02 نوفمبر 2024
العنصرية في أميركا وفي ديار عربية
(1)
كانت تغريدات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أخيرا، بخصوص عضوات في الكونغرس، متوقعة، ولو أنه تحدث بمنطق آخر لحمل الأمر مفاجأة، فقد دأب الرجل على إطلاق تلميحاتٍ عنصريةٍ، منذ بدء حملته الانتخابية قبل أربعة أعوام، بل إن موضوع الهجرة والمهاجرين شكّل محور تلك الحملة. ومع أن مضمون التغريدات كان متوقعا، إلا أن المساس بعضواتٍ في الكونغرس ضربٌ على وتر العبث بالمؤسسة التشريعية، كما انطوى على تصعيدٍ في تنافسٍ غير نزيه مع الحزب الديمقراطي الذي تنتمي إليه العضوات الأربع. ولذلك التأم الكونغرس، ونجح في التصويت على تحذيراتٍ رسميةٍ لرئيس البلد، وإدانة له بالعنصرية. ذلك الخبر الجيد. أما الخبر السيئ فهو أن 177 عضوا يمثلون الحزب الجمهوري وقفوا مع رئيسهم، فيما وقف مع التصويت ضده أربعة جمهوريين فقط، وهذا يدل على نجاح ترامب في جرّ الحزب وراءه. ولئن كان من الصحيح أن الجمهوريين تاريخيا ليسوا من المتعاطفين مع المهاجرين غير البيض، أو مع الأقليات عموما، لكنهم كانوا، في حقبٍ سابقة، يراعون "القيم الأميركية" (التعديل الرابع عشر على الدستور: فقرة الحقوق المدنية)، ونمط الحياة السائد والمستقر، وصورة أميركا في العالم.
ولا يخفى أن الانكشاف المتزايد لعنصرية الرجل هو ثمرة اجتهاده لتسويق حملته الانتخابية المقبلة، بعد أن نجح حقا في تقسيم الأمة على أسس عرقية ودينية، لا على أسس التعدّدية، وألهم يمينيين شعبويين في الغرب، واستثمر القنوات المباشرة (منصات التواصل) للتأثير على قاعدته، ممن يحلم أفرادها بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وبتصنيف الناس حسب لون البشرة والمعتقد الديني. وبينما ما زالت الهجرة متاحةً إلى هذا البلد، وفق معايير محدّدة، فإن ترامب (وهو سليل عائلة مهاجرة من ألمانيا) ما زال يطمح بترحيل الملايين، فإن شطرا كبيراً من الصحافة، ومن المشرّعين، ومن منافسيه الديمقراطيين، يتصدّون له، محتكمين إلى الدستور، وإلى قيم الدولة والمجتمع، وإلى القناعة بأن العنصرية تنتمي إلى حقبٍ سوداء سابقة، ولا يمكن أن يتسع لها عالمٌ يفخر بما حققه من تمدّن وتحضر.
وأن ينجح مجلس تشريعي في إدانة رئيس البلد، فتلك هي بعض من مآثر هذه الديمقراطية التي تنجح في ثلم شرعية الرئيس وتحجيمه، باعتباره يعبّر عن نفسه، وعن حزبه، ولا ينطق باسم
الأمة وتوافقاتها. هذا من دون أن يرفّ جفنٌ للرئيس العتيد، الهانئ بأنه ما زال رئيسا لا مثيل له في العشوائية والارتجال، وفي الخلط بين منصبه وشخصه، فيما تستمر المؤسسات في عملها بصورة طبيعية وراسخة، بما فيها القضاء، ويتمتع الإعلام بحريةٍ مكفولةٍ لا مثيل لها.
