طفت أزمة سياسية جديدة بين الجزائر وباريس، على خلفية قرار فرنسي يقضي بالحد من تنقل الجزائريين إليها وخفض عدد التأشيرات الممنوحة، في خطوة وصفتها الجزائر بمحاولة "فرض أمر واقع"، وسط مناخ من التوترات السياسية الطارئة بين البلدين منذ عامين.
وأعلنت الحكومة الجزائرية إيفاد وفد رسمي إلى باريس لإجراء محادثات مع السلطات الفرنسية بشأن ملف المهاجرين المقيمين بطريقة غير قانونية في فرنسا، والعالقين الذين تريد السلطات الفرنسية ترحليهم إلى الجزائر.
ويسعى الوفد الجزائري إلى وضع قائمة بأسماء المعنيين بقرارات الطرد والترحيل من فرنسا، بهدف التثبت من هوياتهم قبل اتخاذ قرار استقبالهم والموافقة على نقلهم إلى الجزائر.
وقال مساعد وزير الخارجية المكلف بقضية الصحراء والمغرب العربي عمار بلاني، في تصريح نقلته وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، أمس الثلاثاء، إنّ "وفداً جزائرياً يغادر إلى باريس من أجل جرد جميع الحالات المعلقة (من الرعايا) وتحديد طريقة العمل الأكثر إرضاء من أجل تعزيز التعاون في مجال إدارة الهجرة غير النظامية".
وعبّر بلاني عبر عن مفاجأة الجزائر بالقرار الفرنسي الذي وصفه بأنه "أحادي الجانب وغير المتناسب"، والقاضي بخفض عدد التأشيرات الممنوحة للرعايا الجزائريين، مضيفاً أنّ "البعد الإنساني في الأساس يقع في صميم خصوصيات العلاقة الجزائرية الفرنسية والشراكة الاستثنائية التي تربط البلدين، لا سيما إدارة التدفقات البشرية التي تتطلب تعاوناً صريحاً ومفتوحاً موسوماً بروح الشراكة".
ولا تنفصل الخطوة الفرنسية عن سلسلة أزمات سياسية وتوترات بين البلدين، إذ أقرّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بها قبل فترة عندما أكد أنّ "العلاقات الفرنسية الجزائرية ليست على ما يرام"، خاصة بعد قرار الرئاسة الجزائرية إلغاء زيارة كانت مقررة لرئيس الحكومة الفرنسية جون كاستيكس إلى الجزائر في إبريل/نيسان الماضي.
وتتهم الجزائر باريس بمحاولة "فرض الأمر الواقع" في ملف المهاجرين بعد إعلان المتحدث باسم الحكومة الفرنسية غابريال أتال، أمس الثلاثاء، عن قرار يقضي بتقليص حصة التأشيرات الممنوحة للرعايا الجزائريين بنسبة 50% خلال الأسابيع المقبلة، ومثلها للرعايا المغاربة وبنسبة أخرى للرعايا التونسيين، بسبب ما وصفه "رفض هذه الدول التعاون" مع السلطات الفرنسية والمماطلة في إصدار التراخيص القنصلية التي تسمح بترحيل المهاجرين غير شرعيين وإعادتهم إلى بلدانهم.
ويشير هذا القرار إلى أنّ السلطات الفرنسية التي تعاني من عدم تعاون القنصليات الجزائرية معها في الموضوع، قدّرت أنّ وسيلة الضغط الوحيدة على الجزائر لدفعها للقبول باستقبال مهاجرين غير مرغوب في بقائهم في فرنسا هي تخفيض عدد التأشيرات، وبالتالي خفض عدد الجزائريين القادمين إلى فرنسا.
وفي الغالب وبعد استنفاد المهاجر لكافة الطعون أمام المحاكم لإبطال قرار الترحيل، تطلب السلطات الفرنسية من القنصليات الجزائرية الـ 19 الموجودة في فرنسا إصدار رخصة سفر قنصلية تعوض عن جواز السفر المفقود أو المنتهي الصلاحية بالنسبة للمهاجر، لكن القنصليات الجزائرية تتعاطى مع هذه الطلبات بحساسية بالغة، وتبرر ذلك بعدم تأكدها من هوية المهاجر المطلوب ترحيله، فيما تحدد وزارة الداخلية الفرنسية سقفاً لعدد المهاجرين الذين يوجدون في وضع غير قانوني والواجب ترحيلهم سنوياً.
وتشير البيانات إلى أنّ عدد الجزائريين الذين نجحت السلطات الفرنسية في ترحيلهم لم يتجاوز 0.03% من طلبات الترحيل، حيث لا تستجيب السلطات الجزائرية للطلبات الفرنسية.
كيف تبرر الجزائر مسألة إعادة رعاياها من المهاجرين في فرنسا؟
تبرر الجزائر تعطل ترحيل رعاياها بوجود "إجراءات احتياطية ضرورية ولازمة تتطلب وقتاً وتتعلق بضرورة إثبات هوية المعني، لأنّه يحتمل أن يكون ضمن أشخاص يشكلون خطراً على أمن البلاد على غرار الإرهابيين والمجرمين وهؤلاء يخفون هوياتهم، ولذلك يحدث تأخر في تحديد هويتهم من قبل السلطات القنصلية"، بحسب ما يقول مصدر دبلوماسي جزائري رفيع المستوى لـ"العربي الجديد"، اليوم الأربعاء.
