أربكت الوثيقة المسّربة عن خطّة الانقلاب المزعوم بتدبير من مؤسسة الرئاسة التونسية، المشهد السياسي في تونس، وأشعلت الصراع مجدداً، بعدما كان الجميع ينتظر هدوءه بين الرئيس التونسي قيس سعيّد وخصومه، ورئيس البرلمان (رئيس حركة النهضة) راشد الغنوشي ورئيس الحكومة هشام المشيشي، والحزام الداعم للحكومة. وكان كثيرون يتوقعون أن يكون عيد الفطر (الذي حلّ في 13 مايو/أيار الحالي)، مناسبة لذلك، وقد حدث بالفعل خلاله تبادل للتهاني وكلمات لطيفة للمرة الأولى، أعطت مؤشراً على حصول هدوء بين الجبهات، ونجاح وساطات فيها، أبرزها تلك التي قادها الأمين العام لاتحاد الشغل، نور الدين الطبوبي.
تعتقد "النهضة" أن جوهر مضمون الوثيقة المسربة صحيح، بقطع النظر عن شكلها وأخطائها
وأكدت مصادر حزبية، لـ"العربي الجديد"، أنه جرى اتفاق بين الغنوشي وسعيّد على تهدئة الأجواء والذهاب إلى الحوار، والاتفاق على عدد من النقاط بعد عودة الأخير من زيارته إلى فرنسا (التي جرت في 17 و18 مايو الحالي لحضور قمة اقتصادية)، إلا أن أموراً كثيرة تغيرت في الأثناء، إذ عاد سعيّد إلى مهاجمة خصومه في حوار مع قناة "فرانس 24" الإخبارية، ثم جاءت هذه الوثيقة التي تعتقد "النهضة" أنها تؤشر على رغبة لدى الرئاسة في تفعيل الفصل 80 من الدستور وإرباك البلاد. كما تعتقد الحركة أن جوهر مضمون الوثيقة المسربة، صحيح، بقطع النظر عن شكلها وأخطائها، ما أثار مخاوفها من جديد ودعوتها إلى قيام جبهة سياسية تدافع عن المسار الديمقراطي.
وبقطع النظر عن التلميح لدور فرنسي ودور جهات كثيرة أخرى في الداخل والخارج تستثمر في استمرار الخلافات، فقد بلغ التوتر السياسي في تونس حدّه الأقصى، وبدأ ينذر بانزلاقات خطيرة أمام تواصل هذا الصراع، الذي لن ينهيه إلا لقاء صريح بين سعيّد والغنوشي. هذا اللقاء يتطلب مبادرة أحدهما لإنقاذ استقرار البلاد والتجربة الديمقراطية قبل فوات الأوان، والترفع التاريخي عن خلافات قد تتحول إلى أخطاء لن يغفرها التونسيون.
ويعتقد كثيرون أن ما يجمع بين الرجلين في الأصل أكثر مما يفرقهما، وأن لقاءهما ممكن ومتاح، وباستطاعته تخليص البلاد من شبح أزمة اقتصادية واجتماعية. كما يعتقد التونسيون أن على المحيطين بسعيّد والغنوشي، لعب دور في هذا الاتجاه، لتكرار تجربة (الرئيس التونسي الراحل) الباجي قائد السبسي والغنوشي التي كانت ناجحة، على الرغم من كل مشاكلها، وعلى الرغم من وجود أسباب موضوعية للهزّات السياسية المتتالية التي تعيشها البلاد.
وفي هذا السياق، رأى المحلل السياسي قاسم الغربي، أن النظام السياسي في تونس، متسبب في الأزمة الحالية، وأيضاً النظام الانتخابي الذي أنتج هذا المشهد البرلماني المتشظي الذي انعكس على الوضع العام. واعتبر الغربي أنه "كان بالإمكان تجاوز عقبات النظام السياسي والانتخابي والوصول إلى حد أدنى من الاستقرار، لولا أن السبب الحقيقي والرئيسي للأزمة هو انعدام الثقة بين رؤساء مؤسسات الدولة".
