو ما تسمّى "السياسة المتكاملة"؛ لم يجابه النفوذ الإيراني، بل يعلن ليل نهار بأنه لا يريد الحرب مع إيران. وللبيروقراطية الأميركية طبعاً مصالح مع السلطة الحاكمة، استراتيجية واقتصادية، راضيةٌ بتقاسمها مع الإيرانيين، لا تريد أن تخلّ بها. وتصبّ كل هذه الاعتبارات في الإبقاء على "الستاتيكو" القائم وعدم الإخلال بالميزان. وهذا ما يفسّر أن ترامب لم يجنّ كما يمكن أن يفعل عادةً مع أنواع من الاستفزازات التي يرى أنها تضرب صورته، أو سطوته، أو فرصه لولايةٍ ثانية. بل كل ما صدر من الإدارة الأميركية، بخصوص تظاهرات العراق، إن وزير خارجيتها، مايك بومبيو، صرّح بطرف شفتيه بأنه ضد القمع، ومع حقوق الإنسان، أو شيء من هذا القبيل.
لا يلغي كل ما سبقَ رغبات عاجزة أو خجولة لخصوم إيران بأن تهتزّ بتظاهراتٍ شعبية، وبقمعها الدموي لها. وهذا اللقاء "الموضوعي" بين أطرافٍ لا تمتّ بصلة إلى بعضها، بين حركة شعبية عفوية، غير مدروسة، غير مخطط لها، خارجة من بطون الفقر والتهميش والخوف وبين دول قد تكون لها مصلحة بالاهتزازات التي تحدثها.. هذا اللقاء "الموضوعي" يجب أن يكون شحذا للأذهان، لا إبطالها، أو تحفيزاً على معرفة مزيد عن هذه الحركات، وعن ظروف أصحابها وحياتهم وآمالهم وطاقاتهم. أما وأن يكون الإعلام، المفترض أنه مع هذه الفئات، الشعبية، في صف حاكميهم، فهذا منتهى الانقلاب، أولاً على "حب" الشعب، أي شعب. وثانياً على ألف باء الإعلام: الإعلام غير المنحاز انحيازاً أوتوماتيكياً لصالح فئاتٍ أصبحت حاكمة. الإعلام الذي لا يكون صدىً مباشرا، من غير أي "تذويق"، ولا تنميق، لصوت سيده؛ الإعلام غير المضلِّل بتلك السهولة، بتلك السماحة.. والذي يدين، بعد ذلك، نظيره الإعلام المصري، الموالي للسيسي، ويقرّعه، يعيبه على تحريفه الحقائق. وهذه ذروة أخرى من ذروات العبث، فقد أصبح العبث قانوناً شبه معلن، لدى هذا الإعلام، وربما في غالبية الإعلام العربي، الحزبي، العصبوي: أن يكون معادياً لنظام ما، مثل النظام المصري، برئاسة عبد الفتاح السيسي، المتفاهم مع المحور الغربي وإسرائيل، وأن تندلع فيه تظاهرات شعبية، مطلبية.. ويقف هذا الإعلام مع الشعب، ويشكو معه مظلوميته.. ثم أن يكون حليفاً أو صديقاً أو متعاوناً مع النظام الإيراني، بصفته منضمّا إلى محور الممانعة، وأن تنفجر تظاهراتٌ شعبية على درجةٍ كبيرةٍ من الشبه مع التظاهرات المصرية، في واحدةٍ من البقع التي يسيطر عليها هذا النظام، أو يتقاسم سيطرته عليها مع الأميركيين.. فتلك مؤامرة صهيونية إمبريالية، يجوز سحق رجالها بالحديد والنار.
تلك المعادلة - القانون لا تفرز معرفةً، ولو عامّة، يدّعي هذا الإعلام نقلها إلى القارئ البسيط. والبساطة ليست من سمات أوضاعنا، الأكثر تعقيداً من أي أوضاعٍ أخرى في هذا الكوكب. ومن أوجهها، إن إعلاما شعوبيا، نافرا بشعوبيته، يقنع شرائح بعينها بتناقضه هذا، وهو قرير العين.
مع أن تظاهرات مصر شابتها ظنون وحيرة بعض ثوار ميدان التحرير، وبعض المتحمِّسين عادة للتحرّكات الشعبية، إذ إن الذي أطلقها مقاول اسمه محمد علي، ويُقال أيضا إنه ممثل، كان على علاقة "استثمارية" مع النظام المصري، انفكَّ عنه لسببٍ نجهله، ولكنه يشرحه هو، أو يلخصه بـ"الفساد"، فساد الجيش وعبد الفتاح السيسي شخصياً. بل ذهب بعضهم الآخر إلى التفكير بأن كل هذه الحركة يقف خلفها صراع أجنحة أو مصالح داخل مؤسسة الجيش نفسها، يخوضها محمد علي عبر شرائط "يوتيوب" المولّعة، لتحريك الشعب من أجل قضيته. وهذا لا يعني أن المتظاهرين مشبوهون، إنما وجدوها فرصةً للخروج بغضبهم إلى العَلَن.
