09 نوفمبر 2024
عمّان وتل أبيب.. خواء السلام
بعد 25 عاماً على توقيع المعاهدة الأردنية الإسرائيلية، فإن حشدا من الخبراء والجنرالات السابقين في الدولة العبرية يقرّون بأن السلام بين الجانبين يكاد يقتصر على التعاون الأمني. ويدعون، في هذه المناسبة، إلى تعاون اقتصادي، كي يلمس الأردنيون ثمرات السلام. والتعاون في مجال الاقتصاد هو وصفة عزيزة على قلوب الإسرائيليين، من شمعون بيريس صاحب "الشرق الأوسط الجديد" إلى بنيامين نتنياهو المتباهي باختراقات إقليمية تحققت للدولة العبرية، وتتطلب رفدها بتعاون ومشاريع اقتصادية. وتنطلق هذه الوصفة من أن من شأن تحسين الوضع الاقتصادي للأردن وللرازحين تحت الاحتلال في الضفة الغربية تنحية الجانب السياسي للمعاهدة وللحلول المستقبلية. وقد انضم إليهما رهط من غلاوة اليمين الأميركي المتصهين الذين صاغوا رؤية اقتصادية لصفقة ترامب، وكان انعقاد ورشة البحرين مؤشرا عليها، وهي ورشةٌ لم تنته بشيء، ولقيت مقاطعة فلسطينية شبه تامة.
وقّع الأردن على المعاهدة مع تل أبيب، بعد توقيع اتفاق إعلان المبادئ الإسرائيلي الفلسطيني. وكانت الفكرة الأردنية أن جوهر الصراع المتعلق بالقضية الفلسطينية قد شق طريقه نحو الحل، بموجب إعلان المبادئ (اتفاق أوسلو). على أن ذلك الإعلان، أو الاتفاق، كان إطارا مؤقتا يمهد لحل دائم بعد خمس سنوات على توقيعه. والذي حدث بعدئذ أن اليمين الإسرائيلي الأشد تطرّفا عطّل ذلك الاتفاق، وتعرّض ممثلا الاتفاق، إسحق رابين وياسر عرفات، للتغييب الجسدي، الأول بعملية اغتيال والثاني بعملية تسميم.
وللتشابك القائم بين الأردن وفلسطين، ألقى توقف المسار الفلسطيني الإسرائيلي ظلالاً كابية على المعاهدة، واحتفظ الطرف الإسرائيلي بإظار سواد الأردنيين بصورة العدو، على الرغم من أن
سياحا إسرائيليين يفدون إلى الأردن من دون أن يعلنوا هويتهم للأردنيين. وعلى الرغم من وجود مئات من العمال الأردنيين يتجهون من العقبة جنوب البلاد إلى إيلات القريبة يوميا، إلا أن مدينة إيلات على خليج العقبة، في أنظار كثرة من الأردنيين، هي أم الرشراش الأردنية.
والراجح أن الجانب الأردني لن يحتفل بذكرى المعاهدة إلا بصورة بروتوكولية محتشمة، وبعيدة قدر الإمكان عن أنظار وسائل الإعلام. وذلك لأن أخبارا من هذا النوع لا يُنظر إليها بعين الرضى من الجمهور العريض الذي ينشغل، منذ نحو عام، باستعادة الأراضي الأردنية المؤجرة، وفق المعاهدة، في منطقتَي الباقورة والغمر. ومع حلول يوم الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، يتعيّن إخلاء تلك الأراضي من المزارعين الإسرائيليين من الباقورة، ومن أي وجود أمني أو عسكري في منطقة الغمر. وتسعى تل أبيب، بصورة محمومة، إلى التفلت من هذا الاستحقاق، وتبث أخبارا عن تفاهم مزعوم بين الجانبين لتمديد الاتفاق سنة واحدة. هذا من دون التقليل من أثر ضغوط تمارس على عمّان، منها التلويح بخفض كميات المياه المحوّلة من نهر الأردن ..