وأضاف المحلل السياسي التونسي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الصراع بين رئاستي الجمهورية والبرلمان "ليس مجرد صراع بين شخصيتين سياسيتين، بل هو خلاف حول تصور كل منهما للدولة ولنفوذه السياسي". وشرح الغربي أن "رئيس مجلس النواب يرى أنه يمثل السلطة الأصلية، وله كل الصلاحيات التشريعية والرقابية على السلطة التنفيذية، أي على الخيارات الاقتصادية والسياسة الخارجية، بينما لدى رئيس الجمهورية نظرة تتجاوز ما حدّده الدستور". وأوضح الغربي أن هذه الرؤيا لسعيّد "ليست متطابقة مع نصّ الدستور، الذي يمنحه تحديد سياسات الدفاع والخارجية، وهو لا ينسجم مع هذا الإطار الضيق الذي حدده الدستور، ومن هنا أصل الخلاف، وكل ما نلاحظه من صراعات سياسية ومن تسريبات والحديث عن محاولة انقلابية على شبكات التواصل الاجتماعي، هي خارج إطار السياسة، لا علاقة لها بالسياسة، وتؤشر للأسف على أحد مظاهر بؤس الحياة السياسية في البلاد، لأنها تدار بطريقة غير نبيلة وغير شريفة وغير أخلاقية".
الغربي: الصراع بين رئاستي الجمهورية والبرلمان ليس بين شخصيتين سياسيتين، بل حول تصور كل منهما للدولة
وحول التسريب الأخير والحديث عن الانقلاب المزعوم، أوضح الغربي أن مضمون الوثيقة "قد لا يكون غريباً، لأن هناك فعلاً من تحدث عن بعض تفاصيلها منذ مدة، ودعا إلى تفعيل الفصل 80، ولكن صدور وثيقة في هذا التوقيت يجعل العملية مشبوهة"، مؤكداً أنه "على الرغم مما قيل، فإن رئيس الجمهورية لن ينزل إلى هذا المستوى ويتورط في عمل مماثل من إعداد خطة انقلابية، وخصوصاً بالطريقة التي تضمنتها الوثيقة، وهو المعروف بتمسكه الحرفي بالقانون والدستور"، معتبراً أن أكبر المتضررين من هذا التسريب هو سعيّد نفسه.
ورجح المحلل السياسي أن يكون توقيت نشر هذه الوثيقة "له دلالات وأهداف واضحة، لأن هذه الوثيقة يأتي نشرها بعد المؤشرات عن حلحلة الأزمة السياسية وقبول الرئيس لمبادرة اتحاد الشغل المتعلقة بالحوار الوطني، وكأن هناك جهات لا تريد لرئيس الجمهورية الذهاب إلى حوار وطني"، مبيناً أن ما صدر "فضيحة كبرى ومحاولة لضرب أي إمكانية لانطلاق الحوار". وأكد أن الكرة الآن في ملعب رئيس الجمهورية، وعلى سعيّد أن يبادر بتكذيب ما ورد في الوثيقة، على الرغم من أنها غير رسمية ولا تتضمن تاريخاً ولا مصدراً، مبيناً أن تكذيب أحد مستشاري سعيّد غير كاف، ولا بد من تدخل الرئيس، لأن الوضع دقيق والتعجيل بالحوار الوطني ولقاء الأمين العام لاتحاد الشغل، سيكون أفضل رد على مطلقي الوثيقة.
من جهته، أشار الأمين العام لـ"التيار الديمقراطي"، غازي الشواشي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أن المتأمل في التجارب المقارنة بأغلب البلدان التي مرّت بمراحل انتقال ديمقراطي، من نظام استبدادي وحكم الفرد والحزب الواحد إلى التأسيس لنظام ديمقراطي، يرى أنها مرحلة صعبة جداً، لأنها مرحلة أزمات عادة ما تكون مركبة ومعقدة، فالتأسيس لنظام جديد وقطع الصلة مع القديم والقيام بالإصلاحات وتطوير فكر ووعي الشعب والنخبة، أمور تشكل مرحلة صعبة في الحقيقة". ولاحظ الشواشي أن العديد من البلدان في أوروبا مرّت بمرحلة انتقال ديمقراطي صعبة ومحاولات ردة لعودة المنظومة القديمة، وهو ما رأيناه أيضاً في مصر مثلاً، حيث عاد الحكم العسكري بعد انتخابات.
