30 اغسطس 2024
العمومية الوطنية.. أو مقدّمة لعقلنة الخصوصية الكردية
ليست العمومية مفهومًا مضادًا للخصوصية، ولكنها الأفق الذهني الذي يؤنسن الخصوصية. ذلك لأن العمومية تُعقلن الخصوصية، فتجعلها متناغمةً مع الإنسانية. ويمكن القول إن الخصوصية المُحددَّة بموجب العمومية تصبحُ داعيةَ حياة، فيما تكون الخصوصية المُحددَّة بموجب سرديتها المحلية متكوّرةً على ذاتها، ومضادةً لفهمٍ ناضجٍ لفن العيش، ومن ثم هي عقبةٌ أمام تعيين الفرد، وأمام قابلية البشر للاجتماع السلمي. واقتران خصوصية قومٍ بالعمومية يجعل من الخصوصية ضمانةً لخصوصيتها، بقدر ما يجعل منها ضمانةً للخصوصيات الأخرى، وما أن تصبح ضمانةً للخصوصيات الأخرى حتى تصبح ضمانةً وطنية، فلا تقبل بهدر الحياة فداءً لعصبية أو أدلوجة، وتقوم بمقاربة حياتها الداخلية بدلالة الحياة الإنسانية الكونية، لا العكس.
والعمومية غير العام، فإذا كان العام هو الخروج من الخاص، عبر تكوين رأي عام مثلًا، فإن مفهوم العمومي يتعدّى ذلك كله إلى مجموعة النقاشات العامة المفتوحة والحرّة والعلنية، والتي تعترف بالجميع، فالحرية بمعناها الفردي، غير المُقيَّد بعصبية من أي نوع، مضافًا إليها مبدأ العلنية، هي بالتحديد ما تُكسب الحوارات صفتها العمومية. ومن ثم هي ما يحدّد الفرق بين الحوارات العمومية (Public) والحوارات العامة (General).
العمومية مجموعة أفعالٍ حرّة، مضادة للعصبيّة وللسريّة. توجد في فضاءٍ غير محدود، يعبر
امتداده عن عَلانيّته؛ فتكون العمومية نقيض الباطنية، ولهذا تكون الباطنية مضادةً للوطنية، بقدر ما هي مضادة للعمومية. ويبدو أن هذا "العمومي" لم يوجد قبل القرن الثامن عشر، حتى في أوروبا، فهو لا يأتي مصادفةً، أو يخلق من العدم، بل تؤهل المجتمعات نفسها لما هو عمومي، بموجب سلوكٍ عقلاني، تقوم به، ما أن تدرك حاجتها إلى هذا العمومي، لكي تتطور وتنتج الرفاه والسعادة لأفرادها جميعًا، فإدراك الحاجة إلى العمومي، مضافًا إليه جميع النشاطات التي من شأنها أن تخلق مجتمعًا مؤهلًا للعمومي، هي مقدّمات "خلق الوطن"، وهي ما يمكن تسميته في سورية اليوم "هندسة سورية الجديدة"، وتشكيلها حرةً كريمةً تحدّد وجودنا الحر والكريم فيها.
يشكل هذا التقديم النظري مدخلًا إلى المسألة الكردية في سورية، بوصفها ملفا سياسيا سوريا وطنيا مهما. تكمن أهميته في قابليته، ليكون أنموذجًا عندما يكون تعبيرًا عن ابتكار صيغة سياسية حوارية ناجحة، من حيث مدرسيّتها وقابليتها للتعميم، لتشكل مفتاحًا للاتفاق الوطني، وللعمومية الوطنية، فتكون قابلةً لتشكيل منوال وطني، يمكن أن ننسج سورية جديدة عليه.
