شكّلت منطقة المحيطين الهندي والهادئ في السنوات الأربع الماضية أولوية بالنسبة للعديد من الدول، كان في مقدمتها فرنسا، عندما تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2018 عن هذه المنطقة وأهميتها الاستراتيجية بالنسبة لفرنسا؛ لكن الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، ومعهما أستراليا، كانت تعمل خلف الكواليس بصمت لتفاجئ الجميع بالإعلان عن تحالفها الأمني الجديد "أوكوس"، الذي نجم عنه إلغاء أستراليا لصفقة شراء غواصات فرنسية تم توقيعها عام 2016.
ومرد الأهمية التي توليها فرنسا لهذه المنطقة هي أن لديها أراضي، تُعرف باسم ما وراء البحار، في المحيطين، وقواعد عسكرية دائمة، كما أنها سعت مراراً لإقامة علاقات عسكرية ودبلوماسية واقتصادية مع الهند وأستراليا واليابان، الدول الرئيسية الثلاث التي يمكن أن يشكل التحالف معها توازنات في غاية الأهمية لفرنسا في المنظور الاستراتيجي.
الباحث في القضايا العسكرية والدفاع مورغان باغليا، قال لـ"العربي الجديد"، إن فرنسا لم يكن لديها الاستثمار الكافي في المنطقة، موضحاً أن "القوى المنتشرة في كاليدونيا الجديدة (أراضي ما وراء البحار) تم تخفيضها إلى حد كبير، وتأثرت بشدة بتخفيضات الميزانية المسجلة منذ نهاية الحرب الباردة، حتى أن قائد القوات البرية نبّه إلى أنه كان من الضروري وضع معدات عسكرية أكثر أهمية الآن في كاليدونيا الجديدة بعد أن وقعنا شراكة مع أستراليا حتى نجعل التعاون فعالاً، برغم أن فرنسا كانت حاضرة هناك من خلال مناورات وتدريبات مشتركة مع الأستراليين".
وأضاف "هناك مآخذ على نوعية الاستراتيجية الفرنسية للاستثمار في هذه المنطقة مقابل ما تطرحه الولايات المتحدة وبريطانيا، فواشنطن لديها قوات عسكرية تم تعزيزها في سياق التحول نحو آسيا الذي بدأه باراك أوباما أوائل عام 2010، في حين نشاط لندن في المنطقة كان يتزايد بشكل كبير، وأبرمت اتفاقيات عديدة مع دول المنطقة ولاسيما اليابان على سبيل المثال".
وترى الأوساط العسكرية في فرنسا أن إعلان واشنطن عن التحالف الجديد إشارة أخرى سلبية ترسلها الولايات المتحدة إلى حلفائها الأوروبيين، بعد الانسحاب من أفغانستان، كما أن باريس ستكون الآن مجبرة على عد خسائرها الاستراتيجية أكثر من المالية، خصوصاً وأنها كانت تسعى من خلال صفقتها مع أستراليا إلى بناء محور لمواجهة النفوذ الصيني، الأمر الذي كان سيعطي باريس ثقلاً دولياً كبيراً في المنطقة بدلاً من النظرة السائدة لدى المنتقدين للسياسات الأوروبية بأنها دول تابعة للولايات المتحدة وثانوية في المجال الاستراتيجي.
وفي هذا السياق، قال باغليا إن الأوروبيين يسمعون بشكل متكرر "من مراكز الأبحاث والتوصيات السياسية الأميركية بضرورة الاستثمار في منطقتي المحيط الهادئ والهندي (..) لذلك يوجد بالفعل نوع من التناقض عندما تطلب من فرنسا تعزيز تواجدها في المنطقة ومن ثم تستبعدها من خلال تحرك أحادي الجانب" مع أستراليا وبريطانيا.
وتابع أن "التحالف الجديد يخبىء نوايا البريطانيين والأميركيين تجاه فرنسا، ويثير الكثير من الأسئلة التي سنكون مضطرين إلى مراقبة تطور سير الأحداث خلال الفترة المقبلة للإجابة عليها"، لأن فرنسا كان لديها "استثمار قوي للغاية في المنطقة بالإضافة إلى محاولاتها تطوير علاقاتها مع العديد من القوى في المنطقة، وأستراليا كانت رابطاً مركزياً وأساسياً لهذه الاستراتيجية".
وتعتبر فرنسا القوة الأوروبية الوحيدة التي ترى ضرورة إنشاء تحالف أمني ذاتي، بعيداً عن الحلفاء التقليديين وحلف شمال الأطلسي، الذي وصفه ماكرون مرة بأنه "ميت سريرياً"، ومن شأن التحالف الأمني الجديد بين أميركا وبريطانيا وأستراليا أن يعطي حجة إضافية لفرنسا من أجل تحقيق هدفها. لكن هذه المسألة، وفق باغليا، يجب مناقشتها "تقنياً وعملياً".
وأوضح "من أجل أن نكون مستقلين استراتيجياً، يجب أن يكون لدينا عدد معين من القدرات العسكرية التي يفتقر إليها الأوروبيون اليوم، فمن أجل القيام بإجراءات عسكرية معينة، وهي بالضرورة شكل من أشكال المصداقية على المستوى الدولي، فإنه يجب أن تكون هناك موارد لتنفيذ هذا المشروع السياسي الطموح، لكن اليوم الأداة موجودة في أيدي الأميركيين، وهي قدرتهم المتطورة في مجال المراقبة الفضائية، الاتصالات، وكذلك النقل الاستراتيجي".
وتابع "في كل مرة يتحدث فيها الأوروبيون عن استقلالية استراتيجية ومحاولة إنشاء برامج مشتركة، تكون هناك عقبات، لأن بعض الدول في أوروبا لا تتصور دفاعاً بدون حلف شمال الأطلسي، ولا تتصور دفاعاً بدون الولايات المتحدة".
وأضاف "لدى فرنسا رؤية أكثر استقلالية في هذا الموضوع، لكنها غير مدعومة من قبل حلفائها، وخصوصاً الألمان، ومن هنا سيكون حقاً من المثير للاهتمام أن نرى كيف ستتفاعل ألمانيا مع تداعيات ما حصل خلال القمة الأوروبية المقبلة".