فضّلت دوما استخدام مصطلح النكبة الثانية؛ لا النكسة، في توصيف حرب حزيران/ يونيو 1967، فأن تهزم إسرائيل ثلاثة جيوشٍ عربية في ستّ ساعات لا أيام، وتحتل كامل فلسطين؛ بما فيها القدس بكل رمزيتها، وشبه جزيرة سيناء المصرية الشاسعة مترامية الأطراف، التي تبلغ مساحتها أضعاف فلسطين التاريخية، إضافةً إلى هضبة الجولان السورية، ذات الموقع الاستراتيجي، والمدججة بالتحصينات الدفاعية، فهذه بالتأكيد ليست مجرد نكسة، إنما نكبة كاملة الأوصاف.
كان مصطلح النكسة نفسه مخادعاً ومتذاكياً، وأطلقته الأنظمة المهزومة وإعلاميوها وأبواقها، رغم وعيها الكامل بما جرى، ولكونها وصلت إلى السلطة بانقلاباتٍ عسكرية، بحجة إزالة آثار النكبة الأولى؛ أيار/ مايو 1948، لكنها بعد عقودٍ من الاستبداد والهيمنة على المجتمع، وتأميم كافة مناحي الحياة تسببت بنكبةٍ ثانية كاملة الأوصاف. بينما كان التعاطي الشجاع النزيه والواقعي معها يقتضي رحيلها نهائياً عن السلطة، ومعاقبتها ومحاسبتها عن القصور والإهمال في أداء الواجبات الوطنية والعامة، إذ رقّى حافظ الأسد نفسه من وزير دفاعٍ إلى رئيس جمهوريةٍ؛ كان المسؤول المركزي عن النكبة الثانية في بعدها السوري، ثم توالت الانقلابات العسكرية بعد ذلك في العالم العربي لتقليد واستنساخ أنظمة النكبة المهزومة، قاضيةً في السياق على المدنية الديمقراطية الكاملة في السودان؛ وعلى البلد نفسه، وعلى الملكية الدستورية؛ ولو غير الكاملة، في ليبيا، إضافةً إلى تأثيرات النكبة الثانية السلبية والهائلة على لبنان الديمقراطي المزدهر على كل المستويات، كان بحاجة إلى إصلاحات فقط، إذ دفع البلد الصغير مباشرةً الثمن، بل أثمانا باهظةً للنكبة، وعجز الأنظمة المركزية والقوية عن هزيمة إسرائيل، وإلقاء الغزاة والمستعمرين في البحر، بل جرى إلقاء هذه المهمة التاريخية والاستراتيجية على عاتق البلد الصغير والجميل والمقاوم على طريقته.
لا يقل عن ذلك أهمية حقيقة أن الأنظمة التي تسببت بالنكبة الثانية لم تتغير فقط، ولكنها غيرت القضية الفلسطينية المركزية للعرب؛ حسب التعبير البليغ للشهيد غسان كنفاني، إذ جرى تقزيم واختزال فلسطين التاريخية في حدود حزيران؛ الضفة الغربية وغزّة، وما يعرف بحل الدولتين عبر قبول قرار 242 لمجلس الأمن، ثم مبادرة وزير الخارجية الأميركي وليام روجرز، وهو ما أدى مبكراً جداً إلى سقوط لاءات الخرطوم "المدنية الديمقراطية" الثلاث. ومن هناك أصبحت المسافة قصيرةً جدا نحو التفاوض والصلح والاعتراف والتطبيع مع إسرائيل، بما فيها اتفاق أوسلو طبعاً.
إسرائيل عاجزةٌ عن هزيمتنا أو فرض الاستسلام علينا، في الميدان أو حتّى على الطاولة
من هذه الزاوية وللدقة، لا شك أن أوسلو كان نتاجاً مباشراً للنكبة الثانية 1967، والعجز عن إزالة آثار النكبة الأولى، وظهور مصطلح فلسطين الجديدة؛ كما روّجت لذلك صفقة القرن لدونالد ترامب، أي إنشاء دولةٍ أو كيانٍ ما على أقل حتى من خُمس مساحة فلسطين التاريخية.