يعني الكلام في الخصوصية الكردية أن مظلوميةً من نوعٍ خاص وقعت على الأكراد من النظام السوري، وصلت، في أحد أشكالها، إلى عدم الاعتراف بوجودهم. وتعني أيضًا خصوصيةً عربيةً مُضادة تقوم على تسييس العروبة الذي لا يختلف عن تسييس الدين أو الطائفة، ولم يُنتج إلا عصبيةً عربيةً تقوم على الوهم، وعصبيات مُضادّة، تحول كلها دون التشارك الحر في الحياة العامة. وكان من أهم مخاطر التسييس والتسييس المضاد أنهما تضمنّا تسطيحًا واختزالًا وتحديدًا لفضاءاتٍ ثقافيةٍ وأخلاقية حيةٍ ومنفتحةٍ على الآخر بطبيعتها. أي بمعنى آخر: كان تسييس العروبة، وما تبعه من استثمارٍ في هذا التسييس لخدمة المشروع الأمني العصبوي الطغموي، كافيًا لإجهاض أي مشروعٍ من شأنه أن يُساهم في تأهيل السوريين للعمومي. بهذا المعنى، كان هذا التسييس ضامنًا للطغيان، والعبودية، ولحياة العصابات واحتكار السياسة. وظل هذا الحكم صالحًا إلى أن كسرت ثورة السوريين هذه القاعدة، وكسرت الحواجز، وقال السوريون كلمتهم: "الشعب السوري واحد". تضمنت هذه الجملة العفوية دفقًا وجدانيًا، وآخرَ عقلانيًا، وتضمنت محاولةً تاريخية لاسترداد رأس المال الاجتماعي السوري المنهوب بشكلٍ ممنهج. وبدأ السوريون يفهمون آليات اشتغاله، والأهم أنهم بَدأوا يدركون أهمية تعطيل الآليات التي حالت دون مراكمته، فما حصل ليس إلا وعيًا جمعيًا جوهره وطني. هو وعيٌ بأهمية مراكمة رأس مال سوري اجتماعي من جديد، يقوم على بناء جسور الثقة فوق حواجز الإثنية أو المذهب أو الطائفة أو أي نوعٍ آخر من حواجز تعمل على تقسيم الكل الواحد إلى أجزاء. وفي هذا التجسير مربط الفرس، وفيه بيتُ القصيد، فهو غير الصَهْرِ والتنميط، بل هو نقيضٌ لكلٍ منهما، وهو يقوم على نفيهما. لا تتشكل الثقة من دون أن نتبنّى الاختلاف بوصفه ثروةً وطنية، لأن الاختلاف هو شكل تعيين الحرية، وما أن يتمكّن من التعبير عن نفسه على هذا النحو، حتى يصبح ثروة اجتماعية وإنسانية وثقافية وإبداعية، من ثم بالضرورة ثروة وطنية، فالاختلاف بين العرب والأكراد يجب أن يتعيّن بموجب بناء رؤيتنا للبدائل الممكنة والمرغوب فيها، استنادًا إلى فهمٍ وطني لمبدأ الاختلاف، يتطابق مع مبدأ الحرية، ومع تساوي الأفراد والجماعات في القيمة الروحية والكرامة الإنسانية والكرامة الوطنية، وهذا هو مدخل التأهيل للعمومي. وفي الوقت نفسه، هذا ما لا يمكن أن يتم من دون التأهيل للعمومي.
في هذه الجدلية بالتحديد، تلعب السياسة العاقلة التي تحدّد إمكانات الواقع، وتستثمر فيه، لتطويره لما فيه خير الجميع، فإحدى أهم وظائف السياسة السورية اليوم، إن لم نقل وظيفتها المرحلية
الوحيدة والأكثر إلحاحًا، هي صناعة فضاء عمومي سوري يشكّل وسطًا لتكوين، رأس مال اجتماعي وطني، ولمراكمة هذا الرأسمال. هكذا نقوم بعملية تدبير مشترك للمصير، يُمهِّدُ لنجاةٍ جماعية من هذه المحرقة. هي نجاةٌ تعاونيةٌ، تقوم على الثقة، لأنها إن لم تكن كذلك فإنها لن تكون. أي بمعنى آخر يصبح مضمون العمومية مضمونًا تواصليًا، وهذه التواصلية هي مضمون الحقائق جميعها على المستوى الوطني، فمن الطبيعي أن تتعدد تأويلاتنا، نحن السوريين، للحقائق الواقعية التي نراها اليوم. ومن الطبيعي أن يكون لكلٍ منا رأي يُكوِّنهُ حول هذه الحقائق، وفهمه الخاص الذي ليس بالضرورة أن يتطابق مع فهم سوريٍ آخر وتأويلاته، فإما الافتراض بأن فهمنا وتأويلنا هو الحقيقة المطلقة التي يجب أن ينخرط فيها الآخرون، وإلا كانوا من الضالين؛ أو أن نضع تأويلنا وفهمنا على طاولة حوارٍ وطني، باعتباره مساهمةً للوصول المشترك إلى الحقيقة، وليس الحقيقة نفسها، فالحقيقة ذات مضمونٍ تواصلي بالضرورة. الافتراض الأول هو ما يصح تسميتها "بَعثنة" حياتنا من جديد، وبعثنة كرديتنا وعروبتنا، أي التعامل معها في العمق، وفق منهجية البعث نفسها، فيما يعني تفعيل المضمون التواصلي للحقيقة إعادة موضعة الأفق الوطني، في حقلٍ منهجيٍّ يقوم على مركزية الإنسان السوري.
