19 أكتوبر 2019
دور فرنسا في ليبيا ومعضلة "الحقيقة الميدانية"
على الرغم من اعترافه بأن التدخل في ليبيا في العام 2011 كان خطأً، لأنه مزّق هذا البلد أشلاء، وحوّله مصدر تهديد لجيرانه ولأوروبا، خصوصا بالنظر إلى نشاط الجماعات الإرهابية وتدفق المهاجرين، فإن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، سار على خطى سلفه فرنسوا هولاند، مراهناً على اللواء المتقاعد خليفة حفتر في الحرب الأهلية الدائرة في ليبيا، ما جعل موقف فرنسا في غاية التناقض، فهي من جهة تدعو، نظرياً، إلى الحل السلمي وتعترف بحكومة الوفاق الوطني المنبثقة عن الاتفاق السياسي الليبي. ومن جهة ثانية، تساند، عملياً، قوات حفتر ضد خصومه، وأرسلت حتى أفراداً من قواتها الخاصة لدعمه، بحجة محاربة الإرهاب، مراهنةً على الحل العسكري الذي تتمنّى أن يفرضه حفتر.
حتى في الأيام التي سبقت زحف قوات حفتر على طرابلس، الذي بدأ يوم 4 إبريل/ نيسان الجاري، عملت فرنسا على الحد من درجة التناقض في موقفها بدعم حفتر على بسط سيطرته على شرق ليبيا، ثم على الهلال النفطي، مع الإبقاء على قواته بعيدة قدر الإمكان عن الاحتكاك مع قوات حكومة الوفاق الوطني ومختلف فصائل غرب ليبيا.
هل تلقى حفتر الضوء الأخضر من فرنسا للزحف على طرابلس، أم أنه استغل سياق الحراك في الجزائر من جهة، وانشغال فرنسا به، وانشغال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بتعديلاته الدستورية، سعياً إلى الرئاسة مدى الحياة (قد تأتي تعديلات أخرى للتمديد مجدّداً)،
من جهة ثانية؟ لا شك في أن حفتر يحاول استغلال انشغال الجزائر بحراكها، حتى لا تتحرّك لدى حلفائه، لا سيما مصر وفرنسا. ولكن من المستبعد أن يكون قد أقبل على هذه الخطوة الجريئة، غزو طرابلس، من دون استشارة حلفائه، فموقف مصر والإمارات (والسعودية) يفيد بأن هذه الدول تدعمه وتشجعه في مشروعه العسكري. أما فرنسا فحتى وإن استشيرت، من المستبعد أن تكون قد زكّت هذه الخطوة تخوفاً من تبعاتها السياسية، كما تدل على ذلك عزلتها في الاتحاد الأوروبي بشأن هذا الموضوع. كما أنها تعلم جيداً أن الجزائر وتونس وإيطاليا وغيرها ستحملها المسؤولية، وهي البلدان الأكثر اعتراضاً على سير قوات حفتر غرباً. إذا كان حفتر قد أقبل على هذه الخطوة، من دون تزكية فرنسا، فهذا يعني ضرباً لمصداقيتها؛ فعلى الرغم من دعمها له، لم يعر أهمية لموقفها، ما يعني أن موازين القوى بين حلفاء حفتر تميل لصالح مصر والإمارات الأكثر دعماً ودفعاً نحو التسوية العسكرية.
