راجي الصوراني وحجّاي إلعاد لـ"العربي الجديد": الظلم لا ينتصر... ولا يمكن للاحتلال أن يبقى للأبد
اللقاء الذي جمعهما في لندن قبل أيام قليلة، هو الثاني بعد تواجدهما معاً في عمّان قبل سنوات. راجي الصوراني، مدير "المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان" جاء من غزة المحاصرة، بينما أتى حجّاي إلعاد، المدير العام لمنظمة "بتسيلم" (مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان بالأراضي المحتلة) من القدس المحتلة. زيارتهما إلى العاصمة البريطانية تأتي بعد أشهر قليلة على الغزو الروسي لأوكرانيا و"انتفاضة" الغرب للدفاع عن حق الشعب الأوكراني في تقرير مصيره في وجه "الاحتلال" الروسي. تضمنّت جولتهما في المملكة المتحدة وأيرلندا لقاءات مشتركة جمعتهما بمسؤولين بريطانيين "على الرغم من خلفيتهما الوطنية المختلفة"، بحسب البيان الذي نشرته مؤسسة "كريستيان فور إيد"، المشرفة على تلك الزيارة وعلى النشاطات المرافقة لها.
التقت "العربي الجديد" الناشطين، وكانت بداية الحديث معهما حول الفروقات الهائلة بين رحلة كل منهما إلى لندن. إلعاد يرى أن تلك الفروقات تعكس "همجية ووحشية الاحتلال الإسرائيلي في التعامل مع الفلسطينيين". فبينما كانت رحلته من القدس المحتلة إلى لندن سلسة وسهلة، كانت رحلة الصوراني من غزة إلى لندن مروراً بالأردن معقدة وشاقة.
لا يمكن للرجلين أن يلتقيا في فلسطين. عليهما قطع آلاف الأميال ليتمكنا من اللقاء خارج جدار الفصل العنصري. إلا أنهما وصلا إلى لندن في لحظة لا يبدو أنها الأفضل في تاريخ المملكة في ما يتعلق بالحريات ونبذ العنصرية والتطرّف.
الصوراني: من المستغرب ألا يتم الربط بين ما يحدث في أوكرانيا وما يحدث في فلسطين
ازدواجية معايير الغرب بين أوكرانيا وفلسطين
يقول الصوراني لـ"العربي الجديد"، إن "ما حدث في أوكرانيا خلال الأشهر القليلة الماضية، جذب الكثير من الرأي العام العالمي. إذ وجد الغرب نفسه أمام دولة تحتل دولة أخرى وتعتدي عليها".
ويضيف أنه "من المستغرب ألا يتم الربط بين ما يحدث في أوكرانيا وما يحدث في فلسطين، مما يدعو للسخرية من ازدواجية المعايير التي يتعامل عبرها الغرب عندما يندّد بالاحتلال والعدوان الروسي ويعترف بحق الأوكرانيين في تقرير مصيرهم وحمل السلاح للدفاع عن أرضهم، لا بل ويمدّهم بالسلاح لمواجهة الاحتلال الروسي ويطبّق أقسى العقوبات ضد موسكو، لكنه يصمت أمام معاناة الفلسطينيين".
ويبدو المشهد من بريطانيا أشدّ إيلاماً ربما بالنسبة إلى الصوراني وغيره من العاملين في مجال حقوق الإنسان خصوصاً، إذ إن "احتلال فلسطين مرّ عليه 55 عاماً في الرواية القصيرة، و74 عاماً في الرواية الطويلة، وليس 4 أشهر فقط".
من جهته، يرى إلعاد أن "بريطانيا ليست فقط مطالبة بالتحدث عن قضية الفلسطينيين، بل أيضاً بالقيام بأفعال تضع حداً للانتهاكات وتنهي مسألة الإفلات من العقاب".
ويقول لـ"العربي الجديد": "الشيء الوحيد الذي نحصل عليه من الحكومات الغربية هو الخطابات والكلام والتعبير عن القلق البالغ، وأحياناً مطالبة إسرائيل بالامتناع عن هدم بيوت الفلسطينيين"، مضيفاً أن "كل التصريحات فارغة في ظلّ غياب المحاسبة والمساءلة".
وفي ظلّ سياسة المعايير المزدوجة هذه، يرى إلعاد أن ما قد يُحدث تغييراً حقيقياً هو الرأي العام الغربي إذ إن "الحكومات الغربية لن تتغيّر مواقفها، لكن الرأي العام قد يتغيّر موقفه، وبالتالي قد يطالب المسؤولين المنتخبين بالالتزام بالمبادئ التي ينادون بها، كالعدالة والحرية والتخلي عن ازدواجية المعايير والنفاق".