هكذا يمكن أن نقول بملء الفم: لن تكتمل عروبة العربي ما لم تكتمل كردية الكردي، والعكس؛ ولن تكتمل العروبة ولا الكردية، ولا أي انتماء جزئي آخر، من دون أن تكتمل سوريتنا، فسوريتنا هي شرط عروبتنا وشرط كرديتنا. وهكذا يمكن أن نتوجه بالخطاب إلى الأحزاب التي تسمّي نفسها "قومية"، وإلى المتعصبين من الطرفين، لنقول إنها إن كانت مع الإنسان الكردي أو العربي، فهندسة سوريتهما بفنٍ وجمال وحرفية هي الضامن الوحيد لكردية الكردي، ولعروبة العربي. وإن كانت مع "القومية" فهي لا تقوم إلا بمعاداة الإنسان السوري، وبعثنة حياته من جديد. وهي تقوم بإنتاج وهمٍ جديد، وتُهيئ لهزيمةٍ جديدة تسجلها الأيديولوجيا والوهم على الفرد الإنسان المجرّد، ذلك لأن الأيديولوجيات تقطع أي أفق لتعيين الفرد بوصفه مواطنًا في وطنٍ يحترمه، وينتصر لكرامته وسعادته، ويضمن خياراته الثقافية والإثنية والدينية والمذهبية بوصفها حقوقا، وبوصفها ثروةً وطنيةً نراكمها باستمرار.
العمومية مجموعة أفعالٍ حرّة، مضادة للعصبيّة وللسريّة. توجد في فضاءٍ غير محدود، يعبر
يشكل هذا التقديم النظري مدخلًا إلى المسألة الكردية في سورية، بوصفها ملفا سياسيا سوريا وطنيا مهما. تكمن أهميته في قابليته، ليكون أنموذجًا عندما يكون تعبيرًا عن ابتكار صيغة سياسية حوارية ناجحة، من حيث مدرسيّتها وقابليتها للتعميم، لتشكل مفتاحًا للاتفاق الوطني، وللعمومية الوطنية، فتكون قابلةً لتشكيل منوال وطني، يمكن أن ننسج سورية جديدة عليه.
