04 نوفمبر 2024
إجراءات الضّم الإسرائيلية المعلنة بعد الوعود الانتخابية
وضعت التطورات السياسية والقانونية المتلاحقة حدّا لأطول فترة جمود سياسي تشهدها دولة الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن قضت المحكمة العليا هناك أنه، وعلى الرغم من التهم الموجهة له بالفساد، ليس هناك من سبب قانوني يمنع تشكيل حكومة يقودها بنيامين نتنياهو، ورفضِها التماسات قُدّمت ضد اتفاق التناوب بينه وبين منافسه السابق بني غانتس، الذي حظي بمصادقة الكنيست، وتفويض الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، لنتنياهو بتشكيل الحكومة، ليؤدّي يمين القسم لولاية خامسة.
بعد تجاوز الموجة الأولى من انتشار عدوى فيروس كورونا، لم تعد السياسات الصحية من أولويات الحكومة الإسرائيلية، وسمحت اتفاقية الائتلاف الحكومي الموقّعة بين نتنياهو وغانتس لرئيس الوزراء بعرض الاتفاق الذي سيتم التوصل إليه مع الولايات المتحدة، بشأن فرض سيادة إسرائيل على أجزاء رئيسية من أراضي الضفة الغربية، إلى مجلس الوزراء والكنيست لإقراره اعتبارا من يوليو/ تموز المقبل، لينتعش الجدل مجدّدا بشأن إجراءات الضم التي أعلنها نتنياهو، ومدى تحقيقها مصالح دولة الاحتلال "القومية" والأمنية والديبلوماسية، وحول التحدّيات الداخلية والخارجية التي قد تواجهها تلك الإجراءات، في ظل تحذيراتٍ من آثارها المدمرة على عملية السلام والاستقرار في المنطقة، فهل يمضي نتنياهو في إجراءات الضّم، أم يدرك أن خسائرها بالنسبة لإسرائيل لا تعادل مكاسبه من بقائها وعودا انتخابية، خصوصا بعد تحذيرات من خصومه وأصدقائه بأن تلك الإجراءات تضر إسرائيل؟
طوال سنوات من حكمه، لم يطرح نتنياهو إجراءات الضّم، ولم يقم بأي خطوات فعلية تمهد له.
تعاملت إدارتا الرئيسين، بيل كلينتون وباراك أوباما، مع نتنياهو بودٍّ أقل، ومع إسرائيل بوصفها حليفا استراتيجيا انطلاقا من تحقيق المصالح الأميركية. تغيّرت المعادلة تدريجيًا بعد انتخاب ترامب رئيسًا محاطا بفريق يدعم الاستيطان، ومستندا إلى دعم قاعدته المسيحية الإنجيلية المؤيدة بشدّة لإسرائيل، فقدّم هدايا دبلوماسية لم تكن قائمة أمنيات نتنياهو تتوقعها من الإدارات السابقة: الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان؛ نقل السفارة الأميركية إلى القدس؛ الاعتراف باليهودية بوصفها قومية لا دينا فقط؛ الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني.
منذ اللحظة التي اتضح معها فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، سارع نتنياهو، وأصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية، إلى مطالبة ترامب بالموافقة على إجراءات الضم، إلا أن ترامب عارض، في حينه، بناء المستوطنات وضمّها، ولم تكن لنتنياهو مصلحة للضغط على ترامب، وتم تعليق تلك المطالبة أكثر من عامين، لتظهر مجدّدا في خطابه في إبريل/ نيسان 2019، قبل أيام من الجولة الانتخابية الأولى (واحدة من ثلاث جولات خلال عام) مُوَظِّفاً وعد الضم لجلب قاعدته اليمينية إلى صندوق الاقتراع. تصاعدت وعود نتنياهو بالضم مع كل جولة انتخابية، بدءا بعدد من المستوطنات في انتخابات إبريل، مرورا بوادي الأردن بأكمله عشية انتخابات سبتمبر/ أيلول الماضي، ليجمع وادي الأردن إلى كل المستوطنات المحدّدة في "صفقة القرن" خلال حملته الانتخابية الخاصة بالجولة الثالثة.