وواقع الحال أن صورة المعاهدة ترتسم عبر أكثر من جانب: منها الأراضي الواجب استعادتها وعدم تمديد فترة تأجيرها، ومنها الاستباحة الدائمة للمسجد الأقصى التي تحمل إصرارا على تدنيس المكان، والاستهانة بالوصاية الأردنية على الأماكن المقدسة، ثم المطامع المعلنة بالاستيلاء التام على بيت المقدس. ومنها الرفض الإسرائيلي لعودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم، بما يعنيه ذلك من تعلق اليمين المتطرّف بالخيار الأردني. لهذا لا تجد المعاهدة إلا قليلين ممن يدافعون عنها من الجانب الأردني. وإذا فعلوا فالدفاع يتعلق بظروف التوقيع عليها، والآمال التي علقت قبل ربع قرن، وليس بالتداعيات، أو حتى النتائج الملموسة التي نجمت عنها. فالإسرائيليون، خلافا لغيرهم، يتشبثون أكثر فأكثر بنزعاتهم التوسعية، كلما جنح طرفٌ عربي إلى السلام، ولا يرون في السلام فرصة للاعتدال في المواقف والاعتراف بحقوق الغير. أي أن السلام بالنسبة لهم فرصة سانحة للتطرّف. وفي مجلس النواب الأردني، تم توقيع مطالبة من 57 نائبا بالتخلي عن المعاهدة، مع تعداد ما لا يقل عن 80 خرقاً لها من الطرف الآخر.
ولكن لا أحد يتوقع إقدام الحكومة الأردنية على مثل هذا الإجراء، فالعلاقات مع الدولة العبرية إذ
ترتبط بالمعاهدة، فإنها تتعلق أيضا بالعلاقات المتشعبة مع أميركا، وهي علاقات تاريخية وراسخة، بصرف النظر عن الحزب الذي يقود الدولة العظمى. ولكن سيادة البلد وقراراته المستقلة ليست رهنا بأية علاقةٍ مع طرف خارجي. وتشهد العلاقات بين عمّان وتل أبيب توترا صامتا منذ أكثر من سنة، لأسبابٍ تتعلق بأراضي الباقورة والغمر، وبالتحدّي الإسرائيلي الصلف للوصاية الأردنية على المقدسات، وقبل ذلك لرفض الأردن التسليم بالقدس عاصمة للاحتلال، ولتعطيل تل أبيب فرص التبادل التجاري بين الأردن والسلطة الفلسطينة، ولأسباب أخرى منها محاولات تل أبيب إلغاء وجود وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) التي تلبي متطلبات أساسية لـ14 مخيما في الأردن، ولسلوك السياح الإسرائيليين ومحاولات بعضهم إقامة صلواتٍ مشبوهة الأهداف في أماكن أثرية أردنية، ولتحريض إسرائيلي من نتنياهو على الأردن في البيت الأبيض، ثم لما تشيعه صفقة القرن من توجس أردني شديد.
جملة هذه الأسباب، إضافة إلى عوامل أخرى تجعل مسيرة السلام بين الجانبين، ومن وجهة النظر الأردنية، الشعبية أساسا، أشبه بتعاقد اضطراري أملته ظروف جيوسياسية، ومحدّدات أمنية، وتحالفات دولية، وليس خيارا ذاتيا تاما، مع الأخذ في الاعتبار أن عهد الملك عبدالله الثاني الذي ورث المعاهدة باعتبارها إحدى المعاهدات الدولية الواجب الوفاء لمقتضياتها، كما واجه صعود اليمين الإسرائيلي المتطرّف، ظل أقل اندفاعا في التطبيع الرسمي، وأقل ثقة بالإسرائيليين من عهد والده الملك الراحل الحسين الذي كان ينظر إلى العلاقة مع تل أبيب من منظور الحرب الكونية الباردة، والمحاذير الداخلية والإقليمية من زعزعة الحكم في المملكة، في وقتٍ كان حزب العمل يتصدّر الحياة الحزبية في الدولة العبرية.
وعليه، ليس من المبالغة في شيء استخلاص أن السلام بين الجانبين ما زال يحمل طعم القطيعة وتكتنفه شكوك عميقة. ولليمين الإسرائيلي "فضل" مشهود في تجويف معنى السلام، وفي الإنكار الأيديولوجي المقيت والمتعمّد لجوهر الصراع المتعلق بالحقوق الفلسطينية، وحيث تتشابك وتتكامل المصالح والحقوق لدى كل من الأردن وفلسطين.