على الرغم من أنها تقول بضرورة الحل السياسي في ليبيا، راهنت فرنسا، منذ البداية، على حفتر بدعوى محاربة الإرهاب، وتبرّر، منذ 2016، موقفها من حفتر بالقول إنه "حقيقة ميدانية" لا يمكن تجاهلها. ولكن عدم تجاهله شيء ودعمه سياسياً وعسكرياً شيء آخر. والواضح أن فرنسا (والدول الأوروبية) لم تأخذ تصريحات حفتر بشأن غزو طرابلس على محمل الجد، فمنذ اعترفت الدول الأوروبية بحفتر، عام 2016، خصوصا بعد استيلائه على الهلال النفطي، فاعلا أساسيا في ليبيا وطرفا في العملية السياسية في البلاد، مشرعنةً، عملياً، مطالبه وخططه، وهي تراهن على إدماجه في العملية السياسية، وعلى قدرته على إحلال الأمن في ليبيا، ولسان حالها الأمن/ الاستقرار أولاً، وتغض البصر عن انقلابه على الشرعية، وتصرفاته المناوئة للأجندة الدولية في ليبيا التي تحملها الأمم المتحدة، وعن طموحاته بفرض حل عسكري في البلاد، وكذلك عن انخراطه في لعبةٍ إقليميةٍ لصالح مصر والإمارات. ولكن مع مرور الوقت، أصبح دعم حفتر محل خلاف إضافي بين دول الاتحاد الأوروبي، فإيطاليا التي تدعم حكومة الوفاق الوطني، وتساهم هي الأخرى في مسارات الوساطة لتسوية الأزمة الليبية، تعيب على فرنسا دعمها حفتر سياسياً وعسكرياً، وتتهمها بوضع المصالح الأوروبية على المحك.
يعد زحف قوات حفتر نحو غرب ليبيا في وقتٍ كان فيه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو
غوتيريس، في زيارة إلى طرابلس، ضربة قوية لـ"المجموعة الدولية". زحف وضع فرنسا في موقف حرج للغاية، جعلها تؤكد، بداية من 9 إبريل/ نيسان الحالي، أنه لا يمكن تسوية الأزمة لليبية بالقوة، وأن الشرعية لا يمكن أن تأتي إلا من حل سياسي، نافيةً أن تكون لها أي "خطة خفية" في ليبيا، وزاعمة أنها لا تتبنّى موقفاً مزدوجاً حيال الصراع الليبي. وشرعت الحكومة الفرنسية في هجوم دبلوماسي، محاولة إقناع منتقديها بأنها ترفض الزحف على طرابلس، ولا تعترف بأي شرعية لحفتر، إن هو سيطر على طرابلس بالقوة.. إلا أن هذه التأكيدات لم تقنع منتقديها، ففرنسا تعلم جيداً أن الإمارات ومصر تسلّحان حفتر، وتخرقان بالتالي الحظر الدولي المفروض على ليبيا منذ 2011، لكنها لم تندّد بهذا الانتهاك للحظر الدولي. وهي متهمة بعرقلة بيان للاتحاد الأوروبي، يندد بهجوم حفتر على طرابلس. كما أن فرنسا، مثل الولايات المتحدة، لم تُعلم الأمم المتحددة بقافلة دبابات حفتر المتجهة نحو طرابلس، على الرغم من معرفتها بما يجري في ليبيا، بفضل أقمارها الاصطناعية للتجسس العسكري.
وبما أنها في موقف دفاعي دولياً، من المنتظر أن تحرّك فرنسا دبلوماسيتها، سعياً للتوصل إلى
اتفاق لوقف إطلاق النار بين الفرقاء الليبيين. ولكن إذا كانت عاجزة أو غير راغبة في وقف زحف حفتر غرباً، فكيف بها أن تجبره على قبول اتفاق لوقف النار؟ ولنفترض أن الأخير سيقبل بهذا الاتفاق، فما هي حدوده الجغرافية؛ هل العودة إلى خطوط ما قبل 4 إبريل/ نيسان 2019، أم خطوط وجود قواته الآن على مشارف طرابلس؟ بما أن فرنسا برّرت دعمها "التقني" والسياسي لحفتر بدعوى أنه "حقيقة ميدانية"، وأنه يسيطر على ثلثي التراب الليبي، فإنها، ومصر والإمارات، ستفضل اتفاقاً لوقف إطلاق النار وفقاً لخطوط المواجهة الحالية، محاولةً افتكاك اعتراف حكومة الوفاق الوطني بتقدّم قوات حفتر. وهذا ما سُيستغل لاحقاً حجة إضافية لذريعة "الحقيقة الميدانية".
