28 سبتمبر 2024
تظاهرات الجزائر.. قطار الجمهورية الثانية
لم نكن، في أحلى أحلامنا، أو أشدّها تعاسة، نظنّ أنه يأتي يومٌ يخرج فيه الجزائريون إلى الشّارع بمطالب سياسية، بعد إغلاقٍ للمجال السياسي دام عقدين، جاءا عقب عشرية سوداء دامية، تركت بصماتها الشديدة على العقل الجمعي الجزائري، وجعلته يتوجّس من الشّارع والفعل السياسي برمّته، سواء أكان انتخابا، انتماءً للأحزاب، أو نشاطا وحراكا بصبغة سياسية.
كتب صاحب هذه السطور، في مقالةٍ سابقة في "العربي الجديد"، أنّ الجزائريين تعبوا من السّلطة والمعارضة، كليهما، وأعلنوها مدويةً في سعيهم إلى استرجاع إدارتهم للفعل السياسي بكل حرية. ولعلّ هذا هو الدّرس الأوّل والأبرز من هذه التظاهرات، حيث رفضت جموع المتظاهرين انضمام الأحزاب إلى المسيرات، كما رفضوا دعوات المعارضة إلى الاصطفاف ضمن شعاراتٍ ترفعها تلك المعارضة، احتواء لتلك الجموع، أو محاولة منها لكسبها، واعتبارها تتحرّك في إطار رؤيتها التغييرية التي لم تلق إلا الرّفض من جميع فئات المجتمع.
تُعتبر هذه المحاولة من المعارضة، لكسب نقاطٍ في معركة التّموقع في لعبةٍ سياسيةٍ جزئية ومؤقتة (التّموقع في هذه الانتخابات الرئاسية المقبلة، والمفاوضة بشأن تشريعيات 2022) فاشلة، لأنها استهدفت تغيير مسار التظاهرات، وهو ما رفضه الجزائريون، ويكون هذا نجاحا للمواطنين في إخضاع الطبقة السياسية، برمّتها، لسماع صوتها سماعا خالصا، وفرضا لمنطق التحاكم إليهم وحدهم، واعتبارهم، في هذا النطاق، الفاعلين السياسيين الذين عليهم تحريك المسار، وتوجيه بوصلة التّغيير، وهذا، بصفة حصرية، كما تنصّ على ذلك القوانين، ومنها الدستور.
يتمثّل الدرس الثاني في أن التظاهرات أصبحت، هذه المرة، وطنية، وجامعة كل الفئات، وبمطلب واحد، هو عدم التجديد لعهدة جديدة للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، ومن ورائها، إدخال تغييراتٍ عميقة على النظام السياسي، وهو ما استدعى توصيف ما حدث بأنه عودة إلى تاريخ الجزائر برمّتها. كانت التظاهرات الجديدة نتاجا تراكميا للتظاهرات التي لم تتوقف، غير أنها
(السابقة) كانت فئوية، اجتماعية، ومن دون رموز من حيث المطالب، خصوصا منها تلك التي لها صلة بالدائرة السياسية.
لقد شهدت البلاد، طوال العشريتين السابقتين، آلاف الاحتجاجات، وارتكز كثير منها على النّخب (المعلمين والأطباء)، وعلى فئاتٍ كان لها الدور الحيوي في إيقاف سيل الدماء في العشرية السوداء (العسكريون المتقاعدون، أشباه العسكريين الذين قاموا بعمل بطولي لمحاربة الجريمة والإرهاب في تلك العشرية). أما هذه المرة، فقد اتسعت المشاركة، المطالب والفضاء الجغرافي، لتكون تظاهراتٍ بدون مثيل منذ الاستقلال، حيث إنها لا تشبه حتى المظاهرات التي عرفتها الجزائر في نهاية ثمانينيات القرن الماضي.
يتعلّق الدرس الثّالث بقدرة الحراك على إيجاد بدائل لما يُطرح على الساحة، بمعنى أن يحمل، الآن، مشروعا، وذلك من منطلق المشروعية التي اكتسبها، بعد أن تمكّن من الخروج في كل الجزائر، بمطلب واحد في شكل منظم وصوت واحد. إلى أي مدى يمكنه فعل ذلك؟ هذا هو السّؤال الذي بدأ يعلو، ويحتاج إلى تنسيق الصفوف. وهو درس حيوي، بعد نجاح هذا الشارع في تعرية السّلطة والمعارضة معا، بمعنى أنه يطالب بنخب سياسية وطبقة سياسية جديدتيْن كليا، وبنمط حكم جديد، يوفر أجواء التداول على السلطة، ويحول دون تركيز السلطة في يد رجل واحد.
