21 يوليو 2024
التونسيون وهواجس ما بعد كورونا
يعيش التونسيون، نخبا وجمهورا عريضا، على غرار جل شعوب العالم أحداثا طارئة ومتسارعة، تسبب فيها انتشار أزمة فيروس كورونا. ويذهب خبراء استراتيجيون وعلماء اجتماع إلى أن التونسيين يمكن أن ينسى معظمهم أو كلهم، في المستقبل البعيد، تفاصيل هذه الأزمة ووقائعها، ولكنهم سيواجهون بعدها مباشرة تقلبات وأزمات عديدة، ما سيُحدث تغييرا لواقعهم سيشمل قيما ومعايير ومبادئ ونظما وبنى أساسية ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية عاشوا في كنفها، ولكنهم فوجئوا بقصورها أو عجزها إزاء صدمة انتشار الفيروس وتداعياتها القاسية على معيشهم ومتخيّلهم.
لقد سيطر هاجس الخوف عليهم من ألا تعود الحياة إلى إيقاعها المعتاد كما كانت قبل كورونا التي فجرت أزمة اجتماعية حادّة، إذ كشفت وجها بشعا لمجتمع الفوارق الذي غابت فيه العدالة الاجتماعية، واتسعت رقعة الفقر، وعلا صوت المحتكرين والسماسرة، مع ارتفاع نسب البطالة جرّاء إفلاس مؤسسات صغرى وتسريح مؤسسات كبرى أعدادا وفيرة من أعوانها في ظل الخوف من انتكاسة الحالة الوبائية وحدوث الأسوأ. علاوة على الضغط النفسي للدعوات التي تعاقبت، خلال الأيام الماضية، على المواقع الاجتماعية الإلكترونية، والداعية إلى ثورة جياع وإلغاء نتائج الانتخابات وحل الحكومة والبرلمان وتعطيل العمل بالدستور وتشكيل مجلس وطني للإنقاذ، إذ غابت الأحزاب التي انتخبوها، ولم تؤازرهم في هذه المحنة، ما رسخ انطباعا شعبيا عاما بأن لمعظم التشكيلات السياسية نزعة انتهازية، إذ سرعان ما تنكرت هذه لوعودها الانتخابية.
لقد وقف التونسيون على أزمة الدولة التي تدير شؤونهم، والتي عمّقتها جائحة كورونا، حيث الإرباك، والاختلافات بدت واضحة بين مفهوم الديموقراطية التي يتوقون إليها، وهو المرتكز على فكرة المشاركة الجماعية في القرارات المصيرية، ونمط الدولة الليبيرالية وبنيتها الاجتماعية التي عرّت الأزمة هشاشتها وتناقضاتها، بين دولة تلوح بحماية الحريات الفردية والحقوق الخاصة، وما وفره فيروس كورونا لهذه الدولة من فرص التعسف وفرض قوانين الطوارئ والحجْر قهرا وجبرا بواسطة أجهزة أمنية وعسكرية، في ظل أزمة اقتصادية متفاقمة وعجز حكومي في توفير ما يلزم من المستلزمات الطبية وغيرها لمواجهة الأزمة طبيا واجتماعيا. وما يتطلب ذلك من إجراءات وقرارات سريعة وحاسمة وحيوية، مع حسن الاستباق وحسن إدارة تداعيات الأزمة وتأثيراتها على حياة الناس والفئات الهشّة والفقيرة.
في ظل هذا الإرباك، وما بدا من تناقض ظاهر بين قطاعات الحكومة التي رفعت لواء محاربة
كورونا تحت يافطة دور ريادي لوزارة الصحة في مقاومة الفيروس، قابلت ذلك تناقضات على مستوى الممارسة مع وزارتي الشؤون الاجتماعية والتجارة. تناقضات ظهرت لعامة الناس، وهدّدت بإحباط مجهودات الحكومة واستراتيجياتها في مواجهة الأزمة، وهي استراتيجيات حققت نجاحا نسبيا في التصدّي للآفة، قياسا بدول ذات اقتصاديات منيعة وإمكانات جبارة (فرنسا، ألمانيا، إسبانيا)، ولكنها لم تمنع من قيام جدل عام عبر وسائل التواصل الاجتماعي وداخل قبة البرلمان بشأن المنوال التنموي ما بعد الأزمة وماهية الدولة الاجتماعية التي أحيتها أزمة كورونا وشروط وسيناريوهات التمكّن من اقتصاد وطني يحقق الرفاه للتونسييين، ويبعد عنهم آفة الفقر الذي زادت حدته ليقترب من 20 % من الشعب التونسي.
