17 نوفمبر 2019
في فهم التطبيع مع إسرائيل
يبدو واضحاً من هرولة بعض العرب نحو التطبيع مع إسرائيل فقدانهم البوصلة تماماً، فمن مواجهة الاحتلال إلى التطبيع الكامل معه، يحق للكاتب والمراقب أن يتساءل ما الذي يجري؟
"العرب وإسرائيل.. مخاطر التطبيع والمطبعين" ندوة عقدها، قبل أيام، منتدى التفكير العربي في لندن، اختزلت بحق الأزمة في اللحظة العربية الراهنة. فمن حرب عام 1948 إلى "تجوّع يا سمك البحر"، إلى قمة "اللاءات الثلاث" في الخرطوم في أغسطس/ آب 1967، يتساءل المواطن العربي: كيف انتهت بعض حكوماته إلى تبني مقاربة معاكسة لذلك تماماً، حيث يتم الآن تجريم المقاومة، وبناء "ناتو" عربي إسرائيلي، وبخطوات متسارعة ومريبة، كما أن أنظمة عربية تلغي تاريخاً طويلاً من الصراع مع دولة الاحتلال بالهرولة للتطبيع معها، واعتبارها حليفاً في مواجهة التحديات الإقليمية... ما الذي يجري؟
بعد أربعة حروب طاحنة، كانت مصر وإسرائيل طرفيها الرئيسين في 1948 و1956 و1967 و1973، وقّعا إطار سلام في اتفاقية كامب ديفيد التي مهّدت لتوقيع "معاهدة السلام" في 26 مارس/ آذار 1979، وبموجبها كانت مصر أول دولة عربية تقدم على هذه الخطوة، قاطعها العرب علناً، لكن بعضهم كان موقفه غير ذلك سراً، حيث عاد العرب إلى الهرولة بسرعة ضوئية نحو التطبيع من مؤتمر مدريد إلى معاهدة وادي عربة مع الأردن واتفاق إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي (أوسلو)، وصولاً إلى "الناتو" العربي الإسرائيلي والاستقبال العلني والحافل لقادة الاحتلال ووزرائه.
كما أن المثير للاستغراب كذلك والحيرة أن بعض العرب اقتنعوا برواية إسرائيل، وبدأ بعضهم سلوكَ مسار غريب، نحو التطبيع معها، وتجريم الفلسطينيين ومقاطعتهم، بل واعتبارهم أصل المشكلة مع تبرئة شاملة للمحتل. وفي محاولة تفكيك هذه المعادلة، وفي سياق تصاعد التطبيع مع صعود محور الثورات المضادة، يبدو أن بعض الأنظمة العربية شعرت بالخطر الكبير الذي يهدد بقاءها عقب انتفاضات الشعوب، فقد كانت فلسطين وتخاذلهُم تجاهها من المحركات الرئيسة لانتفاضة شعوبهم ضدهم، لكنهم بدل تصحيح مسارهم بادروا إلى الانتقام من القضية الفلسطينية ذاتها، فقد كان لافتاً أن كل ميادين الثورات العربية، وإن اختلفت في كل منها المطالب السياسية والاقتصادية، اتفقت على دعم القضية الفلسطينية، والتنديد بالاحتلال الإسرائيلي، وبالنظم المتماهية معه.
لم تخطئ إسرائيل في تقديرها أن هذا الربيع العربي، لو قدر له النجاح، ستكون أمام نظم ديمقراطية منتخبة، تعمل على تحقيق تطلعات شعوبها، وفي القلب منها وقف التطبيع، ودعم القضية الفلسطينية دعماً حقيقياً، وليس شعاراتياً.
ويبدو أن الانتفاضات العربية، أو ما اصطلح على تسميته "ما عرف بالربيع"، كانت بالفعل المحطة الفاصلة التي قرّبت أكثر بين تل أبيب وبعض النظم العربية، إذ تقاطعت مصالح
الطرفين بشكل مباشر أو غير مباشر في مواجهة هذا المدّ الثوري وإفشاله، والهجوم على من تبنّى خطاباً لإذكائه، وكان في القلب منه الخطاب الوطني والإسلامي الذي أذكى عواطف الشباب في انتفاضاتهم، وجعل في القلب منها قضية القدس وفلسطين.
ثمّة رابطٌ عجيبٌ في التزامن بين صعود محور الثورات المضادّة وتصاعد التطبيع مع إسرائيل، إذ هرولت النظم العربية الجديدة التي تصدرت المشهد عقب عام 2013 إلى التطبيع وقادت عربته، ونقلته من السر إلى العلن، كما شنّت تلك القوى حرباً مسعورة، ليس ضد بعض الفصائل السياسية الفلسطينية، أو فصائل المقاومة فقط، بل ضد القضية الفلسطينية برمتها وأصل الصراع فيها، وشكّكت تلك القوى والنظم في الرواية العربية الفلسطينية للصراع، لصالح تبنّي، بشكل أو بآخر، الرواية الصهيونية، والتي تقول إن الفلسطينيين هم من يذكون الصراع، برفضهم إحلال السلام والاستقرار، وهم من يمارس الإرهاب ضد إسرائيل، كما كان لافتاً رعاية تلك الأنظمة حملة تشويه للقضية والمقاومة الفلسطينيتين، عبر حملة ممنهجة في الإعلام الرسمي، وتوظيف جيوش من المغرّدين والناشطين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
كتبت مجلة فورين بوليسي الأميركية يوم 29/3/2019 أن دول الخليج تتقارب مع إسرائيل، وتغضّ النظر عن وجود عملية سلام في الصراع الفلسطيني. وترى ذلك بمثابة تدشين مرحلة سياسية جديدة في الشرق الأوسط. وذكرت أن العلاقة الجديدة بين بعض دول الخليج وإسرائيل هي جزء من نقلة أوسع تحاول إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قيادتها، وتتلخص في التحالف العلني بين الدول العربية وإسرائيل ضد إيران.