ورأى الشواشي أنه كان يُفترض في تونس بعد تجربة انتخابات 2014، الوقوف على الثغرات والعيوب وتجاوزها، ولكن نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية لـ2019 كانت مخيبة للآمال، لأنها أنتجت منظومة لا تمكّن طرفاَ أو طرفين من الحكم والإمساك بأغلبية السلطة لتغيير الوضع، لذلك بقي المشهد هشّاً، زادته أزمة مؤسساتية بين رئيس الجمهورية والبرلمان ومع الأغلبية الحاكمة، تضاف إليها المشاكل الموجودة في النظام السياسي وقانون الانتخابات والأزمة الاقتصادية والاجتماعية والصحية. كما رأى أن معظم هذه العوامل تجعل الوضع في تونس، صعباً ودقيقاً، ويجعل البلاد مهددة بانفجار اجتماعي وبالإفلاس.
وشدّد الأمين العام لـ"التيار الديمقراطي"، على أن الأمل يبقى قائماً على الرغم من كل ذلك، لأن تونس مرت سابقا بأزمات عدة كانت أكثر خطورة، ومع ذلك مرّت بسلام، وهناك للأسف أزمة ثقة بين مؤسسات الدولة وكل طرف متخوف من الآخر ومن مخرجات الحوار، ولكن الحوار البناء الذي يطرح أهم المشاكل دون شروط وإقصاء هو الكفيل بإنقاذ البلاد. ورأى أن "رئيس الدولة مطالب بإجراء حوار دون تردد، خصوصاً أن البلاد في طريق الانهيار، وهو المسؤول الأول عن الدولة". واعتبر أن "هناك إشكالية لن نتجاوزها إلا بدخول العقلاء على الخط، وأن تكون هناك صحوة في التفكير مع تجاوز ما يحصل، لإنقاذ التجربة التونسية والمسار ككل، وضمان أمن واستقلال تونس، لأن الفشل يعني دخول الأجنبي وفرض أجنداته"، مؤكداً أنه لا تزال هناك فرصة للإنقاذ وللحوار.
ديلو: لا بد من استكمال تركيز الهيئات الدستورية والمستقلة والمحكمة الدستورية
أما القيادي في حركة "النهضة"، سمير ديلو، فرأى أن "كلّ وضعية هي حصيلة تراكم، إن لم يتم بوعي من الفاعلين فيه وبتوافق على المشترك بينهم، فسيكون نتيجة ذلك التدحرج التدريجي نحو وضعية قد تخرج عن السّيطرة"، معتبراً أن "المسؤوليّة مشتركة بين كلّ الفاعلين، وإن بنسب متفاوتة، في الوصول إلى هذه الأزمة المستفحلة، فيما يزيد غياب الثّقة من صعوبة الحلّ، وخصوصاً لجهة القيام بالخطوة الأولى باتجاهه".
وحول الأسباب التي قادت إلى هذا الوضع، قال ديلو لـ"العربي الجديد": "أنا من الذين يعتقدون أن السّبب الرئيسي لا يعود للدستور، فكما قال أحد الفقهاء الدّستوريّين "دستور جيّد لا يكفي لضمان سعادة شعب، ولكن دستوراً رديئاً كفيل بضمان شقائه"، فإن الدستور التونسي ليس دستورا سيئا، ولو أنه ككل الدساتير قابل للتجويد على ضوء دروس الممارسة واختبار الواقع المتغير، ولكن الإشكال الرئيسي هو في عدم نضج الطبقة السياسية، وضعف الإقبال على الانتظام الحزبي وتردي صورة الأحزاب والمسؤولين الحزبيين والسياسيين، نتيجة شبهات الفساد وضعف حوكمة الأحزاب وتذبذب أداء الحكومات المتعاقبة".
وأوضح القيادي في "النهضة"، أن "الانتقال الديمقراطي لا يزال هشّاً، ولم يصلب عوده، ولا يكفي تعاقب الانتخابات وحرية التعبير لضمان عدم الانتكاس، بل لا بد من استكمال تركيز الهيئات الدستورية والهيئات المستقلة وخصوصاً المحكمة الدستورية ومراجعة القوانين المنظمة للانتخابات وللأحزاب والجمعيات ضماناً لشفافية ونزاهة العملية السياسية". وشدّد ديلو على أن "الحوار ليس خيارا بل حتمية، وإن لم يسارع له الفاعلون الرئيسيون طوعاً، فسيضطرون إليه في ظروف أكثر تعقيداً وخطورة"، مضيفاً أن "الجهة المؤهلة للمبادرة بالدعوة لهذا الحوار الوطني هي رئاسة الجمهورية، وذلك على أرضية مبادرة الجهة التي تحظى بالاحترام والثّقة، وهي الاتحاد العام التونسي للشغل".