94 مليار دولار في مواجهة الصين وروسيا
على أبواب الخريف الماضي، كان الوضع الأوكراني ميدانياً على شفير الهاوية. في ذلك الحين، أقرّ قائد الجيش الأوكراني السابق فاليري زالوجني بأنّ "القتال وصل إلى طريق مسدود". هذه العبارة تحديداً، التي كتبها زالوجني في مقال له في مجلة الإيكونوميست البريطانية، كانت سبباً إضافياً من أسباب غضب الرئيس فولوديمير زيلينسكي، وهي التي أدّت إلى خروجه من قيادة الجيش في 8 فبراير/ شباط الماضي وتعيين أولكسندر سيرسكي بدلاً منه. غير أنّ الرجل، في الواقع، لم يقل شيئاً خاطئاً، بل أثبتت مجريات المعارك، في الخريف والشتاء الماضيين، أنّ الخطط العسكرية الأوكرانية، بدءاً من فشل الهجوم المضادّ، في الصيف الماضي، تعاني من سوء التطبيق بفعل نقص الأسلحة الغربية.
ومع تتالي سقوط بلدات على الجبهة الشرقية الأوكرانية بيد الجيش الروسي، خصوصاً في الشهرين الماضييْن، كانت الأمور تُوحي بتخلٍّ أميركي أو أقلّه تخفيض الأولوية الأوكرانية لدى النظام الأميركي إلى درجة ثانوية، ما دفع الروس إلى الاعتقاد أنّ المساعدات الأميركية لأوكرانيا، المجمّدة منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لن تبصر النور. غير أنّ ما حصل في مجلس النواب الأميركي مساء أول من أمس السبت بدّل اعتقاداتٍ كثيرة، قبل أسابيع قليلة من وصول طائرات إف 16 الأميركية إلى كييف.
"الأميركيون رجال أعمال"، مصطلح نجده دائماً في أفلام وكتب وأدبيات متناثرة شرقاً وغرباً. ولأنّ رجل الأعمال يخشى خسارة أمواله، فإنّه عادة ما يكون أول الهاربين من ساحات المعارك، سواء العسكرية أو التي يشتمّ منها خسارة مالية. غير أنّ الأميركيين قرّروا دعم أوكرانيا مساء السبت بأكثر من 60 مليار دولار. والأكثر أهميّة أنّ التغطية الأكبر لهذا الدعم جاءت من الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي منح الضوء الأخضر لحليفه رئيس مجلس النواب مايك جونسون في طرح مسألة دعم أوكرانيا للتصويت. تبدّل موقف ترامب يعني أنّ الرجل الواثق من قدرته على حلّ الحرب الروسية في أوكرانيا "خلال 24 ساعة" خضع للنظام الأميركي، القاضي بمواصلة تمويل كييف في مواجهة الروس.
يعني ذلك أنّ الأميركيين يراهنون في مكانٍ لن يخسروا فيه. لا يتعلّق الأمر بمعجزة أميركية أو مثالية واشنطن، بل إن الأطراف المواجهة، من روسيا إلى الصين، ليست قادرة بعد على إنشاء منظومة دولية في وسعها مقارعة الأميركيين في العالم. لا يعني هذا أنّ الأميركيين على حقّ، بل يعود العجز في مجابهتهم إلى قواعد التفكير السلبية المعمول بها، من موسكو إلى بكين، وبينهما طهران وبيونغ يانغ، وغيرهما. وترتبط هذه القواعد بجمود التفكير الروسي والصيني، المتمحور حول التمدّد الإقليمي والعالمي بحجّة وقف التوسع الأميركي، فيما الأفضل لو أنّهما تتصرّفان على قاعدة التمدّد بقصد الاندماج في الوسط العالمي، وجعل قضية محاربة أميركا مسألة هامشية.
وإذا كان الصيني محكوماً بالسوق الأميركية، فإنّ الروسي، الذي سيجد نفسه في الفترة المقبلة مجرّداً من 300 مليار دولار هي قيمة أصوله الموجودة في مصارف الغرب، بات أمام واقع "ردّة الفعل" لا "الفعل". وتحت ظلال هذا الواقع، من الصعب أن يبادر إلى فَعلٍ ما قبل إتمام ردّة فعله. وبما أنّ الأميركيين صعّدوا معه كفاية، فإنّ عنصر المبادرة بدأ بالتفلت من يديّ سيد الكرملين. إذاً الطموح بإنشاء عالم متعدّد الأقطاب سيبقى مؤجّلاً حتى إشعار آخر، والقدرة على هزّ الولايات المتّحدة مرتبطة حصراً بالتظاهرات الشعبية المندّدة بسياسة الرئيس جو بايدن تجاه الفلسطينيين، وحرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي عليهم. يكفي فقط النظر إلى الأرقام: 60 مليار دولار لأوكرانيا، 26 مليار دولار لإسرائيل، ثمانية مليارات لتايوان. أميركا ليست جمعية خيرية بملياراتها الـ94. إنّها تستثمر بعوائد مُربحة، قياساً على الفشل الروسي الصيني في مضاهاتها على مرّ العقود الماضية، ولو عنى ذلك الاستثمار المزيد من الآلام للشعب الفلسطيني، والمزيد من الكفاح للشعب الأوكراني.