شهدت العلاقات الصينية الأميركية تحسناً نسبياً لفترة وجيزة بعد اجتماع الرئيس الصيني شي جين بينغ بنظيره الأميركي جو بايدن، في إندونيسيا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. لكن التصريحات الإيجابية المعلنة آنذاك اتضح سريعاً أنها لم تكن سوى مادة للاستهلاك الإعلامي، فبينما كان العالم يترقب زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى بكين، في 5 و6 فبراير/شباط الحالي، لكسر الجليد في العلاقات، برزت أزمة المنطاد الصيني الذي أُسقط في الأجواء الأميركية، لتؤكد أن الفجوة لا تزال كبيرة بين البلدين، وأن الحديث عن بناء الثقة وتعزيز العلاقات، من خلال زيادة قنوات الاتصال والحوار، لا مكان له في أجواء مشحونة بالوعيد والتهديد.
وعلى الرغم من أن بايدن تحدث قبل أيام عن "العمل مع الصين"، في خطابه عن حالة الاتحاد في مبنى الكابيتول في واشنطن، فإن المواجهة، حسب خبراء، ستكون الموضوع الرئيسي للعلاقة بين الصين والولايات المتحدة، خصوصاً في ظل الضغوط التي يمارسها الجمهوريون، والتي دفعت بطبيعة الحال بايدن إلى استخدام القوة في إسقاط البالون الصيني، الأمر الذي أثار غضب بكين.
في المقابل، وعلى الرغم من المطالب الصينية بتفعيل قنوات الحوار بين الطرفين بشأن أزمة المنطاد، فإن ذلك لا يخفي دعوات شعبية وحزبية للرد على السلوك الأميركي (إسقاط المنطاد بالقوة العسكرية)، وعدم تسوية الأزمة من دون رد الاعتبار لهيبة الدولة وصورتها في الداخل والخارج.
أعلن بايدن، في تصريحات مساء الخميس، أنه يعتزم التحدث إلى نظيره الصيني بشأن المنطاد. وفيما شدد على أن الولايات المتحدة "لا تريد حرباً باردة جديدة"، قال بايدن إنه "لم يعتذر عن إسقاط هذا المنطاد".
وأضاف: "سنعمل دائماً على حماية مصالح الشعب الأميركي وأمنه". وأكد بايدن أن إدارته "استمرت في التواصل مع الصين" خلال حادثة المنطاد، مكرراً قوله "نسعى إلى المنافسة وليس إلى الصراع".
ونوه إلى أن الحادثة تؤكد "أهمية الحفاظ على خطوط اتصال مفتوحة بين دبلوماسيينا وخبرائنا العسكريين".
في المقابل، قال المتحدث باسم الخارجية الصينية وانغ وين بين، في إفادة للصحافيين اليوم الجمعة، إن الولايات المتحدة لا يمكنها طلب التواصل والحوار بينما تصعّد الأمور بشأن حادثة المنطاد. واعتبر أن "الولايات المتحدة بحاجة للعمل مع بكين بشأن الواقعة وإعادة العلاقات إلى الاستقرار".
وفي تطور جديد قد يأجج الخلافات بين بكين وواشنطن، نقلت صحيفة "فاينانشال تايمز" أمس، عن مصدر لم تسمه، أن كبير مسؤولي الشأن الصيني في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) نائب مساعد وزير الدفاع مايكل تشيس وصل إلى تايوان، اليوم الجمعة. وبهذا سيكون تشيس أكبر مسؤول دفاعي أميركي يزور الجزيرة منذ عام 2019.
لا تنازلات صينية
وفي تعليقه على هذه الأزمة، قال الباحث الصيني في العلاقات الدولية وانغ تشي بينغ، في حديث مع "العربي الجديد"، إن تصوير واشنطن لأزمة المنطاد أنها مؤشر على نظام التجسس الصيني، واعتبار ذلك تهديداً لأمن الدول الحليفة للولايات المتحدة، ومن ثم القيام بخطوة غير مسبوقة من خلال استهداف البالون بالقوة المفرطة، لا يمكن أن تمر من دون حساب بالنسبة لبكين.
بينغ: عدم الرد على استهداف المنطاد سيُعتبر ضعفاً وتنازلاً، وهو ما يتناقض مع الصورة التي تسعى وسائل الإعلام الرسمية الصينية إلى تكريسها وتثبيتها لدى الرأي العام، في أن القيادة لا يمكن أن تتسامح مع أي تجاوز في حق البلاد، وإنها ليست على استعداد للمساومة.
وأضاف أن تمرير ذلك سيُعتبر ضعفاً وتنازلاً، وهو ما يتناقض مع الصورة التي تسعى وسائل الإعلام الرسمية الصينية إلى تكريسها وتثبيتها لدى الرأي العام، في أن القيادة لا يمكن أن تتسامح مع أي تجاوز في حق البلاد، وإنها ليست على استعداد للمساومة.