على مستوى المفهوم، يطمح التونسيون، تبعا لما فجّره هذا الجدل القائم، إلى إرساء دولة اجتماعية قادرة على ضمان تغطية اجتماعية لمواطنيها، من دون أن تكون ماسكة بالضرورة بكل القطاعات الحيوية مع إمكانات تشريك القطاع الخاص، إذ يرى الخبير الاقتصادي، ياسين بن إسماعيل، "أن نموذج الدولة الماسكة بكل القطاعات، وهي المنتج الأكبر والمصنع الأكبر قد أصبح من الماضي، ذلك أن القطاع الخاص يمكن أن يكون قاطرة نمو للقطاع العام". فتونس التي بدأت تعاني من شلل معلن في الحركة الاقتصادية والمالية، وتوقف عملية الإنتاج في معظم القطاعات الحيوية، بما يؤشر إلى مرحلة ركود اقتصادي عام مقبلة، عليها الانقلاب على نموذج دولة الرفاه الليبرالية لإرساء دولة اجتماعية، ومناقشة تطبيقاتها محليا، وبعث منوال جديد للتنمية عنوانه "اقتصاد السوق الاجتماعي والتضامني"، مع الأخذ في الاعتبار الثوابت الوطنية والخصوصيات الثقافية والدينية والمجتمعية.
تونس صاحبة الناتج الخام الذي لا يتعدى 40 مليار دولار سوف تكون أولويات برامج حكوماتها المتعاقبة هي قطاعات الصحة والاتصالات والرقمنة والحد من الفوارق الاجتماعية، وهي المجالات التي كشفت أزمة كورونا أحقية الاهتمام بها. في سياقات هذا الجدل القائم حاليا، أطلت مخاوف من أن تكون تونس مقبلة ما بعد الأزمة على تسونامي الطوفان الاقتصادي والاجتماعي، إذ سيشهد العالم بأسره حالة انحسار اقتصادي لا مثيل لها منذ آخر أهم أزمة عصفت به سنة 2008. وقد قدر صندوق النقد الدولي هذا الانكماش بـ 6 % من الناتج المحلي العالمي، فبعد أن كانت التقديرات سنة 2020 تتوقع نموا عالميا إيجابيا بـ 3،3 % أصبح الحديث عن نمو سالب بـ 3%. وحسب معطيات الصندوق نفسه، ستشهد تونس الانكماش نفسه، اذ توقعت ميزانية 2020 تحقيق نسبة نمو إيجابية بـ 2،7%، ولكن تقديرات صندوق النقد الدولي تتحدّث عن سلبي بـ 4،3 % أي أن هناك تراجعا بسبع نقاط كاملة، مقارنة بالتوقعات الأولية.
وتتوقع تقارير جادة، في ظل هذا الانكماش الاقتصادي الذي لم تشهده تونس من قبل، اندثار مئات وربما آلاف من المؤسسات، بما يعني فقدان مواطن الشغل بعشرات الآلاف. وتذهب هذه التوقعات إلى أن الحفاظ على موطن شغل واحد لا يعني قدرة المؤسسة التي تشغله على المحافظة على حياتها أكثر من شهر أو شهرين. مثال ذلك القطاع السياحي الذي أعلنت الحكومة أن موسمه الحالي قد انتهى يوفر حوالي مائة ألف موطن شغل مباشر، علاوة على حوالي ثلاثمائة ألف موطن شغل غير مباشر.. ولو عمّم ما قيل على السياحة على باقي القطاعات التي ستتضرّر كثيرا أو قليلا لوجدت تونس نفسها أمام تحدّياتٍ، لا قبل لأي حكومة بمجابهتها.
