أزمة فرنسا تتفاقم: تحايل ماكرون وخلافات اليسار وغموض الدستور

14 يوليو 2024
ماكرون خلال اقتراعه بالانتخابات، 7 يوليو 2024 (محمد بدرة/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تعقيد الأزمة السياسية في فرنسا**: فوز نسبي لليسار في الانتخابات البرلمانية، ورفض ماكرون تسمية شخصية من التحالف اليساري "الجبهة الشعبية الجديدة" لتأليف حكومة، مما زاد من تعقيد الأزمة.

- **الخلافات داخل الجبهة اليسارية**: فشلت الجبهة اليسارية في الاتفاق على مرشح لتأليف الحكومة، حيث تباينت الآراء بين حزبي "فرنسا غير الخاضعة" والحزب الاشتراكي حول البرنامج الحكومي واسم رئيس الحكومة.

- **ردود فعل ماكرون وتداعياتها**: دعا ماكرون إلى تشكيل حكومة ائتلافية واسعة، مستثنياً اليمين واليسار المتطرفين، مما أثار غضب الجبهة اليسارية. الأزمة قد تنتقل إلى الشارع مع دعوات للإضراب والتظاهر.

بعد مضي أسبوع على مفاجأة الدورة الثانية من الانتخابات البرلمانية التي أعطت اليسار فوزاً نسبياً، بدا أن أزمة فرنسا السياسية ازدادت تعقيداً على ضوء ثلاثة معطيات: الأول التفاف الرئيس إيمانويل ماكرون على النتيجة برفضه تسمية شخصية من التحالف اليساري الفائز، "الجبهة الشعبية الجديدة"، لتأليف حكومة بموجب تقاليد الجمهورية الخامسة السارية منذ 1958 القائمة على تسمية تلقائية لممثل عن الكتلة الفائزة في الانتخابات التشريعية لتأليف حكومة.

والمعطى الثاني عجز الجبهة اليسارية عن تسمية إحدى شخصياتها لتقديمها إلى الإليزيه بوصفها المرشحة الموحدة لتأليف حكومة. والثالث غموض الدستور الفرنسي في ما يتعلق بعدم إلزام الرئيس تسمية سياسي من الطرف الفائز في الانتخابات، وإن بغالبية بسيطة، لتأليف حكومة، وهو ما يستغله ماكرون في المماطلة أملاً في تفتت الجبهة اليسارية وتأليف ما يسميها حكومة توافقية، أو ائتلافية، على طريقته، التي ابتدعها بوصوله إلى الرئاسة عام 2017 بوصفه "لا يمين ولا يسار"، ومحاولته تغيير قواعد السياسة الفرنسية القائمة على هذه الثنائية، أي اليسار واليمين وما بينهما من وسط.

فشل المفاوضات لحل أزمة فرنسا

وفي إطار أزمة فرنسا، فشلت مفاوضات أطراف الجبهة اليسارية حتى الآن في الاتفاق على تسمية مرشح عنها لتأليف حكومة، بعد فوزها بـ182 نائباً، يضاف إليهم 11 يسارياً مستقلاً من خارج "الجبهة الشعبية الجديدة"، من أصل 577 هو مجموع نواب الجمعية الوطنية (الغرفة الأهم من البرلمان).

جان بيار بيتو: وجود ثلاث كتل نيابية متقاربة يتيح لماكرون عدم اتخاذ أي قرار لتسمية رئيس الحكومة المقبلة

الخلاف الأساسي داخل "الجبهة الشعبية" هو بين حزبي "فرنسا غير الخاضعة" بزعامة جان لوك ميلانشون، والحزب الاشتراكي الذي يقوده أوليفييه فور، حول عنوانين رئيسيين، هما صيغة البرنامج الذي يجب أن تعتمده الحكومة، واسم رئيسها المفترض. ولم تنجح المساعي التي بذلتها الأمينة العامة الوطنية لحزب الخضر مارتين توندولييه في تقريب وجهات النظر بين الطرفين.

ومنذ اللحظات الأولى التي أعقبت صدور نتائج الانتخابات، أعلن ميلانشون أنّ على الحكومة اعتماد البرنامج الانتخابي للجبهة الموحدة وتطبيقه بحذافيره. كما أشار إلى أن إحراز حزبه أكبر عدد من المقاعد النيابية (75) مقارنة مع شركائه من اشتراكيين (65) وبيئيين (33) وشيوعيين (9) يخوله اختيار شخصية من صفوفه لتولي رئاسة الحكومة. في المقابل، دعا أوليفييه فور إلى إعادة صياغة برنامج حكومي حول المحاور الرئيسية المعيشية والاقتصادية، التي تمثل أولوية بالنسبة إلى الفرنسيين والتعويض عن كون الحكومة ستكون حكومة أقلية، ببرنامج يجب أن يحظى بغالبية من التأييد، لذلك يجب أن يكون اسم رئيسها مقبولاً لا يواجَه بمعارضة فورية في الوسط السياسي.

صورة أزمة فرنسا لا تبدو أكثر إشراقاً على الطرف الآخر، أي تحالف "معاً من أجل الجمهورية" الوسطي الموالي للرئيس الفرنسي، الذي حل في المرتبة الثانية مع 163 مقعداً نيابياً، وسط بوادر انقسام في صفوفه. فقد أعرب رئيس الحكومة غابرييل أتال، الذي قاد الحملة الانتخابية للتحالف، عن شجبه القرار الذي اتخذه ماكرون بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة لكبح تقدم "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، الذي كان أحرز تقدماً كاسحاً في الانتخابات الأوروبية في 9 يونيو/حزيران الماضي مع نحو 32 في المائة من الأصوات. وأجاز هذا الموقف التكهن بأن أتال بصدد الابتعاد عن ماكرون، وسلوك دربه السياسي الخاص، وهو ما فتح شهية شخصيات أخرى، منها وزير الداخلية جيرالد دارمانان، للسير على درب التمييز، فيما بات الابتعاد قائماً عملياً مع رئيس الحكومة السابق إدوار فيليب، الذي لم يعد يخفي طموحه لخلافة الرئيس في الانتخابات الرئاسية عام 2027.