الصوراني: القضاء الإسرائيلي أعطى الغطاء القانوني للجرائم التي تمارسها قوات الاحتلال
المحكمة الجنائية الدولية ومحاسبة الاحتلال الإسرائيلي
وتأتي هذه الزيارة المشتركة للصوراني وإلعاد، بحسب بيان "كريستيان فور إيد"، "للتأكيد من جديد على أنه لا يمكن للشعب الفلسطيني أن يسلّم بالأمر الواقع وأن يصيبه اليأس". ويضيف البيان أن ما يجمع الناشطين هو "الإيمان بسيادة القانون، وتحدي ثقافة الإفلات من العقاب من خلال إشراك المحكمة الجنائية الدولية" في ذلك.
إلا أن إشراك المحكمة الجنائية لم يأتِ كخيار أول بالنسبة للكثير من الحقوقيين الفلسطينيين. يقول الصوراني إنهم كمحامين وناشطين في مجال حقوق الإنسان كانوا مطالبين بممارسة أمور قانونية معيّنة، كاختبار جهاز القضاء الإسرائيلي واستنفاد كل الوسائل في القضاء "الوطني" قبل التوجّه للمحاكم الدولية.
ويضيف "لا ينفع التوجه للمحكمة الجنائية الدولية قبل أن نستنفد إجراءات المقاضاة أمام القضاء الوطني، قضاء الاحتلال، وقبل أن نثبت أنه لا وجود للعدالة. التاريخ أثبت أن لا عدالة على الإطلاق تحت الاحتلال. والاحتلال الإسرائيلي هو أسوأ الاحتلالات وأكثرها عسكرة وأطولها في العصر الحديث".
ويعتبر الصوراني أن القضاء الإسرائيلي "أعطى الغطاء القانوني للجرائم التي تمارسها قوات الاحتلال بشكل ممنهج ضدّ المدنيين من صحافيين وممرضين وأطفال وكهول وذوي احتياجات خاصة، من دون أي مساءلة أو محاسبة"، مما يجعل المحكمة الجنائية الدولية بحسب الصوراني هي "المكان الوحيد المتاح لتحقيق العدالة والمحاسبة".
ويرى إلعاد أن "المحكمة الجنائية تختصر معاناة الشعب الفلسطيني مع ازدواجية المعايير، فهم ممنوعون من الوصول إليها في السياق الطبيعي الذي تفرضه العدالة الدولية، بينما يرحّب الغرب بالمحكمة في سياق الغزو الروسي على أوكرانيا".
ويوضح إلعاد أنه "في ما يخصّ القضية الفلسطينية، يقولون إن المحكمة الجنائية الدولية فكرة رهيبة، لكن فيما يخصّ أوكرانيا، تصبح المحكمة فكرة رائعة. هذا النفاق صارخ، والعدالة يجب أن تُطبّق على الجميع، وعلينا أن ندعم استقلالية المحاكم وصلاحياتها في النظر في جرائم الحرب؛ سواء كانت في إسرائيل، أو فلسطين أو أوكرانيا أو أي مكان آخر".
مشتركات بين عمل راجي الصوراني وحجاي إلعاد
ليس عملهما في مجال حقوق الإنسان والمطالبة بالعدالة وصولاً إلى المحاسبة، هو القاسم المشترك الوحيد بين الصوراني وإلعاد، يشتركان أيضاً في مواجهتهما محاولات التهميش والتضييق والتغييب، إن كان محلياً أو دولياً.
إلعاد: المحكمة الجنائية تختصر معاناة الشعب الفلسطيني مع ازدواجية المعايير
وفي حين أن الصوراني يمثّل أغلب الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات، لا يمثّل إلعاد سوى الأقلية، إلا أنها أقلية قوية كما يقول. ويشير إلعاد إلى أنهم في منظمة "بتسيلم" يدركون جيداً أن شعبيتهم في المجتمع اليهودي الإسرائيلي متدنية، إلا أن ذلك لا يمنعهم من الاستمرار في الدفاع عن القيم التي يؤمنون بها.
ويقول "مع أننا أقلية، استطعنا اتخاذ مواقف مهمة للغاية وكان صوتنا مسموعاً. كما أنني أعتقد أن نجاحنا لا يعتمد على قدرتنا على التأثير محلياً فقط، ولهذا نحن في لندن اليوم لأن النجاح يعتمد أيضاً بشكل كبير على استخدام ما نملك من مبادئ وحقائق وقيم للتأثير دولياً".