انخراط الدولة التونسية، منذ ثمانينيات القرن الماضي، في إطار برامج "الإصلاحات الهيكلية"
لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إلى جانب ما تسمى سياسات الانفتاح وتحرير التجارة الخارجية التي أرستها العولمة المالية والاقتصادية منذ سبعينيات القرن الماضي، جعل عملها من دون قرار وطني مستقل، الأمر الذي قد يفضي إلى ضعف الدولة الاجتماعية المنشودة التي يدار حولها هذا الجدل الواسع. وكان برلمان العام 2014 قد صادق على ترسانة من القوانين، تندرج ضمن تكريس عدم تدخل الدولة في المجال الاقتصادي، ومنها قانون الاستثمار والقانون الأفقي للاستثمار وتحسين مناخ الأعمال وقانون الشراكة بين القطاعين الخاص والعام، ما سهل الاستحواذ على قطاعات استراتيجية، بعيدا عن مقتضيات الدولة الاجتماعية. وقد التزمت تونس بهذه القوانين للحصول على قرض تسهيل صندوق النقد الممدد بقيمة 2.9 مليار دولار في إطار برنامج الشراكة بين مجموعة البنك الدولي وبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وتتناغم هذه القوانين التي كبّلت القرار الوطني التونسي مع متطلبات مشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل، الموقع مع الاتحاد الأوروبي، والرامي إلى تحرير قطاعي الفلاحة والخدمات وتطبيق أحكام اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة للمنظمة العالمية للتجارة، هذه التبعية لهذه المؤسسات المالية الساهرة على تكريس النظام الليبرالي، وعلى النظام العالمي الذي يسهر على الحد من سيادة الدول وقوانينها الوطنية، يجعل التفكير في الدولة الاجتماعية من المسائل المستحيلة على الأقل في المدى القريب.
وتأسيسا على ما سبق، يظل لهواجس التونسيين ما بعد الأزمة مبرّراتها، ويبقى حلمهم بقيام دولة اجتماعية تحقق لهم عدالة اجتماعية تلغي الفوارق بينهم، وتحقق لهم عيشا كريما، حلما قد يأتي زمانه، ولكن ليس الآن.
لقد وقف التونسيون على أزمة الدولة التي تدير شؤونهم، والتي عمّقتها جائحة كورونا، حيث الإرباك، والاختلافات بدت واضحة بين مفهوم الديموقراطية التي يتوقون إليها، وهو المرتكز على فكرة المشاركة الجماعية في القرارات المصيرية، ونمط الدولة الليبيرالية وبنيتها الاجتماعية التي عرّت الأزمة هشاشتها وتناقضاتها، بين دولة تلوح بحماية الحريات الفردية والحقوق الخاصة، وما وفره فيروس كورونا لهذه الدولة من فرص التعسف وفرض قوانين الطوارئ والحجْر قهرا وجبرا بواسطة أجهزة أمنية وعسكرية، في ظل أزمة اقتصادية متفاقمة وعجز حكومي في توفير ما يلزم من المستلزمات الطبية وغيرها لمواجهة الأزمة طبيا واجتماعيا. وما يتطلب ذلك من إجراءات وقرارات سريعة وحاسمة وحيوية، مع حسن الاستباق وحسن إدارة تداعيات الأزمة وتأثيراتها على حياة الناس والفئات الهشّة والفقيرة.
في ظل هذا الإرباك، وما بدا من تناقض ظاهر بين قطاعات الحكومة التي رفعت لواء محاربة
على مستوى المفهوم، يطمح التونسيون، تبعا لما فجّره هذا الجدل القائم، إلى إرساء دولة اجتماعية قادرة على ضمان تغطية اجتماعية لمواطنيها، من دون أن تكون ماسكة بالضرورة بكل القطاعات الحيوية مع إمكانات تشريك القطاع الخاص، إذ يرى الخبير الاقتصادي، ياسين بن إسماعيل، "أن نموذج الدولة الماسكة بكل القطاعات، وهي المنتج الأكبر والمصنع الأكبر قد أصبح من الماضي، ذلك أن القطاع الخاص يمكن أن يكون قاطرة نمو للقطاع العام". فتونس التي بدأت تعاني من شلل معلن في الحركة الاقتصادية والمالية، وتوقف عملية الإنتاج في معظم القطاعات الحيوية، بما يؤشر إلى مرحلة ركود اقتصادي عام مقبلة، عليها الانقلاب على نموذج دولة الرفاه الليبرالية لإرساء دولة اجتماعية، ومناقشة تطبيقاتها محليا، وبعث منوال جديد للتنمية عنوانه "اقتصاد السوق الاجتماعي والتضامني"، مع الأخذ في الاعتبار الثوابت الوطنية والخصوصيات الثقافية والدينية والمجتمعية.