يعني الكلام في الخصوصية الكردية أن مظلوميةً من نوعٍ خاص وقعت على الأكراد من النظام السوري، وصلت، في أحد أشكالها، إلى عدم الاعتراف بوجودهم. وتعني أيضًا خصوصيةً عربيةً مُضادة تقوم على تسييس العروبة الذي لا يختلف عن تسييس الدين أو الطائفة، ولم يُنتج إلا عصبيةً عربيةً تقوم على الوهم، وعصبيات مُضادّة، تحول كلها دون التشارك الحر في الحياة العامة. وكان من أهم مخاطر التسييس والتسييس المضاد أنهما تضمنّا تسطيحًا واختزالًا وتحديدًا لفضاءاتٍ ثقافيةٍ وأخلاقية حيةٍ ومنفتحةٍ على الآخر بطبيعتها. أي بمعنى آخر: كان تسييس العروبة، وما تبعه من استثمارٍ في هذا التسييس لخدمة المشروع الأمني العصبوي الطغموي، كافيًا لإجهاض أي مشروعٍ من شأنه أن يُساهم في تأهيل السوريين للعمومي. بهذا المعنى، كان هذا التسييس ضامنًا للطغيان، والعبودية، ولحياة العصابات واحتكار السياسة. وظل هذا الحكم صالحًا إلى أن كسرت ثورة السوريين هذه القاعدة، وكسرت الحواجز، وقال السوريون كلمتهم: "الشعب السوري واحد". تضمنت هذه الجملة العفوية دفقًا وجدانيًا، وآخرَ عقلانيًا، وتضمنت محاولةً تاريخية لاسترداد رأس المال الاجتماعي السوري المنهوب بشكلٍ ممنهج. وبدأ السوريون يفهمون آليات اشتغاله، والأهم أنهم بَدأوا يدركون أهمية تعطيل الآليات التي حالت دون مراكمته، فما حصل ليس إلا وعيًا جمعيًا جوهره وطني. هو وعيٌ بأهمية مراكمة رأس مال سوري اجتماعي من جديد، يقوم على بناء جسور الثقة فوق حواجز الإثنية أو المذهب أو الطائفة أو أي نوعٍ آخر من حواجز تعمل على تقسيم الكل الواحد إلى أجزاء. وفي هذا التجسير مربط الفرس، وفيه بيتُ القصيد، فهو غير الصَهْرِ والتنميط، بل هو نقيضٌ لكلٍ منهما، وهو يقوم على نفيهما. لا تتشكل الثقة من دون أن نتبنّى الاختلاف بوصفه ثروةً وطنية، لأن الاختلاف هو شكل تعيين الحرية، وما أن يتمكّن من التعبير عن نفسه على هذا النحو، حتى يصبح ثروة اجتماعية وإنسانية وثقافية وإبداعية، من ثم بالضرورة ثروة وطنية، فالاختلاف بين العرب والأكراد يجب أن يتعيّن بموجب بناء رؤيتنا للبدائل الممكنة والمرغوب فيها، استنادًا إلى فهمٍ وطني لمبدأ الاختلاف، يتطابق مع مبدأ الحرية، ومع تساوي الأفراد والجماعات في القيمة الروحية والكرامة الإنسانية والكرامة الوطنية، وهذا هو مدخل التأهيل للعمومي. وفي الوقت نفسه، هذا ما لا يمكن أن يتم من دون التأهيل للعمومي.
في هذه الجدلية بالتحديد، تلعب السياسة العاقلة التي تحدّد إمكانات الواقع، وتستثمر فيه، لتطويره لما فيه خير الجميع، فإحدى أهم وظائف السياسة السورية اليوم، إن لم نقل وظيفتها المرحلية
هكذا يمكن أن نقول بملء الفم: لن تكتمل عروبة العربي ما لم تكتمل كردية الكردي، والعكس؛ ولن تكتمل العروبة ولا الكردية، ولا أي انتماء جزئي آخر، من دون أن تكتمل سوريتنا، فسوريتنا هي شرط عروبتنا وشرط كرديتنا. وهكذا يمكن أن نتوجه بالخطاب إلى الأحزاب التي تسمّي نفسها "قومية"، وإلى المتعصبين من الطرفين، لنقول إنها إن كانت مع الإنسان الكردي أو العربي، فهندسة سوريتهما بفنٍ وجمال وحرفية هي الضامن الوحيد لكردية الكردي، ولعروبة العربي. وإن كانت مع "القومية" فهي لا تقوم إلا بمعاداة الإنسان السوري، وبعثنة حياته من جديد. وهي تقوم بإنتاج وهمٍ جديد، وتُهيئ لهزيمةٍ جديدة تسجلها الأيديولوجيا والوهم على الفرد الإنسان المجرّد، ذلك لأن الأيديولوجيات تقطع أي أفق لتعيين الفرد بوصفه مواطنًا في وطنٍ يحترمه، وينتصر لكرامته وسعادته، ويضمن خياراته الثقافية والإثنية والدينية والمذهبية بوصفها حقوقا، وبوصفها ثروةً وطنيةً نراكمها باستمرار.