ويرى إلعاد أن "الغرب لم يكتفِ بتجاهل القمع الإسرائيلي للفلسطينيين، بل يستفيد أيضاً من هذا الاضطهاد ويساعد عليه ويدعمه، بما في ذلك الحكومة البريطانية، عبر إقامة علاقات اقتصادية ودبلوماسية مع المحتلّ".
أما "المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان"، الذي يمثّله الصوراني، فلا نقاش حول شعبيته ربما، لكن مسألة قدرته على الاستمرار تفتح النقاش واسعاً على الدور الذي تلعبه السلطة الفلسطينية أو لا تلعبه في دعم قضية الفلسطينيين ومساندة الوسائل القليلة التي يمتلكونها في وجه الاضطهاد اليومي وسياسة الفصل العنصري.
ويقول الصوراني إن "لا علاقة لنا بالسلطة الفلسطينية على الإطلاق، ومع الأسف لا يوجد لدينا أي تمويل عربي، لأن من عرض علينا تمويلاً من العرب أراد لذلك التمويل أن يكون رشوة للإفساد والاحتواء".
ويرى الصوراني الجانب المشرق من عدم حصولهم على تمويل من السلطة الفلسطينية أو من أي طرف عربي، فذلك "يضمن استقلاليتنا ويمكّننا من التواجد مع الضحية بشكل مباشر ومن دون وسيط. نوثق جرائم الحرب ولدينا توكيل من الضحايا وذويهم لنمارس التمثيل القانوني أمام المحاكم الإسرائيلية وأمام المحكمة الجنائية الدولية". ويؤكد أنه "يجب على المجتمع المدني أن يعمل في فضاء بعيد عن فضاء الدول والحكومات".
ويوافق إلعاد على أهمية أن يبقى عمل المنظمات المدنية مستقلاً، خصوصاً في قطاع غزة المحاصر لأن "إسرائيل لديها تاريخ في عرقلة وصول الباحثين الدوليين المستقلين، ولم تسمح للجنة التحقيق السابقة التابعة للأمم المتحدة بدخول القطاع، كما أنه من غير المرجح أن تسمح لباحثي المحكمة الجنائية الدولية بذلك، وبالتالي من الضروري القيام بشكل مستقلّ وحرّ بعمل محترف في مجال حقوق الإنسان".
التهديدات الإسرائيلية لمنظمة "بتسيلم" والحقوقيين الفلسطينيين
وإضافة إلى أن منظمة "بتسيلم" لا تمثّل هي ومبادئها سوى الأقلية في المجتمع الإسرائيلي، فهي تواجه أيضاً تهديداً مستمراً بالإغلاق والمنع. إلا أن إلعاد لا يعطي تلك التهديدات اهتماماً كبيراً، لأن الحكومة الإسرائيلية وإن أرادت إسكاتهم ونزع شرعيتهم ومهاجمتهم، كما فعلت من قبل وكما ستفعل مستقبلاً، إلا أنها في الوقت نفسه "تريد الاستمرار في بيع العالم فكرة أن إسرائيل ديمقراطية، لا بل إنها الديمقراطية الوحيدة الصحيحة في العالم".
لذا، فإن إغلاق منظمات حقوق الإنسان لا يتفق، بحسب إلعاد، مع تسويق إسرائيل نفسها كبلد ديمقراطي. لكنها في المقابل تقوم بتمرير تشريعات على مر السنين، لتعيق وصول المنظمة إلى التمويل الدولي ولإعطاء الانطباع بأن "ما نحصل عليه من تمويل، حتى وإن جاء من أصدقائها في المملكة المتحدة وفرنسا وهولندا والسويد وما إلى ذلك، هو لتقويض السيادة الإسرائيلية".
إلعاد: الحكومة الإسرائيلية تريد الاستمرار في بيع العالم فكرة أن إسرائيل ديمقراطية
ويشير إلعاد إلى أن "ست منظمات حقوقية فلسطينية محترمة صُنّفت كمنظمات إرهابية" العام الماضي، في إشارة إلى مؤسسة "الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان" و"الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال – فلسطين"، و"الحق" و"اتحاد لجان العمل الزراعي"، و"اتحاد لجان المرأة العربية"، و"مركز بيسان للبحوث والإنماء".