(2)
في بلدٍ بعيدٍ عن أميركا، وفي قلب الشرق الأوسط، تزدهر العنصرية كفطر سام، في بلد ما زال فيه من يطلق عليه تصنيفات ٍتفخيمية، فبالتوازي مع حملةٍ شعواء ضد اللاجئين السوريين المنكوبين الذين أخرجهم حزب الله عنوةً من بلادهم، تجدّدت حملةٌ ضد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بفرض مزيد من القيود على فرصهم في العمل، وهي في الأصل فرصٌ شحيحة. وتنتشر على محطات التلفزيون، وفي منصات التواصل، حملات عليهم، مع التفاخر بأن العنصرية أقوى برهان على الوطنية. ولا تلقى هذه الموجة المقيتة المتجدّدة صدىً يذكر في مجلس النواب. بينما تكافح منظمات مجتمع مدني في رفع الصوت ضد هذا الانحدار المتسارع، ويتعرّض أفرادها إلى أقذع أنواع الشتائم والتخوين، بعد أن أصبح رهاب اللاجئين جزءا من تقاليد الحياة في "العهد القوي"، عهد التيار الوطني الحر، الحاكم المتحالف مع حزب الله. والأخير هو من افتتح عملية تسميم الأجواء ضد اللاجئين السوريين، وحذّر من إيوائهم. وأسهم بقسطه في التضييق عليهم، والتنكيل بهم. وأمام الحملة الجديدة على لاجئي المخيمات، اكتفى أمين عام حزب الله بالإعراب عن قناعته بأنه سوف يصلي في القدس. وطمأن مستمعيه أن إيران التي يدين لها بالولاء التام سوف تفشّل صفقة القرن. أما مصير اللاجئين الفلسطينيين على مقربة منه، فتلك "تفاصيل" لا تستحق الانشغال بها في غمرة الانهماك بالأمور الاستراتيجية العظيمة.
يدين المرء العنصرية الصاعدة في الولايات المتحدة، وفي دولة الاحتلال الإسرائيلي ضد
الإثيوبيين اليهود (الفلاشا)، غير أن العنصرية في ديارنا، وفي عقر دورنا، تستحق إدانة أكبر، ففي الغرب هناك آليات تشريعية وقانونية للجم الوحش العنصري وتحجيمه. بينما لا تجد الردّات الاجتماعية في بلدٍ مثل لبنان منصّات قانونية لصدّها. حتى أن الحكومة اللبنانية، برئاسة سعد الحريري، لا تجد ما تفعله، وهي صاحبة الولاية، سوى مماشاة التيارات الأشد انغلاقا، التي تمثل إعادة إنتاج لطروحات اليمين اللبناني التاريخي، ولكن بصورة مضاعفة ومضخّمة هذه المرة، مرفوقة بشعاراتٍ طنانة جوفاء عن العظمة، وعن تغيير المعادلات في العالم، وعن الجينات الوطنية التي تتفوق على جينات الفلسطينيين والسوريين.
3
في بلد ثالث في شمال أفريقيا، هو ليبيا، تعرّض مركز للمهاجرين في بلدة تاجوراء للقصف يوم 3 يوليو/ تموز الجاري. وكان القصف مصدره قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وقد أدى إلى مقتل 60 مهاجرا، وجرح 130 منهم. ومن بين الضحايا مهاجرون من الجزائر والمغرب والسودان والصومال وموريتانيا وجنسيات أفريقية مختلفة، وهي المرة الثانية التي يتعرّض فيها مركز إيواء للاجئين الأفارقة في ليبيا للاستهداف من المصدر ذاته. ولعل الرجل أراد بذلك تقديم بطاقة انتسابٍ تثبت تأهله للعصر الجديد، عصر كراهية اللاجئين، وليس كراهية من تسبّب بتشريدهم. الكراهية التي تبلغ حد شن الحرب الوحشية على هؤلاء المنكوبين. أو الدعوة إلى إرغامهم على العودة من حيث أتوا، وفق رؤية الزعامة الروسية في وقت سابق من العام الماضي. ولكن الغرب الليبرالي رفض الخطة الروسية التي تتنافى مع المواثيق الدولية، ومع حقوق الإنسان في زمن الصراعات والحروب والكوارث.