وللتشابك القائم بين الأردن وفلسطين، ألقى توقف المسار الفلسطيني الإسرائيلي ظلالاً كابية على المعاهدة، واحتفظ الطرف الإسرائيلي بإظار سواد الأردنيين بصورة العدو، على الرغم من أن
والراجح أن الجانب الأردني لن يحتفل بذكرى المعاهدة إلا بصورة بروتوكولية محتشمة، وبعيدة قدر الإمكان عن أنظار وسائل الإعلام. وذلك لأن أخبارا من هذا النوع لا يُنظر إليها بعين الرضى من الجمهور العريض الذي ينشغل، منذ نحو عام، باستعادة الأراضي الأردنية المؤجرة، وفق المعاهدة، في منطقتَي الباقورة والغمر. ومع حلول يوم الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، يتعيّن إخلاء تلك الأراضي من المزارعين الإسرائيليين من الباقورة، ومن أي وجود أمني أو عسكري في منطقة الغمر. وتسعى تل أبيب، بصورة محمومة، إلى التفلت من هذا الاستحقاق، وتبث أخبارا عن تفاهم مزعوم بين الجانبين لتمديد الاتفاق سنة واحدة. هذا من دون التقليل من أثر ضغوط تمارس على عمّان، منها التلويح بخفض كميات المياه المحوّلة من نهر الأردن ..
وواقع الحال أن صورة المعاهدة ترتسم عبر أكثر من جانب: منها الأراضي الواجب استعادتها وعدم تمديد فترة تأجيرها، ومنها الاستباحة الدائمة للمسجد الأقصى التي تحمل إصرارا على تدنيس المكان، والاستهانة بالوصاية الأردنية على الأماكن المقدسة، ثم المطامع المعلنة بالاستيلاء التام على بيت المقدس. ومنها الرفض الإسرائيلي لعودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم، بما يعنيه ذلك من تعلق اليمين المتطرّف بالخيار الأردني. لهذا لا تجد المعاهدة إلا قليلين ممن يدافعون عنها من الجانب الأردني. وإذا فعلوا فالدفاع يتعلق بظروف التوقيع عليها، والآمال التي علقت قبل ربع قرن، وليس بالتداعيات، أو حتى النتائج الملموسة التي نجمت عنها. فالإسرائيليون، خلافا لغيرهم، يتشبثون أكثر فأكثر بنزعاتهم التوسعية، كلما جنح طرفٌ عربي إلى السلام، ولا يرون في السلام فرصة للاعتدال في المواقف والاعتراف بحقوق الغير. أي أن السلام بالنسبة لهم فرصة سانحة للتطرّف. وفي مجلس النواب الأردني، تم توقيع مطالبة من 57 نائبا بالتخلي عن المعاهدة، مع تعداد ما لا يقل عن 80 خرقاً لها من الطرف الآخر.
ولكن لا أحد يتوقع إقدام الحكومة الأردنية على مثل هذا الإجراء، فالعلاقات مع الدولة العبرية إذ
جملة هذه الأسباب، إضافة إلى عوامل أخرى تجعل مسيرة السلام بين الجانبين، ومن وجهة النظر الأردنية، الشعبية أساسا، أشبه بتعاقد اضطراري أملته ظروف جيوسياسية، ومحدّدات أمنية، وتحالفات دولية، وليس خيارا ذاتيا تاما، مع الأخذ في الاعتبار أن عهد الملك عبدالله الثاني الذي ورث المعاهدة باعتبارها إحدى المعاهدات الدولية الواجب الوفاء لمقتضياتها، كما واجه صعود اليمين الإسرائيلي المتطرّف، ظل أقل اندفاعا في التطبيع الرسمي، وأقل ثقة بالإسرائيليين من عهد والده الملك الراحل الحسين الذي كان ينظر إلى العلاقة مع تل أبيب من منظور الحرب الكونية الباردة، والمحاذير الداخلية والإقليمية من زعزعة الحكم في المملكة، في وقتٍ كان حزب العمل يتصدّر الحياة الحزبية في الدولة العبرية.
وعليه، ليس من المبالغة في شيء استخلاص أن السلام بين الجانبين ما زال يحمل طعم القطيعة وتكتنفه شكوك عميقة. ولليمين الإسرائيلي "فضل" مشهود في تجويف معنى السلام، وفي الإنكار الأيديولوجي المقيت والمتعمّد لجوهر الصراع المتعلق بالحقوق الفلسطينية، وحيث تتشابك وتتكامل المصالح والحقوق لدى كل من الأردن وفلسطين.