ولفت الباحث إلى أن لهذا الاعتبار بُعداً يتعلق بتاريخ الصين السابق لتأسيس الحزب الشيوعي عام 1921، إذ دفعت البلاد أثماناً باهظة بسبب ضعف قياداتها وخضوعهم لابتزاز القوى الاستعمارية، وقد شمل ذلك التنازل عن أجزاء من أراضيها، مثل جزيرة هونغ كونغ.
وأوضح أن الدولة الصينية تعلّمت الدرس جيداً، وهي على استعداد دائم للدفاع عن سيادتها وكرامتها، حتى وإن تعلّق الأمر باستهداف بالون خارج حدودها. وأشار إلى أن تعامل بكين مع قضية بحر الصين الجنوبي يُعتبر مثالاً عن التصرف في مواقف كهذه تستدعي الحسم والحزم.
وفي تعليقه على دعوة الخارجية الصينية إلى خفض التوتر وحل الخلافات بالحوار، قال الباحث الصيني إنه ليس بالضرورة أن يكون التصعيد في القنوات الدبلوماسية. وعن توقعاته بشأن الخطوات المقبلة، أوضح أن لدى الولايات المتحدة العديد من المصالح الاستراتيجية في المنطقة قد تكون عرضة للاستهداف، وقد يكون مضيق تايوان مسرحاً للأحداث، خصوصاً إذا أصرت واشنطن على زيارة مسؤوليها إلى الجزيرة في هذا التوقيت الحساس.
يانغ: لجوء إدارة بايدن إلى القوة المفرطة كان مؤشراً على مدى تأثير دعوات الجمهوريين للانتقام، الأمر الذي لم يترك مجالاً للحلول الدبلوماسية.
مواجهة حتمية
من جهته، قال الأستاذ في معهد تسيونغ كوان للدراسات والأبحاث (مقره هونغ كونغ) لي يانغ، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه على الرغم من الاختلافات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول معظم القضايا السياسية في الولايات المتحدة، فإن تحدي الهيمنة الصينية يعتبر القاسم المشترك بينهما. ولفت إلى أن ذلك تجلّى في أكثر من مناسبة، آخرها أزمة منطاد التجسس الصيني وطريقة التعامل معها.
وأضاف أن لجوء إدارة بايدن إلى القوة المفرطة (لإسقاط المنطاد) كان مؤشراً على مدى تأثير دعوات الجمهوريين للانتقام، الأمر الذي لم يترك مجالاً للحلول الدبلوماسية.
وتابع أن التنافس بين الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) بات ينحصر في من هو أكثر تشدداً تجاه الصين، وأن التهديدات المستمرة لن تخلق إلا المزيد من حالة الإرباك في المشهد الأميركي، تماماً كما يحدث حين يتعلق الأمر بروسيا أو إيران.
وأوضح أن ذلك لا يعني أن الصين ضحية ولا تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن دخول المنطاد الأجواء الأميركية بغض النظر عن غايته، ولكن طريقة تعامل إدارة بايدن مع الأزمة تفتقر إلى الدبلوماسية، على حد قوله، ولن تصدّر إلا مزيداً من الهستيريا للمجتمع الأميركي، ما قد يدفع باتجاه مواجهة مفتوحة بين قوتين كبيرتين قد تشعل فتيل حرب عالمية ثالثة.
واستدرك بأن إخفاق الجانبين في التعامل مع الأزمة يؤكد مدى الحاجة إلى تفعيل قنوات خلفية لخفض التوتر وإدارة التنافس بعيداً عن خطوط المواجهة. ولفت إلى أنه في حال لم يتم توخي الحذر وتفعيل هذه القنوات، فستكون لأي صدام محتمل بين بكين وواشنطن تداعيات كارثية، ليس فقط على كلا البلدين، بل على جميع دول العالم.
في المقابل، يرى فريق أن أزمة المنطاد ربما تكون مفتعلة لمنع عقد اجتماع دبلوماسي بين الجانبين، إذ اضطر بلينكن إلى تأجيل اجتماع رفيع المستوى قبل يوم واحد من زيارة مقررة إلى بكين. ويستند هذا الفريق في طرحه إلى كبر حجم المنطاد الصيني، وكأن الهدف المعلن أن يُشاهد فوق الأجواء الأميركية، في حين أن هناك وسائل أخرى للتجسس أكثر قدرة على التخفي. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فهناك تأكيدات من وزارة الدفاع على عدم خطورة المنطاد على الأمن القومي، وبالتالي، لم يكن هناك أي مبرر لاستخدام القوة المفرطة في إسقاطه، وفق هذا الفريق.