قبل 5 أشهر، كان الانفصاليون في جنوب اليمن يكافحون بشتى السبل من أجل الوجود، للمرة الأولى، في حكومة معترف بها دولياً. وبمجرد الظفر بخمس حقائب وزارية في حكومة المحاصصة الحالية، تحوّل كيانهم السياسي المعروف بـ"المجلس الانتقالي الجنوبي"، إلى "غول" التهم الشرعية بأكملها وجعلها تتجه شرقاً لتحسس مقر إقامة جديد في حضرموت، بعد إجبارها على ترك مقرها الرسمي في العاصمة المؤقتة عدن. في المقابل، سجلت في الأيام الماضية عودة القيادات الانفصالية من الخارج، وسط تأكيد وسائل إعلام موالية للمجلس، أنّ هدفها المشاركة في احتفال الذكرى الرابعة لما يسمى بـ"إعلان عدن التاريخي"، والذي خول في الرابع من مايو/أيار 2017 عيدروس الزُبيدي بتشكيل المجلس الانتقالي، قبل إشهاره رسمياً في 11 مايو من العام ذاته.
وتحول المجلس الانتقالي، الذي يحتفي اليوم الثلاثاء بالذكرى الرابعة لتأسيسه بدعم إماراتي، إلى شوكة في خاصرة الحكومة الشرعية. فالشراكة التي كانت الآمال معلقة عليها، لإنهاء الاضطرابات في عدن ومدن جنوب اليمن التي بدأت منذ 2017 عندما استغل الانفصاليون إقالة الرئيس عبدربه منصور هادي لمحافظ عدن الأسبق عيدروس الزُبيدي للتصعيد وإطلاق "إعلان عدن التاريخي" وتأسيس المجلس، ومن أجل توحيد الصفوف لمواجهة المليشيات الحوثية، قادت الرئاسة اليمنية إلى متاهة جديدة، وشوشت على واحدة من أهم المعارك الفاصلة مع الحوثيين في محافظة مأرب، شرقي البلاد.
لا يُعرف حتى الآن ما إذا كانت الحكومة الشرعية تنوي البقاء في حضرموت
عقب تشكيلها في 18 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أطلقت حكومة المحاصصة التي يترأسها معين عبد الملك حزمة من الوعود، على رأسها أنّ العام الحالي سيكون "عام التعافي" سياسياً واقتصادياً وتنموياً. لكن طريقها إلى عدن لم يكن مفروشاً بالورود، وخصوصاً بعد الاعتقاد بنجاح احتواء الانفصاليين، إذ تعرضت في الـ30 من الشهر ذاته، لاستقبال دام في مطار عدن الدولي، أسفر عن مقتل 28 شخصاً وإصابة أكثر من 100، فيما كان مقرها في قصر معاشيق بمدينة كريتر، عُرضة لهجمات مبهمة بطائرات مسيّرة.
عقب هجوم عدن الذي وُجهّت أصابع الاتهام فيه لجماعة الحوثيين، كان رئيس حكومة المحاصصة يخرج في تصريحات صحافية متسلسلة يعلن فيها أنّ الهدف من وراء تلك الأعمال هو إجبارهم على الرحيل، ويؤكد أنهم "باقون على الأرض على الرغم من كل ما سيحدث". إلا أنّ الاقتحام الممنهج لقصر معاشيق الرئاسي، منتصف مارس/آذار الماضي، والذي وقف خلفه مؤيدون للمجلس الانتقالي الجنوبي، جعل الحكومة تعيد حساباتها، وتحزم أمتعتها مجدداً إلى الرياض، المنفى الإجباري الذي يحتضن أيضاً قيادات "الشرعية" كافة منذ 6 سنوات، قبل أن تظهر مجدداً من حضرموت، في 26 إبريل/نيسان الماضي. مع العلم أنّ ما حصل في مارس لم يكن الحادث الأول، إذ عمد المجلس في أغسطس/آب 2019، إلى تنفيذ ما وصف بـ"انقلاب ثانٍ" على الشرعية، بعد إعلان "التعبئة العامة" ودعوة أنصاره لمحاصرة قصر معاشيق، الذي تم اجتياحه، فضلاً عن السيطرة على معسكرات الشرعية كافة وطرد جميع وزراء الحكومة من عدن.
وبعد ذلك بأقل من عام، وتحديداً في 26 إبريل 2020، أعلن المجلس حالة الطوارئ في العاصمة المؤقتة عدن وباقي المدن الجنوبية، وإدارتها ذاتياً، في ما عد يومها استمراراً للتمرد.
ويبدو أنّ "الشرعية" قد وجدت حالياً في حضرموت ما افتقدته في مدينة عدن، وهو الأمان، حيث ينشط رئيس الحكومة معين عبد الملك بشكل لافت، ويتنقل لزيارة عدد من المرافق الحكومية، فيما كان وزير الداخلية، إبراهيم حيدان، الذي غادر عدن أواخر إبريل الماضي صوب الرياض، يعود بشكل سريع إلى مدينة سيئون في حضرموت، ويباشر من هناك اجتماعات رسمية لمناقشة الأوضاع الأمنية في عموم المحافظات المحررة.
لا يُعرف حتى الآن ما إذا كانت الحكومة الشرعية تنوي البقاء في حضرموت واتخاذها كمقر جديد أم لا، على الرغم من أنّ المديح الذي تكيله لمدينة باعتبارها "النموذج الأفضل للأمن والاستقرار والسلام من بين المحافظات اليمنية"، والوعود بجعلها "أيقونة التنمية والتعافي الاقتصادي"، يشير إلى احتمالية اتخاذ هذا القرار الهام، والذي يكشف عن انسداد الأفق بشكل تام مع المجلس الانتقالي الجنوبي.