اليوم لا يحتاج نتنياهو وعود الضم لحشد ناخبيه والفوز في الانتخابات، بعد أن ضمن له اتفاقه مع غانتس بقاءه في السلطة سنوات مقبلة، وقد يجد أن من الأفضل التخفف من عبء تلك الإجراءات والتفرغ للدفاع عن نفسه أمام المحكمة في 24 مايو/ أيار الحالي، والتي قد تستغرق وقتا لن يكون قصيرا. وفي مقابل الرغبة الملحّة لدى اليمينيين المتشددين الآخرين، الذين يطالبون نتنياهو باستغلال الوقت قبل نفاد الفرص بحلول نوفمبر/ تشرين الثاني، موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، قد يتمسّك نتنياهو بنظرة بعيدة المدى، تدرك أن من يطالبونه بالضّم إذا وافقوا عليه وفق الصيغة الواردة في "صفقة القرن" (ضم 30% من أراضي الضفة الغربية) فلن يقبلوا بدولة فلسطينية، حتى لو قيّدتها تلك الصفقة بشروط أمنية وأبعاد إقليمية محدّدة. وللسبب نفسه، قد يعارض المشرّعون اليمينيون المتطرّفون الضّم، بما في ذلك أعضاء الائتلاف الحكومي. ولا يبدو نتنياهو مستعدّا للمغامرة بِوِدّ ترامب عبر إجراءات من جانب واحد. حتى السفير الأميركي لدى إسرائيل، ديفيد فريدمان، في تصريحه المثير للجدل الذي أغضب الفلسطينيين، قبل أيام، بيّن أنه "عند الانتهاء من رسم الخرائط، وعندما توافق الحكومة الإسرائيلية على تجميد البناء في الأجزاء نفسها من المنطقة "ج"، غير المخصصة لتطبيق السيادة، وعندما يوافق رئيس الوزراء على التفاوض مع الفلسطينيين على أساس خطة ترامب، وقد وافق بالفعل على ذلك في البداية، سنعترف بسيادة إسرائيل في المناطق التي ستكون حسب الخطة جزءا منها". في كل حال، لو
مضى نتنياهو في الضّم، فلا ضمانات لاعتراف المرشح الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية، جون بايدن، في حال أصبح خلفا لترامب في البيت الأبيض، بتلك الإجراءات، فقد أعرب عن نيته الضغط على إسرائيل لمنعها من اتخاذ إجراءات تجعل حلّ الدولتين مستحيلا. وهكذا، لن يجد نتنياهو من يعترف بالسيادة الإسرائيلية على الأراضي التي شملها الضّم سوى عدد قليلا من الدول غير الفاعلة على الساحة الدولية، بعد أن دانت الدول الأوروبية إجراءات الضّم المعلنة، ولمّحت إلى اتخاذ خطوات انتقامية في بيان مشترك لسفراء 11 دولة أوروبية. وحتى في حال تعذّر إجماع أوروبي في مواجهة الضّم الفعلي، فقد تقود دول، مثل فرنسا، تحالفا من بعض الدول الأوروبية أو تعمل منفردة ضدّ أي خطوة من هذا النوع، وقد نقلت صحيفة هآرتس عن السفير الفرنسي لدى الأمم المتحدة، نيكولاس دي لاريفيير، قوله "إن الضم لن يمرّ من دون اعتراض، ولن يتم التغاضي عنه في علاقتنا مع إسرائيل"، وقد يعني هذا اعترافا بدولة فلسطينية.
تبدو الأمور أكثر تعقيدا فيما يتعلق بالعقبات الداخلية، إذ يخشى إسرائيليون أن يؤدي الضم إلى تأهيل مزيد من الفلسطينيين ليصبحوا مواطنين في إسرائيل، وينظر القوميون في إسرائيل بوصفها "دولة يهودية" إلى المواطنين العرب على أنهم عدوهم النهائي بعد الفراغ من التهديدات التي تشكلها إيران وغزة. وهناك خشية من أن يحوّل الضم تطلعات الفلسطينية من إقامة دولة مستقلة في أجزاء من الأرض المحتلة إلى النضال من أجل دولة ثنائية القومية تتعارض مع إسرائيل "وطنا للشعب اليهودي".
عبر سنوات حُكمه الطويلة، استطاع نتنياهو أن يستثمر المتغيرات الدولية والإقليمية لتهميش القضية الفلسطينية، والالتفاف عليها عربيا، بقلب المعادلة التي كانت قائمة، ومفادها أن السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين هو السبيل إلى مصالحة أوسع بين إسرائيل والعالم العربي، لتصبح أن التعاون الإقليمي مع دول عربية لتحقيق المصالح المشتركة، ومواجهة الخطر الإيراني، هو السبيل إلى الدفع باتجاه السلام الفلسطيني الإسرائيلي. الدول العربية، علنا على الأقل، رفضت الإجراءات المحتملة للضم، بكل حال، لن يكون نتنياهو مستعدا لإعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة مجدّدا عبر خطوات ضم فعلية بعد تهميشها.
قد لا يتوقف سريعا الجدل السياسي حول الضّم، لكنه قد يبقى مجرّد حديث لا أكثر، بعد أن استهلكه نتنياهو في وعوده الانتخابية. لا يمكن الجزم بذلك، وعلينا الانتظار أسابيع أو ربما لأشهر مقبلة، وهذا بالطبع لا يعفينا، عربا وفلسطينيين، من أن نستعد لمواجهة الأسوأ.
طوال سنوات من حكمه، لم يطرح نتنياهو إجراءات الضّم، ولم يقم بأي خطوات فعلية تمهد له.