ولا يخفى أن الانكشاف المتزايد لعنصرية الرجل هو ثمرة اجتهاده لتسويق حملته الانتخابية المقبلة، بعد أن نجح حقا في تقسيم الأمة على أسس عرقية ودينية، لا على أسس التعدّدية، وألهم يمينيين شعبويين في الغرب، واستثمر القنوات المباشرة (منصات التواصل) للتأثير على قاعدته، ممن يحلم أفرادها بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وبتصنيف الناس حسب لون البشرة والمعتقد الديني. وبينما ما زالت الهجرة متاحةً إلى هذا البلد، وفق معايير محدّدة، فإن ترامب (وهو سليل عائلة مهاجرة من ألمانيا) ما زال يطمح بترحيل الملايين، فإن شطرا كبيراً من الصحافة، ومن المشرّعين، ومن منافسيه الديمقراطيين، يتصدّون له، محتكمين إلى الدستور، وإلى قيم الدولة والمجتمع، وإلى القناعة بأن العنصرية تنتمي إلى حقبٍ سوداء سابقة، ولا يمكن أن يتسع لها عالمٌ يفخر بما حققه من تمدّن وتحضر.
وأن ينجح مجلس تشريعي في إدانة رئيس البلد، فتلك هي بعض من مآثر هذه الديمقراطية التي تنجح في ثلم شرعية الرئيس وتحجيمه، باعتباره يعبّر عن نفسه، وعن حزبه، ولا ينطق باسم
(2)
في بلدٍ بعيدٍ عن أميركا، وفي قلب الشرق الأوسط، تزدهر العنصرية كفطر سام، في بلد ما زال فيه من يطلق عليه تصنيفات ٍتفخيمية، فبالتوازي مع حملةٍ شعواء ضد اللاجئين السوريين المنكوبين الذين أخرجهم حزب الله عنوةً من بلادهم، تجدّدت حملةٌ ضد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بفرض مزيد من القيود على فرصهم في العمل، وهي في الأصل فرصٌ شحيحة. وتنتشر على محطات التلفزيون، وفي منصات التواصل، حملات عليهم، مع التفاخر بأن العنصرية أقوى برهان على الوطنية. ولا تلقى هذه الموجة المقيتة المتجدّدة صدىً يذكر في مجلس النواب. بينما تكافح منظمات مجتمع مدني في رفع الصوت ضد هذا الانحدار المتسارع، ويتعرّض أفرادها إلى أقذع أنواع الشتائم والتخوين، بعد أن أصبح رهاب اللاجئين جزءا من تقاليد الحياة في "العهد القوي"، عهد التيار الوطني الحر، الحاكم المتحالف مع حزب الله. والأخير هو من افتتح عملية تسميم الأجواء ضد اللاجئين السوريين، وحذّر من إيوائهم. وأسهم بقسطه في التضييق عليهم، والتنكيل بهم. وأمام الحملة الجديدة على لاجئي المخيمات، اكتفى أمين عام حزب الله بالإعراب عن قناعته بأنه سوف يصلي في القدس. وطمأن مستمعيه أن إيران التي يدين لها بالولاء التام سوف تفشّل صفقة القرن. أما مصير اللاجئين الفلسطينيين على مقربة منه، فتلك "تفاصيل" لا تستحق الانشغال بها في غمرة الانهماك بالأمور الاستراتيجية العظيمة.
يدين المرء العنصرية الصاعدة في الولايات المتحدة، وفي دولة الاحتلال الإسرائيلي ضد
3
في بلد ثالث في شمال أفريقيا، هو ليبيا، تعرّض مركز للمهاجرين في بلدة تاجوراء للقصف يوم 3 يوليو/ تموز الجاري. وكان القصف مصدره قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وقد أدى إلى مقتل 60 مهاجرا، وجرح 130 منهم. ومن بين الضحايا مهاجرون من الجزائر والمغرب والسودان والصومال وموريتانيا وجنسيات أفريقية مختلفة، وهي المرة الثانية التي يتعرّض فيها مركز إيواء للاجئين الأفارقة في ليبيا للاستهداف من المصدر ذاته. ولعل الرجل أراد بذلك تقديم بطاقة انتسابٍ تثبت تأهله للعصر الجديد، عصر كراهية اللاجئين، وليس كراهية من تسبّب بتشريدهم. الكراهية التي تبلغ حد شن الحرب الوحشية على هؤلاء المنكوبين. أو الدعوة إلى إرغامهم على العودة من حيث أتوا، وفق رؤية الزعامة الروسية في وقت سابق من العام الماضي. ولكن الغرب الليبرالي رفض الخطة الروسية التي تتنافى مع المواثيق الدولية، ومع حقوق الإنسان في زمن الصراعات والحروب والكوارث.