وبارتفاع معطى الخوف، سارع الشارع إلى فرض نفسه. وعلى الرغم من عبارات وصفهم بـ"المغرّر بهم"، والمستجيبين لنداءاتٍ تارة "مجهولة"، وأحيانا أخرى "مشبوهة"، فإن الجزائريين خرجوا في شكل منظّم، وقدموا صورة حضارية لشعبٍ، ظن كثيرون أنه خضع للخنوع، واستكان للطمأنينة الشّكلية.
ويكون الخوف قد زال أو صغر حجمه كثيرا في نفوس الجزائريين، بسبب التعامل الاحترافي والحضاري للمؤسسات الأمنية مع التظاهرات، وهو ما تمثل، على أرض الواقع، في العناق
الذي شوهد في التظاهرات بين المواطنين ورجال الشرطة، بل انتشرت صور رجال شرطة يسعفون مواطنا أصيب خطأ بالقرب من العاصمة، ما يزيد من زخم السّلمية والشكل الحضاري للحراك.
لا يمكن الانتهاء من الدّروس المستخلصة من الحراك الجزائري، من دون الإشارة إلى أن مسار اكتساب المرجعيات، القيادات الكاريزمية والإبانة عن مشروع (متطلبات التغيير التي على الشارع اكتسابها لفرض نفسه حكما حصريا) أو خطة طريق للتغيير، يكون قد انطلق بعدد التجارب التي يكتسبها الشارع من تظاهراته، خصوصا أنه لم يسمح للشخصيات ولا للأحزاب، بركوب الموجة لاحتوائه أو شراء ولائه. إنّه الحلم الجزائري الذي تحقّق، والذي طالما انتظرناه في الجزائر.
من غير المعقول، طبعا، أن لا تكون هناك ردود أفعال من السلطة على هذا الحراك. وإلى حد الآن، كانت الردود محتشمةً، جسّدتها التعليمات التي أعُطيت للمؤسسات في مقاربة التعامل مع التظاهرات، من ناحية، ومن ناحية أخرى، من حيث مقاربة التعامل الإعلامي التي بدأت متجاهلةً للأحداث وللحراك ثم، بعد تظاهرات الإعلاميين والصحافيين، بدأ مسار الحديث عن مطالب بـ"الإصلاح" و"التغيير" يبرز في نشرات التلفزيون العمومي، وهي بادرة خير للتغيير القادم في الجزائر، إن شاء الله.
يبدو غد الجزائر مشرقا، ونحن على مشارف التصالح التاريخي بين السلطة والجزائريين. ولعل التظاهرات السلمية والتعامل الحضاري، طوال الأسبوعين الماضيين، مقدمة لمسار إصلاحي وتغييري يليق ببلد كبير، يستحق الرجوع إلى التاريخ، مرة أخرى.. وإن غدا لناظره لقريب.
تُعتبر هذه المحاولة من المعارضة، لكسب نقاطٍ في معركة التّموقع في لعبةٍ سياسيةٍ جزئية ومؤقتة (التّموقع في هذه الانتخابات الرئاسية المقبلة، والمفاوضة بشأن تشريعيات 2022) فاشلة، لأنها استهدفت تغيير مسار التظاهرات، وهو ما رفضه الجزائريون، ويكون هذا نجاحا للمواطنين في إخضاع الطبقة السياسية، برمّتها، لسماع صوتها سماعا خالصا، وفرضا لمنطق التحاكم إليهم وحدهم، واعتبارهم، في هذا النطاق، الفاعلين السياسيين الذين عليهم تحريك المسار، وتوجيه بوصلة التّغيير، وهذا، بصفة حصرية، كما تنصّ على ذلك القوانين، ومنها الدستور.
يتمثّل الدرس الثاني في أن التظاهرات أصبحت، هذه المرة، وطنية، وجامعة كل الفئات، وبمطلب واحد، هو عدم التجديد لعهدة جديدة للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، ومن ورائها، إدخال تغييراتٍ عميقة على النظام السياسي، وهو ما استدعى توصيف ما حدث بأنه عودة إلى تاريخ الجزائر برمّتها. كانت التظاهرات الجديدة نتاجا تراكميا للتظاهرات التي لم تتوقف، غير أنها
لقد شهدت البلاد، طوال العشريتين السابقتين، آلاف الاحتجاجات، وارتكز كثير منها على النّخب (المعلمين والأطباء)، وعلى فئاتٍ كان لها الدور الحيوي في إيقاف سيل الدماء في العشرية السوداء (العسكريون المتقاعدون، أشباه العسكريين الذين قاموا بعمل بطولي لمحاربة الجريمة والإرهاب في تلك العشرية). أما هذه المرة، فقد اتسعت المشاركة، المطالب والفضاء الجغرافي، لتكون تظاهراتٍ بدون مثيل منذ الاستقلال، حيث إنها لا تشبه حتى المظاهرات التي عرفتها الجزائر في نهاية ثمانينيات القرن الماضي.
