منذ البداية، كانت الإدارة الأميركية متردّدة، إذ مرّرت خبر زيارة الرئيس جو بايدن للمنطقة بغموض مقصود لجسّ النبض قبل الإعلان الرسمي لها. اكتفت بالإعراب عن اعتزام بايدن زيارة إسرائيل والضفة الغربية المحتلة في يونيو/حزيران الحالي من دون تحديد موعد. ثم أضيفت المملكة العربية السعودية إلى الجولة وربما عقد قمة مع قيادات المنطقة، ولكن من غير تأكيد.
التعليل كان أن الإدارة الأميركية قررت التراجع عن موقفها المعروف من وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، وبالتالي زيارة المملكة واللقاء معه، نزولاً عند مقتضيات اللحظة الراهنة التي توجب التحلي بالواقعية، نظراً لحاجة الإدارة إلى تعزيز الإنتاج النفطي بكميات لا توفرها غير السعودية، لوقف انفلات الأسعار عالمياً.
هذا كان قبل اجتماع منظمة أوبك للتداول في مسألة زيادة الإنتاج. بعد الاجتماع بيوم، أي في 3 يونيو الحالي، سُرِّبَت معلومة إلى شبكة "أن بي سي نيوز" بأن زيارة بايدن أُرجئت إلى يوليو/تموز المقبل، وأيضاً من دون تعيين موعد.
إدارة بايدن بقيت صامتة، لم يصدر عنها أي تأكيد رسمي للزيارة ولا للتأجيل. الكلام المنسوب إلى مسؤولين، يعزو ترحيل الجولة إلى الشهر المقبل، وإلى الرغبة في "توسيع إطار الجولة" بحيث تشمل حضور قمة مجلس التعاون الخليجي.
لكن توقيت التأجيل كان لافتاً بحيث بدا كردّ على الزيادة المتواضعة في إنتاج النفط التي أقرتها منظمة أوبك والتي لا تسمن ولا تغني من جوع والتي يُعتقد أنها تقررت بتأثير من موسكو على المنتجين أو بالتفاهم معهم، وبالذات السعودية، الذين كانت واشنطن تتوقع منها أكثر من ذلك.
يقابل ذلك تفسير آخر مفاده أن المفاوضات بين واشنطن والرياض حول إعادة دوزنة معادلة "أمن – طاقة" بينهما، التي تعقدت في الآونة الأخيرة، لم تنته بعد، ما اقتضى التأجيل. لكن هذا التخريج يبدو أقرب إلى تغطية العوائق الفعلية لتسوية العلاقات التي تدعو جهات أميركية حريصة على تصحيحها، إلى ضرورة معالجة إشكالاتها وشكوكها المتبادلة قبل أن تتحول إلى مانع لرد المياه إلى مجاريها بينهما.
عادةً الزيارات الخارجية غير الطارئة، يتقرر برنامجها وموعدها قبل أسابيع. لكن البيت الأبيض تعمّد هذه المرة تركها معلّقة، أراد استبيان مدى الاستجابة فيما لو ضمّ السعودية إلى الجولة، قبل الحسم بشأنها.
الردود على هذا الاحتمال جاءت غير ملائمة للإدارة، جرى تحريك الأجواء المضادة للرياض من خلال تذكير الرئيس بتوعداته الحازمة بالنسبة إلى المملكة، وبالتحديد لولي العهد، وبأنه ينوي التراجع عنها دون ثمن مناسب.
صحيفة "واشنطن بوست" نشرت، أمس السبت، تقريراً مطولاً عمّا تسميه "جرائم حرب" ارتكبتها قوات التحالف في غاراتها الجوية "على المدنيين" في اليمن وانتهاكاتها "لحقوق الإنسان" هناك، مع توجيه الملامة إلى الدعم العسكري الذي وفرته واشنطن لهذه الحرب.
والمعروف أن "واشنطن بوست" تتصدر الحملة الإعلامية على الرياض منذ مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في سفارة بلاده بإسطنبول عام 2018، الذي كان يكتب فيها.
وفي الكونغرس لا تقلّ الحملة سخونة. ففي المدة الأخيرة قُدِّم أكثر من مشروع قرار في مجلس النواب لوقف الدعم للسعودية في حرب اليمن. وفي مجلس الشيوخ مشروع آخر يعتزم السيناتور بيرني سندرز تقديمه قريباً.
ثم جاء قرار أوبك برفع الضخ إلى 648 ألف برميل إضافي يومياً خلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب المقبلين، ليعقبه في اليوم التالي قرار التأجيل بحيث بدا كرد على الزيادة المخيبة للإدارة التي تعاني من ضغوط محلية كبيرة على ارتفاع اسعار المحروقات.
وتواجه إدارة بايدن تحديات مستعصية لا حول لها ولا قوة ولا قدرة حتى على وقف التدهور فيها، منها: التضخم المستفحل والعنف صار "فالج لا تعالج" وبايدن رئاسته متعثرة، وفي أحسن الأحوال تراوح مكانها قبل أشهر قليلة من الانتخابات النصفية.
على هذه الأرضية لم تكن مفاجئة مراجعة بايدن حساباته بشأن جولة كان من المرجح أن يرجع منها خالي الوفاض، فلسطينياً وسعودياً. ومرة أخرى، يكشف البيت الأبيض عن تسرّعه في القرارات والخيارات والتصريحات، ليتراجع عنها وبما يزيد من خسائره في وقت لا يحتمل فيه زيادة خسائر يدفع ثمنها سياسياً في الداخل وبمواجهة كونغرس عاكسه في كل محطة وملف ما عدا أوكرانيا.