ومع أن تظاهرات مصر قمعت بشدة، صحيح. دخل إلى السجون ما يقترب من الثلاثة آلاف مواطن مصري. يتعرّضون داخل أروقة المراكز الأمنية لأبشع أصناف المعاملة، لا محامين مسموح لهم بالمرافعة عنهم، ولا تحقيقات، إنما مقابلات تلفزيونية لثلاثة أجانب، أرغموا على المشاركة في مسرحية مساهمتهم مع الإرهاب في محاولة تخريب البلاد، واتهامات لـ"الإخوان المسلمين" بتنظيمهم هذه التظاهرات. وفي المقابل، في العراق، لم تكن السجون مرحّبة بالمتظاهرين؛ إنما القبور بعينها. مئات من الشرائط التي أمكن تهريبها إلى العالم الافتراضي، بعد قطع خطوط الإنترنت أربعة أيام، كانت البرهان الأكيد على أن المتظاهرين السلميين، المتسلِّحين بغضبهم العارم، كانوا يُقتلون برصاصٍ حيّ، مباشر، يصيب قلوبهم أو رؤوسهم، يطلقها عليهم رجال الأمن، أو القناصة، "المجهولون" دائما، أو مدنيون يحملون سلاحاً، تسلّلوا من أطراف التظاهرات إلى قلبها. عدد القتلى من المتظاهرين العراقيين بلغ المئة وعشرة، فيما الجرحى تجاوز عددهم الستة آلاف. طبعاً الرئيس ورئيس الوزراء أبلغا من يهمّه الأمر بأنهما ضد هذه "الأخطاء" التي ارتُكبت بحق المتظاهرين، وأن مرتكبيها سوف يحاسبون عليها.. إلخ.
ومع أن للموقف الأميركي من هذه التظاهرات، ومن المعادين لها، تاريخا وحاضرا معروفَين. في الأصل، عندما اندلعت التظاهرات الإيرانية الشعبية عام 2009، احتجاجاً على تزوير الانتخابات الرئاسية، وقمعت بشراسة وفاعلية، لم يحرّك باراك أوباما ساكناً. مفاوضات النووي كانت شغالة، وهو حريصٌ عليها، حرص الزعيم الراغب بـ"الإنجازات" الخارجية. سلفه المجنون، دونالد
لا يلغي كل ما سبقَ رغبات عاجزة أو خجولة لخصوم إيران بأن تهتزّ بتظاهراتٍ شعبية، وبقمعها الدموي لها. وهذا اللقاء "الموضوعي" بين أطرافٍ لا تمتّ بصلة إلى بعضها، بين حركة شعبية عفوية، غير مدروسة، غير مخطط لها، خارجة من بطون الفقر والتهميش والخوف وبين دول قد تكون لها مصلحة بالاهتزازات التي تحدثها.. هذا اللقاء "الموضوعي" يجب أن يكون شحذا للأذهان، لا إبطالها، أو تحفيزاً على معرفة مزيد عن هذه الحركات، وعن ظروف أصحابها وحياتهم وآمالهم وطاقاتهم. أما وأن يكون الإعلام، المفترض أنه مع هذه الفئات، الشعبية، في صف حاكميهم، فهذا منتهى الانقلاب، أولاً على "حب" الشعب، أي شعب. وثانياً على ألف باء الإعلام: الإعلام غير المنحاز انحيازاً أوتوماتيكياً لصالح فئاتٍ أصبحت حاكمة. الإعلام الذي لا يكون صدىً مباشرا، من غير أي "تذويق"، ولا تنميق، لصوت سيده؛ الإعلام غير المضلِّل بتلك السهولة، بتلك السماحة.. والذي يدين، بعد ذلك، نظيره الإعلام المصري، الموالي للسيسي، ويقرّعه، يعيبه على تحريفه الحقائق. وهذه ذروة أخرى من ذروات العبث، فقد أصبح العبث قانوناً شبه معلن، لدى هذا الإعلام، وربما في غالبية الإعلام العربي، الحزبي، العصبوي: أن يكون معادياً لنظام ما، مثل النظام المصري، برئاسة عبد الفتاح السيسي، المتفاهم مع المحور الغربي وإسرائيل، وأن تندلع فيه تظاهرات شعبية، مطلبية.. ويقف هذا الإعلام مع الشعب، ويشكو معه مظلوميته.. ثم أن يكون حليفاً أو صديقاً أو متعاوناً مع النظام الإيراني، بصفته منضمّا إلى محور الممانعة، وأن تنفجر تظاهراتٌ شعبية على درجةٍ كبيرةٍ من الشبه مع التظاهرات المصرية، في واحدةٍ من البقع التي يسيطر عليها هذا النظام، أو يتقاسم سيطرته عليها مع الأميركيين.. فتلك مؤامرة صهيونية إمبريالية، يجوز سحق رجالها بالحديد والنار.
تلك المعادلة - القانون لا تفرز معرفةً، ولو عامّة، يدّعي هذا الإعلام نقلها إلى القارئ البسيط. والبساطة ليست من سمات أوضاعنا، الأكثر تعقيداً من أي أوضاعٍ أخرى في هذا الكوكب. ومن أوجهها، إن إعلاما شعوبيا، نافرا بشعوبيته، يقنع شرائح بعينها بتناقضه هذا، وهو قرير العين.