وسط هذه الأجواء، قرر ماكرون الخروج عن الصمت الذي كان التزمه عقب الانتخابات. ووجّه يوم الأربعاء الماضي رسالة إلى الفرنسيين يدعو فيها البرلمان الجديد للتشاور والتحاور بهدف تشكيل حكومة ائتلافية واسعة النطاق، تضم شخصيات من القوى السياسية المختلفة، باستثناء اليمين واليسار المتطرفين بحسب وصفه، تكريساً لمحاولة وضع "التجمع الوطني" اليميني المتطرف على قدم المساواة لناحية الخطر مع "فرنسا غير الخاضعة" اليسارية الراديكالية.

ماكرون يصب الزيت على النار

وبدلاً من دفع الأوضاع نحو التهدئة، فإن هذه الرسالة صبّت الزيت على نار أزمة فرنسا، إذ إن ماكرون اعتبر في رسالته أن أياً من القوى السياسية لم يفز في هذه الانتخابات، وذلك ما يراه كثر في فرنسا "سرقة" لفوز تحقق بالفعل للجبهة اليسارية، وإن كان نسبياً مثل ما سبق لحزب ماكرون نفسه أن فاز في انتخابات سابقة بغالبية نسبية، وألّف على أساسها حكومات من دون أن تسري عليها "بدعة" أن الفوز النسبي بالانتخابات ليس فوزاً.

جيروم جافريه: الانتخابات أدت إلى ابتعاد الجمهورية الخامسة عن هندستها الفعلية

واعتبر مسؤولو الجبهة اليسارية ومناصروها أن ماكرون يسعى إلى الالتفاف على النصر الانتخابي الذي حققوه، والمراهنة على عامل الوقت لتأجيج الخلافات في صفوف الجبهة أملاً في انهيارها، ما يجنّبه الدخول في حقبة تعايش مع حكومة يسارية. ونتيجة لهذا السلوك من الرئيس الفرنسي، من المرتقب أن يشهد الأسبوع المقبل انتقال أزمة فرنسا إلى الشارع بعد دعوة رئيسة اتحاد نقابات "سي جي تيه" صوفي بينيه إلى الاضراب والتظاهر أمام مقر البرلمان الفرنسي يوم الخميس المقبل، وهو موعد عقد البرلمان الجديد جلسته الأولى، للمطالبة بتعيين رئيس للحكومة من صف الجبهة اليسارية احتراماً لنتيجة الانتخابات المبكرة.

ثلاث كتل نيابية متقاربة

ورأى العالم السياسي الفرنسي جان بيار بيتو، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن المشهد يُظهر وجود ثلاث كتل نيابية متقاربة من حيث عدد المقاعد، رغم حلول "الجبهة الشعبية الجديدة" اليسارية في المقدمة، وهو ما يمثّل سابقة سياسية ودستورية. هذه النتائج تتيح، برأيه، لماكرون عدم اتخاذ أي قرار لتسمية رئيس الحكومة المقبلة في غياب أي بند دستوري يلزمه بذلك، في غياب الغالبية المطلقة (289)، لكن المادة الثامنة من الدستور تخوّله تسمية من يشاء لتشكيل حكومة تقنيين، أو حكومة إنقاذ وطني، في حال انسداد الأفق أمام القوى النيابية. واعتبر بيتو أن لكل من هذه القوى الثلاث قدرة على التعطيل تفوق قدرتها على دفع أزمة فرنسا نحو الحل، وهو ما يمثل معضلة سياسية فعلية من الممكن إيجاد مخارج لها من خلال مواد الدستور، لكن هذه المواد مفتوحة على اجتهادات مختلفة ومتفاوتة.

في المقابل، رأى المحلل السياسي جيروم جافريه، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الانتخابات الأخيرة أدت الى ابتعاد الجمهورية الخامسة عن هندستها الفعلية، من خلال تقويض الموقع الرئاسي، ومن ثم الموقع الحكومي، إذ إن الناخبين اقترعوا لمنع اليمين المتطرف من الفوز ولم يقترعوا من أجل غالبية برلمانية، ما يؤدي بدوره إلى تقويض البرلمان وجعله عرضة لسلطة الأحزاب المختلفة في ظل عدم وجود غالبية برلمانية واضحة.

أما المتخصصة في الشؤون الدستورية آن-شارلين بازين فأشارت، في اتصال مع "العربي الجديد"، إلى أن عدم وجود غالبية برلمانية مطلقة كفيل بفرض الشلل على عمل البرلمان، ويزعزع الاستقرار الحكومي بحيث تتوالى على الحكم طواقم وزارية متعاقبة، سرعان ما تتهاوى تحت وطأة حجب النواب ثقتهم عنها. وفي غياب أي مؤشر على حل أزمة فرنسا قريباً، صرح رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي جيرار لارشيه أنه من المتوجب التمهل بعض الوقت. وأشار إلى أنه أبلغ ماكرون بموقفه الذي يقضي "بالتريث لما بعد انتهاء الألعاب الأولمبية" (26 يوليو/تموز الحالي حتى 11 أغسطس/آب المقبل) التي تستضيفها فرنسا و"من ثم العمل ابتداء من سبتمبر/أيلول المقبل لإرساء ما هو متوجب استناداً إلى النتائج الانتخابية".