عبد الملك يرغب بالعودة لممارسة مهامه من عدن، لكنه يتعرض لضغوط من هادي
ووفقاً لمصادر مطلعة تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإن رئيس الحكومة يرغب بالعودة لممارسة مهامه من مدينة عدن، لكنه يتعرض لضغوط من الرئيس عبدربه منصور هادي، الذي دخل في مرحلة تحد مع المجلس الانتقالي، على خلفية القرارات الرئاسية التي صدرت بعد تشكيل الحكومة. ويتمسك الانفصاليون بضرورة التوافق على الشخصيات كافة التي يتم تعيينها أو عزلها بقرارات رئاسية، وهو ما يعتبره هادي تدخلاً في صميم صلاحياته، خصوصاً أنّ القرارات المعلنة أخيراً، وعلى رأسها تعيين أحمد عبيد بن دغر رئيساً لمجلس الشورى ونائباً عاماً، ليست مشمولة بالتوافق الذي نص عليه اتفاق الرياض.
وأقرت مصادر في الحكومة اليمنية بوجود ما وصفته بـ"الاستفزاز" للمجلس الانتقالي، خصوصاً بعد صدور قرار حديث قضى بإطاحة مسؤول أمني رفيع موال للمجلس من قيادة قوات الأمن الخاصة في عدن ولحج وأبين والضالع يدعى فضل باعش، وقالت المصادر إنّ هذه القرارات ستقود إلى مزيد من الاحتقان.
اتفاق الرياض: مكمن الخلل
ساهمت السعودية، وقبلها الإمارات في "تدليل" المجلس الانتقالي، وذلك بتحويله في غضون 4 سنوات، من كيان متمرد على الشرعية بقوة السلاح، إلى كيان سياسي يشارك في حكومة معترف بها دولياً، ويطمح للجلوس على طاولة مفاوضات السلام المرتقبة التي ترتب لها الأمم المتحدة بين كافة الفرقاء اليمنيين.
وبمباركة سعودية، نجح الانفصاليون في لي ذراع الشرعية، وذلك بتنفيذ انتقائي لبنود اتفاق الرياض الموقع في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، إذ رفض المجلس الانتقالي تطبيق الشق العسكري والأمني الذي ينصّ على ضرورة خروج المعسكرات من عدن وأبين، ودمج القوات الأمنية. قام الاتفاق على افتراض خاطئ من قبيل سهولة دمج القوى المتصارعة وتسليم أسلحتها ومواقعها للخصوم. وبعد عجزها عن إجبار المجلس الانتقالي على تطبيق البنود بحذافيرها، لم يكن أمام السعودية سوى الضغط على "الشرعية" لتطبيق الشق السياسي فقط.
وكما هو الحال مع المآلات التي أفضى إليها اتفاق السلم والشراكة بين الشرعية والحوثيين عقب اجتياح صنعاء أواخر 2014، بدأت الأمور في عدن تتجه للمسار ذاته، مع نشوب صدام مبكر بين شركاء حكومة المحاصصة.
المجلس الانتقالي يريد القفز عن الشق العسكري والأمني في اتفاق الرياض
وفي السياق، قال مصدر حكومي لـ"العربي الجديد"، إن الأزمة الحالية تكمن في أنّ المجلس الانتقالي يريد القفز عن الشق العسكري والأمني في اتفاق الرياض، والمطالبة بحصته من مناصب محافظي المحافظات والسفراء وباقي المؤسسات السيادية.
ويطمح الانفصاليون للظفر بمنصب محافظ محافظة شبوة الغنية بالنفط والغاز، الذي يقوده حالياً محمد صالح بن عديو، المحسوب على حزب "الإصلاح"، كما يسعون بكل السبل لوضع يدهم على محافظة حضرموت النفطية أيضاً، وإدارة تلك المناطق تحت لافتة الدولة، ولكن عبر أجهزة تابعة للمجلس بشكل تام، وتنفذ أجندته الرامية لانفصال جنوب اليمن عن شماله.
وفي ظلّ الانسداد الحاصل ورفض الرئيس هادي التراجع عن قرارات التعيين في مجلس الشورى والقضاء، فضلاً عن التوجه لاتخاذ محافظة حضرموت مقراً محتملاً للحكومة الشرعية، يبدو أنّ الأوضاع ستتجه إلى مزيد من التدهور، خصوصاً بعد عودة قيادات المجلس الانتقالي من أبوظبي إلى عدن، بعد نحو عام من مغادرتها.
وغداة وصوله إلى عدن وترؤسه أول اجتماع لهيئة رئاسة المجلس الانتقالي، بدا الزعيم الانفصالي، عيدروس الزُبيدي، متمسكاً باتفاق الرياض وتنفيذ باقي بنوده، والمشاركة في مفاوضات العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة، من دون التلميح لأي تصعيد ضد "الشرعية". لكن فريق التوجيه المعنوي التابع للانفصاليين، توعد في اليومين الماضيين بـ"قرار لن يسرّ الهاربين الذين لن يشفع لهم اتفاق الرياض"، في إشارة للحكومة الشرعية التي غادرت عدن صوب حضرموت.
ومن المستبعد أن يُقدم المجلس الانتقالي على تحدي السعودية واتخاذ خطوة مشابهة لتلك التي أعلن بموجبها الإدارة الذاتية لمحافظات الجنوب أواخر إبريل 2020، خصوصاً في ظلّ الانسجام بالمواقف السعودية الإماراتية، واستقبال ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، السبت الماضي، وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، في أبوظبي.