هكذا تواصل فرنسا اللعب بالنار في ليبيا، فهي فضلت الحل العسكري في 2011، ثم منذ 2016، لكن ذلك لم يحل الأزمة الليبية. ومن المستبعد أن تنجح هذه المرة في ذلك. وحتى وإن افترضنا أن حفتر سيحقق مبتغاه، فإنه كما تمرّد هو وحمل السلاح، سيأتي أيضاً من سيتمرّد عليه، ويحمل السلاح في وجهه. إنها قاعدة قديمة في الحياة اليومية، كما في الصراعات السياسية؛ كما تدين تُدان. لا يبقى، إذن، إلا الحل السياسي على أساس أرضية ضمانات مشتركة، تكون قاعدة لاتفاق سياسي شامل، ينهي الحرب الأهلية في البلاد.
حتى في الأيام التي سبقت زحف قوات حفتر على طرابلس، الذي بدأ يوم 4 إبريل/ نيسان الجاري، عملت فرنسا على الحد من درجة التناقض في موقفها بدعم حفتر على بسط سيطرته على شرق ليبيا، ثم على الهلال النفطي، مع الإبقاء على قواته بعيدة قدر الإمكان عن الاحتكاك مع قوات حكومة الوفاق الوطني ومختلف فصائل غرب ليبيا.
هل تلقى حفتر الضوء الأخضر من فرنسا للزحف على طرابلس، أم أنه استغل سياق الحراك في الجزائر من جهة، وانشغال فرنسا به، وانشغال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بتعديلاته الدستورية، سعياً إلى الرئاسة مدى الحياة (قد تأتي تعديلات أخرى للتمديد مجدّداً)،
على الرغم من أنها تقول بضرورة الحل السياسي في ليبيا، راهنت فرنسا، منذ البداية، على حفتر بدعوى محاربة الإرهاب، وتبرّر، منذ 2016، موقفها من حفتر بالقول إنه "حقيقة ميدانية" لا يمكن تجاهلها. ولكن عدم تجاهله شيء ودعمه سياسياً وعسكرياً شيء آخر. والواضح أن فرنسا (والدول الأوروبية) لم تأخذ تصريحات حفتر بشأن غزو طرابلس على محمل الجد، فمنذ اعترفت الدول الأوروبية بحفتر، عام 2016، خصوصا بعد استيلائه على الهلال النفطي، فاعلا أساسيا في ليبيا وطرفا في العملية السياسية في البلاد، مشرعنةً، عملياً، مطالبه وخططه، وهي تراهن على إدماجه في العملية السياسية، وعلى قدرته على إحلال الأمن في ليبيا، ولسان حالها الأمن/ الاستقرار أولاً، وتغض البصر عن انقلابه على الشرعية، وتصرفاته المناوئة للأجندة الدولية في ليبيا التي تحملها الأمم المتحدة، وعن طموحاته بفرض حل عسكري في البلاد، وكذلك عن انخراطه في لعبةٍ إقليميةٍ لصالح مصر والإمارات. ولكن مع مرور الوقت، أصبح دعم حفتر محل خلاف إضافي بين دول الاتحاد الأوروبي، فإيطاليا التي تدعم حكومة الوفاق الوطني، وتساهم هي الأخرى في مسارات الوساطة لتسوية الأزمة الليبية، تعيب على فرنسا دعمها حفتر سياسياً وعسكرياً، وتتهمها بوضع المصالح الأوروبية على المحك.
يعد زحف قوات حفتر نحو غرب ليبيا في وقتٍ كان فيه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو
وبما أنها في موقف دفاعي دولياً، من المنتظر أن تحرّك فرنسا دبلوماسيتها، سعياً للتوصل إلى
هكذا تواصل فرنسا اللعب بالنار في ليبيا، فهي فضلت الحل العسكري في 2011، ثم منذ 2016، لكن ذلك لم يحل الأزمة الليبية. ومن المستبعد أن تنجح هذه المرة في ذلك. وحتى وإن افترضنا أن حفتر سيحقق مبتغاه، فإنه كما تمرّد هو وحمل السلاح، سيأتي أيضاً من سيتمرّد عليه، ويحمل السلاح في وجهه. إنها قاعدة قديمة في الحياة اليومية، كما في الصراعات السياسية؛ كما تدين تُدان. لا يبقى، إذن، إلا الحل السياسي على أساس أرضية ضمانات مشتركة، تكون قاعدة لاتفاق سياسي شامل، ينهي الحرب الأهلية في البلاد.