تونس صاحبة الناتج الخام الذي لا يتعدى 40 مليار دولار سوف تكون أولويات برامج حكوماتها المتعاقبة هي قطاعات الصحة والاتصالات والرقمنة والحد من الفوارق الاجتماعية، وهي المجالات التي كشفت أزمة كورونا أحقية الاهتمام بها. في سياقات هذا الجدل القائم حاليا، أطلت مخاوف من أن تكون تونس مقبلة ما بعد الأزمة على تسونامي الطوفان الاقتصادي والاجتماعي، إذ سيشهد العالم بأسره حالة انحسار اقتصادي لا مثيل لها منذ آخر أهم أزمة عصفت به سنة 2008. وقد قدر صندوق النقد الدولي هذا الانكماش بـ 6 % من الناتج المحلي العالمي، فبعد أن كانت التقديرات سنة 2020 تتوقع نموا عالميا إيجابيا بـ 3،3 % أصبح الحديث عن نمو سالب بـ 3%. وحسب معطيات الصندوق نفسه، ستشهد تونس الانكماش نفسه، اذ توقعت ميزانية 2020 تحقيق نسبة نمو إيجابية بـ 2،7%، ولكن تقديرات صندوق النقد الدولي تتحدّث عن سلبي بـ 4،3 % أي أن هناك تراجعا بسبع نقاط كاملة، مقارنة بالتوقعات الأولية.
وتتوقع تقارير جادة، في ظل هذا الانكماش الاقتصادي الذي لم تشهده تونس من قبل، اندثار مئات وربما آلاف من المؤسسات، بما يعني فقدان مواطن الشغل بعشرات الآلاف. وتذهب هذه التوقعات إلى أن الحفاظ على موطن شغل واحد لا يعني قدرة المؤسسة التي تشغله على المحافظة على حياتها أكثر من شهر أو شهرين. مثال ذلك القطاع السياحي الذي أعلنت الحكومة أن موسمه الحالي قد انتهى يوفر حوالي مائة ألف موطن شغل مباشر، علاوة على حوالي ثلاثمائة ألف موطن شغل غير مباشر.. ولو عمّم ما قيل على السياحة على باقي القطاعات التي ستتضرّر كثيرا أو قليلا لوجدت تونس نفسها أمام تحدّياتٍ، لا قبل لأي حكومة بمجابهتها.
انخراط الدولة التونسية، منذ ثمانينيات القرن الماضي، في إطار برامج "الإصلاحات الهيكلية"
وتتناغم هذه القوانين التي كبّلت القرار الوطني التونسي مع متطلبات مشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل، الموقع مع الاتحاد الأوروبي، والرامي إلى تحرير قطاعي الفلاحة والخدمات وتطبيق أحكام اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة للمنظمة العالمية للتجارة، هذه التبعية لهذه المؤسسات المالية الساهرة على تكريس النظام الليبرالي، وعلى النظام العالمي الذي يسهر على الحد من سيادة الدول وقوانينها الوطنية، يجعل التفكير في الدولة الاجتماعية من المسائل المستحيلة على الأقل في المدى القريب.
وتأسيسا على ما سبق، يظل لهواجس التونسيين ما بعد الأزمة مبرّراتها، ويبقى حلمهم بقيام دولة اجتماعية تحقق لهم عدالة اجتماعية تلغي الفوارق بينهم، وتحقق لهم عيشا كريما، حلما قد يأتي زمانه، ولكن ليس الآن.
مقالات أخرى
25 اغسطس 2023
02 اغسطس 2023
14 يوليو 2023