من جهة أخرى؛ كان أوسلو كذلك نتاج تمسك القيادة الفلسطينية بالسلطة؛ بأي ثمن، وعدم امتلاك الشجاعة لتكرار ما فعله رئيس منظمة التحرير المرحوم أحمد الشقيري بعد النكبة الثانية، إذ كان الوحيد؛ ربما بين المسؤولين العرب، الذي امتلك الشجاعة الشخصية والسياسية لاستخلاص العبر المناسبة من النكبة، بما في ذلك ضرورة إفساح المجال أمام جيلٍ جديدٍ، ودماءٍ قياديةٍ شبابيةٍ لإدارة الصراع مع الاحتلال.
وعليه، كان اتفاق أوسلو تعبيراً عن التمسك بالسلطة؛ كما فعلت أنظمة النكبة الثانية، ورفض تسليمها للأجيال القيادية الجديدة، خاصةً مع انتقال الثورة والقيادة الفلسطينية نفسها إلى الداخل، مع الانتفاضة الأولى 1987، بعد الخروج من لبنان، إثر الغزو الإسرائيلي للبلاد 1982، الذي كان أيضاً نتاجا مباشرا لاتفاقية كامب ديفيد المصرية، باعتبارها نتاجا مباشرا للنكبة الثانية، والعجز عن هزيمة إسرائيل ميدانيا، والهروب إلى الصلح والتفاوض معها.
بهذا المعنى أيضا يمكن الحديث عن "نكبة أوسلو" مع اختصار فلسطين بالضفة وغزة، التنازل عن أربعة أخماسها مقابل الخمس الباقي منقوصا، مع القبول بفكرة تبادل الأراضي، والتنازل نظريا عن حق العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين إلى القرى والبلدات والمدن التي هُجّروا منها في النكبة الأولى عام 1948.
النكبة الثانية؛ حزيران 1967، كانت السبب الرئيسي أيضاً لإطلاق المبادرة العربية في بيروت 2002، واعتبار السلام خيارا استراتيجيا مع القوة القائمة بالاستعمار في فلسطين، كون المبادرة مرتبطةٌ مباشرةً بالنكبة وتجلياتها، بما فيها أوسلو بالطبع، علماً أنها مَسَحت رسمياً وجماعياً لاءات الخرطوم الثلاث، التي كانت تعبيراً عن المزاج الشعبي العربي العنيد بعد النكبة، ثم تحايلت أنظمة الاستبداد عليها، سعياً إلى الاحتفاظ بالسلطة، عبر البحث عن شرعيةٍ خارجيةٍ من إسرائيل وراعيتها أميركا، التي تملك 99% من أوراق اللعبة، حسب التعبير الشهير للرئيس المصري السابق محمد أنور السادات.
بناءً على ما سبق، وحسب التسلل المنطقي للأحداث، كان الاقتتال الفلسطيني على السلطة؛ 2007، والانقسام السياسي والجغرافي، بين الضفة وغزة نتاج أوسلو أيضا، الذي هو بدوره نتاجٌ مباشرٌ لنكبة حزيران الثانية، والعجز عن إزالة آثار النكبة الأولى.
كان التعاطي الشجاع النزيه والواقعي معها يقتضي رحيلها نهائياً عن السلطة، ومعاقبتها ومحاسبتها عن القصور والإهمال في أداء الواجبات الوطنية والعامة
بعد أوسلو أقامت القيادة الفلسطينية؛ التي رفضت التنازل للأجيال الشابة الأكثر ديمقراطيةً، نظاما استبداديا عربيا تقليديا، حتى ولو ملطفا قياسا بالواقع الفلسطيني، وتركت خلفها أرضا مدمَرةً دون أي ترتيبٍ منطقي وممنهج لانتقال السلطة، فكان الاحتكام غير الديمقراطي إلى السلاح لحل الخلافات 2007، والانقسام الذي أضرّ استراتيجيا بالقضية العادلة، وحشد التأييد والدعم العربي والدولي لها، كما بالصراع والنضال الميداني مع الاحتلال لتحرير فلسطين، كل فلسطين وإزالة أثار النكبتين الأولى والثانية.
عربياً، تواصلت أجواء حزيران مع رد العسكر على الربيع العربي 2011، ومطالب التغيير بالثورات المضادة، التي أعادت إنتاج أنظمة حزيران الفاشلة والمهزومة، بعدما أسقطتها الثورات الأصيلة.