ويضيف أن "المخاطر التي يواجهها المدافعون عن حقوق الإنسان من الفلسطينيين، أكبر بكثير مما يتعرّض له المدافعون عن حقوق الإنسان من الإسرائيليين، إذ إن المدافعين الفلسطينيين معرّضون للاعتقال والاغتيال وإغلاق مكاتبهم ومصادرة أموالهم وحظرهم من السفر لسنوات طويلة، وسط صمت دولي رهيب".
سياسة الفصل العنصري الإسرائيلية
ويعتقد إلعاد أن "تجربة إسرائيل في سياسة الفصل العنصري كانت أكثر نجاحاً من تجربة جنوب أفريقيا، لأنها تطبق الفصل العنصري من دون أن تصبح في نظر العالم ذلك البلد الأفريقي".
ويضيف "تلعب إسرائيل لعبة علاقات عامة أكثر تطوراً. ترتكب كل أنواع الجرائم بحق الفلسطينيين، ثم تدّعي أنها ديمقراطية، وأنها تتشارك مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة وغيرها قيم الديمقراطية والحقوق".
ويتساءل إلعاد "كيف لدولة أن تنتهج نظام الفصل العنصري وأن تكون ديمقراطية في الوقت ذاته؟ إنه تناقض في المصطلحات"، مضيفاً أن "الظلم لا ينتصر وهذا ما أثبته التاريخ".
نجاح جهود المجتمع المدني الفلسطيني
وعلى الرغم من كل تلك الإحباطات، يرى الصوراني أنه "لا يمكن للاحتلال أن يبقى للأبد، وأحد أهم دلائل نجاح جهود المجتمع المدني الفلسطيني هو أن إسرائيل بعظمتها وبما تملكه من صلات، غير قادرة على مواجهة مجموعة من المحامين في المحكمة الجنائية الدولية، لا بل وترعبها المسألة".
ويتابع "نحن حفنة من المحامين، وإسرائيل بعظمتها غير قادرة على إيقافنا في المحكمة الجنائية الدولية، أو الوقوف أمامنا هناك، أو المصادقة والتوقيع على ميثاق روما (المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية)، لأنها أضعف وأوهن من أن تواجهنا، أخلاقياً وإنسانياً، حتى وإن تفوقّت علينا عسكرياً واقتصادياً وأمنياً".
ويشير الصوراني إلى أن "المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان" و"بتسيلم" وصلا لنتيجة أن الجهاز القضائي الإسرائيلي "غير قادر على المحاسبة من جهة، ومن جهة أخرى يوفّر غطاءً قانونياً لما يُمارس من جرائم حرب ممنهجة ومنظّمة ضد المدنيين الفلسطينيين".
الصوراني: إسرائيل غير قادرة على مواجهة مجموعة من المحامين في المحكمة الجنائية الدولية
ويتابع "هذا أمر مهم، ويصفع كثيرين ممن يعتقدون أن على إسرائيل أن تتمتع بالحماية، كرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي دعا البريطانيين قبل شهرين للنضال مع الشعب الأوكراني ضد الاحتلال الروسي، لكنه يدعم الاحتلال الإسرائيلي".
ويرى الصوراني أنه "ليس إنسانياً أن نكون ضحية جيدة، لأن المقاومة بفكرتها هي جزء من التراث الإنساني، وكذلك ألا نسلّم للظلم والاضطهاد الواقع علينا. ومن غير الإنساني أن نموت ونُظلم بصمت من دون أن نقرع جدران الخزان حتى". (في إشارة إلى السؤال الأخير "لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟" الذي طرحه غسان كنفاني في نهاية روايته "رجال في الشمس" التي تتحدث عن ثلاثة رجال فلسطينيين يموتون في خزان تحت وهج الشمس الحارقة أثناء هربهم فيه إلى الكويت، لأنهم لم يمتلكوا الشجاعة لكي يصرخوا ويقرعوا جدران الخزان).
ويضيف الصوراني أنهم يستخدمون "أكثر الأساليب حضارية في عالمنا؛ سلاح القانون وحقوق الإنسان"، مشيراً إلى إنه "إن كان موضوع المحاسبة والمساءلة لن يعيد الشهداء أحياء، لكنه سيمنع الكثير من الجرائم المقبلة. فجزء من النضال الأممي هو ليس فقط من أجل الفلسطينيين، بل من أجل كرامة الإنسان".
ويختم بالقول إن "هذا الواقع البائس، إما يدفع للاستسلام أو لتنشيط الهمم وممنوع على الفلسطينيين أن يستسلموا أو أن يسلّموا بقدرهم كضحية جيدة".