منذ اللحظة التي اتضح معها فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، سارع نتنياهو، وأصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية، إلى مطالبة ترامب بالموافقة على إجراءات الضم، إلا أن ترامب عارض، في حينه، بناء المستوطنات وضمّها، ولم تكن لنتنياهو مصلحة للضغط على ترامب، وتم تعليق تلك المطالبة أكثر من عامين، لتظهر مجدّدا في خطابه في إبريل/ نيسان 2019، قبل أيام من الجولة الانتخابية الأولى (واحدة من ثلاث جولات خلال عام) مُوَظِّفاً وعد الضم لجلب قاعدته اليمينية إلى صندوق الاقتراع. تصاعدت وعود نتنياهو بالضم مع كل جولة انتخابية، بدءا بعدد من المستوطنات في انتخابات إبريل، مرورا بوادي الأردن بأكمله عشية انتخابات سبتمبر/ أيلول الماضي، ليجمع وادي الأردن إلى كل المستوطنات المحدّدة في "صفقة القرن" خلال حملته الانتخابية الخاصة بالجولة الثالثة.
اليوم لا يحتاج نتنياهو وعود الضم لحشد ناخبيه والفوز في الانتخابات، بعد أن ضمن له اتفاقه مع غانتس بقاءه في السلطة سنوات مقبلة، وقد يجد أن من الأفضل التخفف من عبء تلك الإجراءات والتفرغ للدفاع عن نفسه أمام المحكمة في 24 مايو/ أيار الحالي، والتي قد تستغرق وقتا لن يكون قصيرا. وفي مقابل الرغبة الملحّة لدى اليمينيين المتشددين الآخرين، الذين يطالبون نتنياهو باستغلال الوقت قبل نفاد الفرص بحلول نوفمبر/ تشرين الثاني، موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، قد يتمسّك نتنياهو بنظرة بعيدة المدى، تدرك أن من يطالبونه بالضّم إذا وافقوا عليه وفق الصيغة الواردة في "صفقة القرن" (ضم 30% من أراضي الضفة الغربية) فلن يقبلوا بدولة فلسطينية، حتى لو قيّدتها تلك الصفقة بشروط أمنية وأبعاد إقليمية محدّدة. وللسبب نفسه، قد يعارض المشرّعون اليمينيون المتطرّفون الضّم، بما في ذلك أعضاء الائتلاف الحكومي. ولا يبدو نتنياهو مستعدّا للمغامرة بِوِدّ ترامب عبر إجراءات من جانب واحد. حتى السفير الأميركي لدى إسرائيل، ديفيد فريدمان، في تصريحه المثير للجدل الذي أغضب الفلسطينيين، قبل أيام، بيّن أنه "عند الانتهاء من رسم الخرائط، وعندما توافق الحكومة الإسرائيلية على تجميد البناء في الأجزاء نفسها من المنطقة "ج"، غير المخصصة لتطبيق السيادة، وعندما يوافق رئيس الوزراء على التفاوض مع الفلسطينيين على أساس خطة ترامب، وقد وافق بالفعل على ذلك في البداية، سنعترف بسيادة إسرائيل في المناطق التي ستكون حسب الخطة جزءا منها". في كل حال، لو
تبدو الأمور أكثر تعقيدا فيما يتعلق بالعقبات الداخلية، إذ يخشى إسرائيليون أن يؤدي الضم إلى تأهيل مزيد من الفلسطينيين ليصبحوا مواطنين في إسرائيل، وينظر القوميون في إسرائيل بوصفها "دولة يهودية" إلى المواطنين العرب على أنهم عدوهم النهائي بعد الفراغ من التهديدات التي تشكلها إيران وغزة. وهناك خشية من أن يحوّل الضم تطلعات الفلسطينية من إقامة دولة مستقلة في أجزاء من الأرض المحتلة إلى النضال من أجل دولة ثنائية القومية تتعارض مع إسرائيل "وطنا للشعب اليهودي".
عبر سنوات حُكمه الطويلة، استطاع نتنياهو أن يستثمر المتغيرات الدولية والإقليمية لتهميش القضية الفلسطينية، والالتفاف عليها عربيا، بقلب المعادلة التي كانت قائمة، ومفادها أن السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين هو السبيل إلى مصالحة أوسع بين إسرائيل والعالم العربي، لتصبح أن التعاون الإقليمي مع دول عربية لتحقيق المصالح المشتركة، ومواجهة الخطر الإيراني، هو السبيل إلى الدفع باتجاه السلام الفلسطيني الإسرائيلي. الدول العربية، علنا على الأقل، رفضت الإجراءات المحتملة للضم، بكل حال، لن يكون نتنياهو مستعدا لإعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة مجدّدا عبر خطوات ضم فعلية بعد تهميشها.
قد لا يتوقف سريعا الجدل السياسي حول الضّم، لكنه قد يبقى مجرّد حديث لا أكثر، بعد أن استهلكه نتنياهو في وعوده الانتخابية. لا يمكن الجزم بذلك، وعلينا الانتظار أسابيع أو ربما لأشهر مقبلة، وهذا بالطبع لا يعفينا، عربا وفلسطينيين، من أن نستعد لمواجهة الأسوأ.