كان أمس الثلاثاء افتتاح الكونغرس الأميركي الجديد بانتخاب رئيس مجلس نوابه الذي تختاره الأغلبية، لكن الحزب الجمهوري فشل في المهمة رغم سيطرته على الأكثرية (222 مقابل 212 وواحد متوفى من أصل 435 عضواً). الانقسام الحاد في صفوفه حرم مرشحه الوحيد النائب كيفن مكارثي من التأييد المطلوب بعد وقوف 20 من زملائه ضده في ثلاث جولات اقتراع، رفعت بعدها الجلسة لتستأنف اليوم الأربعاء.
وبذلك تعطل الافتتاح وبقي المجلس معلقاً طالما لا رئيس له، وقد يستمر ذلك حتى إشعار آخر إذا بقيت المعادلة على حالها. فلا مكارثي في صدد الانسحاب، كما قال، ولا بديل له حتى الآن من بين مؤيديه الذين يشكلون الغالبية، كما لا يقوى خصومه من أقصى اليمين المحافظ على طرح مرشح منافس، ناهيك بتمريره. وفي ذلك احتمال لأزمة حكم.
هذا الخلل ليس بجديد، له سوابق؛ إذ حصل 5 مرات في تاريخ الكونغرس. أبرزها عام 1856 عشية الحرب الأهلية، عندما استمرت الأزمة لمدة شهرين جرت خلالها 133 جولة تصويت قبل التوصل إلى اختيار رئيس جمهوري للمجلس. وكان الاستعصاء آنذاك ناشئاً عن الخلاف الكبير حول قضية العبودية. ثم تكررت عام 1923 وبقي المأزق يجرجر لمدة شهرين أيضاً لينتهي برئيس جمهوري للمجلس بعد 9 جولات تصويت.
ما يميّز العقدة الراهنة أنّ جذورها تعود إلى أزمة انتخابات الرئاسة 2020 الفريدة من نوعها في التاريخ الأميركي والتي أدت إلى اقتحام غير مسبوق لمبنى الكونغرس قبل سنتين. الرئيس السابق دونالد ترامب يصرّ مع فريقه في الكونغرس على تصفية حساباته. صحيح أنّ قاعدته الانتخابية انحسرت كما كشفت الانتخابات النصفية وبما أدى إلى تقليص تمثيلها في مجلسي الكونغرس، لكن حضورها خاصة في مجلس النواب مكّنها بالرغم من ضآلته، من الإمساك بمفتاح القرار في انتخاب رئيسه خاصة في مجلس النواب. 9 نواب كانوا كافين لشل عملية انتخاب رئيسه الذي يحتاج إلى 218 صوتاً مؤيداً له بالاسم، أو إلى 213 صوتاً لو ارتضى هؤلاء التسعة الامتناع عن التصويت.
والمعروف أنّ الإصرار على "عرقلة" العملية لا يعود لخلافات جوهرية مع المرشح مكارثي. كلاهما من نفس الخندق، علماً أنّ ترامب في البداية منحه تأييده ولو أنه تراجع اليوم عن دعمه. فهو بالنهاية مع المعرقلين الذين سبق لأحدهم أن رشح ترامب لرئاسة مجلس النواب.
يُذكر أنّ صاحب هذا الموقع الهام الذي يمثل المرتبة الثالثة في هرمية الحكم بعد الرئيس ونائبه، يمكن أن يكون من خارج مجلس النواب لو تمكن من حشد التأييد المطلوب له. نسف العملية، تحركه على ما يبدو حسابات أخرى للانتقام من جو بايدن والانتخابات التي جاءت به وذلك عبر تقويض العمل في المؤسسات وبالتحديد في أحد مجلسي الكونغرس على الأقل.
مجلس النواب بدون رئيس لا يعمل، يتولى تسيير إجراءاته الإدارية "كاتب الدولة لشؤون الكونغرس"، الذي اختارته رئيسة مجلس النواب المنتهية صلاحياتها نانسي بيلوسي. حركة التشريع فيه متوقفة في وضعه الحالي. وبدونه يبقى عمل مجلس الشيوخ غير مكتمل، وبالتالي تتوقف ماكينة السلطة التشريعية ولغاية الخروج من المأزق.
من المخارج إذا استمر الاستعصاء، أن يحصل تحالف محدود بين الجمهوريين والديمقراطيين للمجيء برئيس "تسوية" لمجلس النواب. مكارثي صار بحكم المستبعد، والحزب الجمهوري، أو بالأحرى بقاياه، غير قادر على إنقاذ قيادته العاجزة والتي تنتابها حالة من الضياع.
الانطباع الذي تكوّن أنّ الحزب الجمهوري "نسي كيف يحكم"، فهو الآن يدفع ثمن تسليم دفة أموره للرئيس ترامب. تخبطه جاء كهدية سياسية على طبق من فضة للرئيس بايدن. لكن الإدارة لن تنجو من تداعيات الفوضى السائدة، خصوصاً انعكاساتها على الصعيد الدولي، وبالأخص إذا طالت الأزمة التي ينوي الجناح الجمهوري المشاكس إطالتها.