مرتبطا بما سبق، نشهد أجواءً حزيرانيةً تشبه تلك التي سادت قبل النكبة الثانية 1967، عن هزيمة إسرائيل والقاء الغزاة في البحر، من قبل الحشد الشعبي الإيراني الطائفي الموتور، للتغطية على دعم الفلول والثورات المضادة، واحتلال وتدمير الحواضر العربية، لإقامة الإمبراطورية الفارسية، التي عاصمتها بغداد. ويستخدم؛ بل يستنسخ، خطاب وشعارات الأنظمة قبل نكبة حزيران، دون الإعداد الجاد والمناسب لمعركة التحرير الكبرى، عملاً بالآية القرآنية البليغة [وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة، ومن رباط الخيل]، ولا خلاف على أن الرباط يعنى الجانب العسكري البحت، في حين يحض الجزء الأول من الآية على بناء القوة بمستوياتها المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والشعبية، وهي أمورٌ غائبةٌ عنا بالتأكيد.
لا يقل سوءا عن ذلك تماهي الفصائل الفلسطينية مع ذلك الخطاب، والتغطية على حيثيات ودلالات وتداعيات الانقسام والاقتتال والثورات المضادة، والزعم أن بالإمكان تحرير فلسطين انطلاقا من غزة المحاصرة والمستنزفة، عبر التحالف مع محور "الاستبداد" المقاومة المزعوم، الذي يضم نظام بشار الأسد، والذي يفضح الرواية السردية كلها، كونه وريث أحد رموز نكبة حزيران، وهو الذي قتل مليون مواطن، وشرّد عشرة ملايين، ودمّر نصف البلاد، للاحتفاظ بالسلطة صورياً فقط، وبحماية الغزاة الأجانب. فكيف بإمكان نظامٍ كهذا أن يكون شريكا في التحرير وإزالة أثار النكبتين، والزعم أن زمن تحرير فلسطين التاريخية بات قريباً.
لا بد من الانتباه كذلك إلى ضرورة إلقاء نظرةٍ على السياق الإسرائيلي لنكبة حزيران، إذ مثلت ذروة ومنحنى العلو والهبوط أيضا، وكانت سكرة القوة والعجز عن تصديق الانتصار المهول، وتفسيره بمفاهيمٍ واقعيةٍ وسياسيةٍ وعسكريةٍ ومنطقيةٍ، والذهاب إلى أساطيرٍ وهميةٍ عن شعب الله المختار، والمعجزات الغيبية هي سبب مباشر لصعود اليمين المسيحاني المتطرف، الذي يأخذ إسرائيل كلها نحو الانهيار، حسب النبوءة الشهيرة للمؤسس ديفيد بن غوريون "أعطهم السلطة يدمرون الدولة".
هذا يحدث الان فعلاً، وعليه بتنا بحاجة؛ أكثر من أي من وقتٍ مضى، إلى الاصطفاف والتكاتف بعيدا عن الذهنية والأجواء الحزيرانية، في سياقاتها الفلسطينية والعربية، علما أن الصمود الأسطوري مستمر منذ قرنٍ في مواجهة الاستعمار وقوته الهائلة، مع الانتباه كذلك إلى أن الردّ الفلسطيني على النكبة الأولى كان عبر الرواية والذاكرة الجماعية العصية على النسيان، ثم عبر منظمة التحرير، باعتبارها الوطن المعنوي لنا جميعا. وعلى النكبة الثانية عبر الثورة المعاصرة، ومعركة الكرامة 1968، التي نعيش أجواءها وروحها الآن في القدس وجنين ونابلس وغزة، ما يؤكد أن إسرائيل عاجزةٌ عن هزيمتنا أو فرض الاستسلام علينا، في الميدان أو حتّى على الطاولة. أما انتصارنا نحن فقصةٌ أخرى، تقتضي بالضرورة الإقلاع عن الأجواء الحزيرانية، والنكبات المتوالدة عنها، وفق العبارة البليغة والصحيحة لألبرت أينشتاين "الغباء هو تكرار التجربة بنفس الأدوات على أمل الحصول على نتائج مختلفة".