المشهد معقّد، من مظاهر تعقده وغرابته التحالف العربي مع رئيس أميركي اعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، واعترف بالجولان جزءاً من إسرائيل، مشهدٌ فيه أيضاً وزراء إسرائيليون يسافرون قاصدين عواصم عربية، لم يكن العرب في أسوأ كوابيسهم يتوقعون أن يستيقظوا على مثل هذا الكابوس. وهذا كله يجعل الجهد الشعبي، والعمل على حشد المتضامنين الأجانب في حملات المقاطعة الدولية، ضرورة وطنية وعنوان المواجهة لهذا الاحتلال العنصري بامتياز.
بعد أربعة حروب طاحنة، كانت مصر وإسرائيل طرفيها الرئيسين في 1948 و1956 و1967 و1973، وقّعا إطار سلام في اتفاقية كامب ديفيد التي مهّدت لتوقيع "معاهدة السلام" في 26 مارس/ آذار 1979، وبموجبها كانت مصر أول دولة عربية تقدم على هذه الخطوة، قاطعها العرب علناً، لكن بعضهم كان موقفه غير ذلك سراً، حيث عاد العرب إلى الهرولة بسرعة ضوئية نحو التطبيع من مؤتمر مدريد إلى معاهدة وادي عربة مع الأردن واتفاق إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي (أوسلو)، وصولاً إلى "الناتو" العربي الإسرائيلي والاستقبال العلني والحافل لقادة الاحتلال ووزرائه.
كما أن المثير للاستغراب كذلك والحيرة أن بعض العرب اقتنعوا برواية إسرائيل، وبدأ بعضهم سلوكَ مسار غريب، نحو التطبيع معها، وتجريم الفلسطينيين ومقاطعتهم، بل واعتبارهم أصل المشكلة مع تبرئة شاملة للمحتل. وفي محاولة تفكيك هذه المعادلة، وفي سياق تصاعد التطبيع مع صعود محور الثورات المضادة، يبدو أن بعض الأنظمة العربية شعرت بالخطر الكبير الذي يهدد بقاءها عقب انتفاضات الشعوب، فقد كانت فلسطين وتخاذلهُم تجاهها من المحركات الرئيسة لانتفاضة شعوبهم ضدهم، لكنهم بدل تصحيح مسارهم بادروا إلى الانتقام من القضية الفلسطينية ذاتها، فقد كان لافتاً أن كل ميادين الثورات العربية، وإن اختلفت في كل منها المطالب السياسية والاقتصادية، اتفقت على دعم القضية الفلسطينية، والتنديد بالاحتلال الإسرائيلي، وبالنظم المتماهية معه.
لم تخطئ إسرائيل في تقديرها أن هذا الربيع العربي، لو قدر له النجاح، ستكون أمام نظم ديمقراطية منتخبة، تعمل على تحقيق تطلعات شعوبها، وفي القلب منها وقف التطبيع، ودعم القضية الفلسطينية دعماً حقيقياً، وليس شعاراتياً.
ويبدو أن الانتفاضات العربية، أو ما اصطلح على تسميته "ما عرف بالربيع"، كانت بالفعل المحطة الفاصلة التي قرّبت أكثر بين تل أبيب وبعض النظم العربية، إذ تقاطعت مصالح
ثمّة رابطٌ عجيبٌ في التزامن بين صعود محور الثورات المضادّة وتصاعد التطبيع مع إسرائيل، إذ هرولت النظم العربية الجديدة التي تصدرت المشهد عقب عام 2013 إلى التطبيع وقادت عربته، ونقلته من السر إلى العلن، كما شنّت تلك القوى حرباً مسعورة، ليس ضد بعض الفصائل السياسية الفلسطينية، أو فصائل المقاومة فقط، بل ضد القضية الفلسطينية برمتها وأصل الصراع فيها، وشكّكت تلك القوى والنظم في الرواية العربية الفلسطينية للصراع، لصالح تبنّي، بشكل أو بآخر، الرواية الصهيونية، والتي تقول إن الفلسطينيين هم من يذكون الصراع، برفضهم إحلال السلام والاستقرار، وهم من يمارس الإرهاب ضد إسرائيل، كما كان لافتاً رعاية تلك الأنظمة حملة تشويه للقضية والمقاومة الفلسطينيتين، عبر حملة ممنهجة في الإعلام الرسمي، وتوظيف جيوش من المغرّدين والناشطين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
كتبت مجلة فورين بوليسي الأميركية يوم 29/3/2019 أن دول الخليج تتقارب مع إسرائيل، وتغضّ النظر عن وجود عملية سلام في الصراع الفلسطيني. وترى ذلك بمثابة تدشين مرحلة سياسية جديدة في الشرق الأوسط. وذكرت أن العلاقة الجديدة بين بعض دول الخليج وإسرائيل هي جزء من نقلة أوسع تحاول إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قيادتها، وتتلخص في التحالف العلني بين الدول العربية وإسرائيل ضد إيران.
المشهد معقّد، من مظاهر تعقده وغرابته التحالف العربي مع رئيس أميركي اعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، واعترف بالجولان جزءاً من إسرائيل، مشهدٌ فيه أيضاً وزراء إسرائيليون يسافرون قاصدين عواصم عربية، لم يكن العرب في أسوأ كوابيسهم يتوقعون أن يستيقظوا على مثل هذا الكابوس. وهذا كله يجعل الجهد الشعبي، والعمل على حشد المتضامنين الأجانب في حملات المقاطعة الدولية، ضرورة وطنية وعنوان المواجهة لهذا الاحتلال العنصري بامتياز.