يتعلّق الدرس الثّالث بقدرة الحراك على إيجاد بدائل لما يُطرح على الساحة، بمعنى أن يحمل، الآن، مشروعا، وذلك من منطلق المشروعية التي اكتسبها، بعد أن تمكّن من الخروج في كل الجزائر، بمطلب واحد في شكل منظم وصوت واحد. إلى أي مدى يمكنه فعل ذلك؟ هذا هو السّؤال الذي بدأ يعلو، ويحتاج إلى تنسيق الصفوف. وهو درس حيوي، بعد نجاح هذا الشارع في تعرية السّلطة والمعارضة معا، بمعنى أنه يطالب بنخب سياسية وطبقة سياسية جديدتيْن كليا، وبنمط حكم جديد، يوفر أجواء التداول على السلطة، ويحول دون تركيز السلطة في يد رجل واحد.
أبانت التظاهرات أن ثمّة مراكز قوى في البلاد، أو من يعرفون "الناخبين الكبار" أو "دوائر الحكم"، وهي دوائر اختلفت بشأن العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة، خصوصا بسبب مرضه الذي ألمّ به منذ سنوات، ولم تتوافق إلا على رسالةٍ ذات مضمون سلبي للجزائريين، تم التقاطها في شكل استفزاز. وبالتالي، كان ذاك بمثابة قطرة الماء التي أفاضت الكأس.
أما الدّرس الرّابع فله صلة بالخوف الذي كان يتمثل رهانه في مقاربة الاحتكام إلى الشارع، وذلك بسبب الذاكرة الجماعية، وما تختزنه من صور بشعة بشأن الحراك (العشرية السوداء التي شهدتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، وأودت بعشرات الآلاف من الجزائريين). ويكون النظام قد فهم حجم هذا الخوف وأبعاده، وحاول الاستثمار فيه منذ سنوات، خصوصا عندما قال إن الجزائر عاشت ربيعها منذ عقود، وعمل، للحفاظ على تلك الصور المخيفة للموت والدم، على التلويح بها، كلّما لمح في الشّارع محاولةً للاستفاقة، إلى درجة أنّ الوزير الأول (رئيس الحكومة)، أحمد أويحيى، تحدّث عن الحالة السورية التي بدأت بالورود، وانتهت إلى ما انتهت إليه العملية التغييرية الجزائرية، أي بالتخريب والموت والدّمار.وبارتفاع معطى الخوف، سارع الشارع إلى فرض نفسه. وعلى الرغم من عبارات وصفهم بـ"المغرّر بهم"، والمستجيبين لنداءاتٍ تارة "مجهولة"، وأحيانا أخرى "مشبوهة"، فإن الجزائريين خرجوا في شكل منظّم، وقدموا صورة حضارية لشعبٍ، ظن كثيرون أنه خضع للخنوع، واستكان للطمأنينة الشّكلية.
ويكون الخوف قد زال أو صغر حجمه كثيرا في نفوس الجزائريين، بسبب التعامل الاحترافي والحضاري للمؤسسات الأمنية مع التظاهرات، وهو ما تمثل، على أرض الواقع، في العناق
لا يمكن الانتهاء من الدّروس المستخلصة من الحراك الجزائري، من دون الإشارة إلى أن مسار اكتساب المرجعيات، القيادات الكاريزمية والإبانة عن مشروع (متطلبات التغيير التي على الشارع اكتسابها لفرض نفسه حكما حصريا) أو خطة طريق للتغيير، يكون قد انطلق بعدد التجارب التي يكتسبها الشارع من تظاهراته، خصوصا أنه لم يسمح للشخصيات ولا للأحزاب، بركوب الموجة لاحتوائه أو شراء ولائه. إنّه الحلم الجزائري الذي تحقّق، والذي طالما انتظرناه في الجزائر.
من غير المعقول، طبعا، أن لا تكون هناك ردود أفعال من السلطة على هذا الحراك. وإلى حد الآن، كانت الردود محتشمةً، جسّدتها التعليمات التي أعُطيت للمؤسسات في مقاربة التعامل مع التظاهرات، من ناحية، ومن ناحية أخرى، من حيث مقاربة التعامل الإعلامي التي بدأت متجاهلةً للأحداث وللحراك ثم، بعد تظاهرات الإعلاميين والصحافيين، بدأ مسار الحديث عن مطالب بـ"الإصلاح" و"التغيير" يبرز في نشرات التلفزيون العمومي، وهي بادرة خير للتغيير القادم في الجزائر، إن شاء الله.
يبدو غد الجزائر مشرقا، ونحن على مشارف التصالح التاريخي بين السلطة والجزائريين. ولعل التظاهرات السلمية والتعامل الحضاري، طوال الأسبوعين الماضيين، مقدمة لمسار إصلاحي وتغييري يليق ببلد كبير، يستحق الرجوع إلى التاريخ، مرة أخرى.. وإن غدا لناظره لقريب.