ويضيف المصدر، مفضّلاً عدم الكشف عن هويته، أنّ "إجراءات الترحيل تتخذ بعد تحديد السلطات القضائية هوية الواجب ترحيلهم رسمياً"، مشيراً إلى أنّ "الجزائر لم ترفض أبداً إعادة قبول المواطنين المطرودين من فرنسا بموجب إجراءات قانونية"، موضحاً أنّ "إنشاء تصريح قنصلي (وثيقة سفر مؤقتة) لصالح الشخص المطرود، يجب أولاً تحديده وفقاً للوائح داخل الاتحاد الأوروبي والقوانين الجزائرية والاتفاقيات الثنائية بين الجزائر وباريس".
ووقعت اتفاقية قنصلية لأول مرة عام 1968 لتنظيم العلاقات وحركة التنقل بين البلدين، إذ كان الجزائريون قبل ذلك يتنقلون إلى فرنسا ببطاقة تعريف بدون جواز سفر حتى إلى غاية عام 1986، إلا أنه بعد التفجيرات التي نفّذتها حركة "مجاهدي خلق" في فرنسا، جرى فرض التأشيرة بعد إجراء أول تعديل على الاتفاقية القنصلية نص على فرض التأشيرة على الرعايا الجزائريين.
في عام 1993 نصّ تعديل ثانٍ على اشتراط حصول الطلبة والجزائريين الراغبين في البقاء في فرنسا على تأشيرة خاصة من صنف (دي) بشروط تعجيزية، إذ بات من الواضح أنّ باريس استغلت ظروف الفوضى السياسية التي كانت تعيشها الجزائر بعد توقيف المسار الانتخابي وحلّ البرلمان واندلاع الأزمة الأمنية، لفرض شروطها في التعديل، بينما كان يفترض ألا توقع الجزائر على ذلك لعدم وجود برلمان ومؤسسات الدولة الدستورية المخول لها المصادقة على الاتفاقيات الدولية.
وفي عام 1998، صدر قانون في فرنسا يسمح بتسوية وضعية آلاف الأجانب باستثناء الجزائريين، لكون الجزائريين يخضعون لاتفاقية قنصلية مشتركة، وهو ما حوّل الجزائريين من أصحاب امتياز قنصلي في فرنسا إلى وضعية مزرية، بما فيهم الجزائريون الذين كانوا يتزوجون بفرنسية، إذ لم يكن ممكناً تسوية وضعيتهم حتى التعديل الثالث للاتفاقية القنصلية عام 2002 والذي سمح بذلك.
ورأى عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الجزائري والنائب عن الجالية في شمال فرنسا عبد الوهاب يعقوبي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ القرار الفرنسي يأتي ضمن السياقات الانتخابية الجارية في فرنسا تحضيراً للانتخابات الرئاسية 2022، مشيراً إلى أنّ "الفرنسيين لم يستوعبوا تسيير العدد الكبير من المهاجرين في الفترة الأخيرة".
ولفت إلى أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والحكومة الحالية "اتخذت القرار تحت الضغط الانتخابي"، معتبراً أنها "تريد إعطاء جرعة يمينية للانتخابات بهدف استقطاب الكتلة اليمينية، وبالتالي إضعاف حزب مارين لوبان (الجبهة الوطنية) الذي يعد أبرز منافس لحزب ماكرون والأحزاب الأخرى، إضافة لسحب أكبر ملف يزايد به حزب لوبان وهو ملف المهاجرين وخفض أعدادهم في فرنسا".
وأشار يعقوبي إلى أنّ القرار الفرنسي بخفض عدد التأشيرات للجزائريين "يعد جزءاً من المناوشة السياسية التي تبديها فرنسا إزاء الجزائر، خاصة منذ الحراك الشعبي الذي فرض مسارات تعتبر فرنسا أنها لا تخدم مصالحها".
وقال إنّ "الفرنسيين يقدّمون مبررات واهية للقرار، وهي مبررات لا تصمد كثيراً ومناقضة لطبيعة التاريخ المشترك بين البلدين"، معرباً عن اعتقاده بأنه "يتعيّن على فرنسا استيعاب المقيمين غير الشرعيين"، داعياً الدبلوماسية الجزائرية إلى "العمل على إفراد وضعية مميزة للجزائريين في فرنسا".
وبدأت باريس عملياً في تطبيق القرار مبكراً، ففيما بلغ عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين عام 2019 مستوى قياسياً بأكثر من 275 ألف تأشيرة، انخفضت إلى ثلثي الطلبات عام 2020 بواقع 94 ألفاً فقط. أما خلال النصف الأول من عام 2021، فمنحت فرنسا تأشيرتين من أصل ثلاثة طلبات تأشيرة قُدّمت من الجزائر.