أسبوع حافل في البرلمان البريطاني عبر فيه النواب عن تصوراتهم لـ"بريكست" وخطوطهم الحمراء بشأن الاتفاق المقبول بالنسبة إليهم، لكنهم لم يجمعوا على خطوة تقود البلاد إلى الأمام. وبعد ثلاث جلسات تصويت حافلة، رفض المشرعون البريطانيون اتفاق رئيسة الوزراء تيريزا ماي لبريكست للمرة الثانية، وأعربوا عن رفضهم التام للخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق. وانتهى بهم المطاف إلى إقرار تأجيل موعد بريكست لمدة ثلاثة أشهر على الأقل. وأقر البرلمان البريطاني، مساء أول من أمس، مقترحاً حكومياً ينص على تأجيل موعد بريكست من نهاية مارس/آذار الحالي، إلى نهاية يونيو/حزيران المقبل، وبأغلبية 210 أصوات، إذ صوت لصالحه 412 نائباً مقابل 202 ضد التمديد. وبينما عكس التصويت حجم الانقسامات داخل الحكومة البريطانية، حيث صوت عدد من الوزراء ضد المقترح الحكومي، تتجه ماي لعرض صفقتها على برلمان وستمنستر للمرة الثالثة في مقامرة ترهن فيها مستقبلها السياسي.
وينص المقترح الحكومي، الذي نال ثقة البرلمان، على أن تقوم رئيسة الوزراء بالطلب من الاتحاد الأوروبي تأجيل موعد بريكست إلى ما بعد 29 مارس الحالي، بعد أن رفض البرلمان خيارات بريكست المتاحة. وفي حال وجود إجماع على اتفاق للخروج من الاتحاد بحلول العشرين من الشهر الحالي، فإن الاتحاد الأوروبي سيوافق على تمديد تقني لثلاثة أشهر تقوم فيه بريطانيا بإتمام التشريعات اللازمة. أما في حال غياب هذا الإجماع، فيحذر المقترح من أن الاتحاد الأوروبي سيقترح تمديداً لفترة أطول، سيتعين خلاله على بريطانيا المشاركة في انتخابات البرلمان الأوروبي المقررة نهاية مايو/أيار المقبل.
وعلى الرغم من أن احتمال الإجماع البريطاني على اتفاق رئيسة الحكومة بحلول منتصف الأسبوع المقبل أقرب للمستحيل، فإن ماي تراهن على أن مخاوف متشددي بريكست في حزبها من التمديد طويل الأمد ستدفعهم إلى العدول عن مواقفهم المعارضة لاتفاقها. وبذلك فإنها قد تقامر بطرح صفقتها أمام البرلمان للمرة الثالثة، على أمل أن ينجح ضغط الوقت في دفع المترددين أو المعارضين لاتفاقها إلى التصويت لصالحه. إلا أن عدداً من أعضاء مجموعة الأبحاث الأوروبية المحافظة، والتي تجمع متشددي بريكست، كانوا أكدوا موقفهم برفض اتفاق ماي ما لم يعدل المدعي العام جيفري كوكس، من استشارته القانونية للحكومة حول وضع بريطانيا في إطار خطة المساندة الخاصة بالحدود الإيرلندية.
وبالطبع فإن التأجيل مرتبط عملياً بموافقة الاتحاد الأوروبي، والذي سيجتمع قادته في قمة أوروبية في 21 و22 مارس. وبينما كان عدد من قادة الاتحاد أكدوا مراراً أن التمديد يجب أن يكون مصحوباً بسبب مقنع، يعتقد البعض بأن الموقف الألماني المؤيد للتمديد سيفرض هيمنته خلال القمة الأوروبية ويمنح بريطانيا المهلة التي تريد. كما كان رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، دعا زعماء الاتحاد للنظر بإيجابية إلى تأجيل طويل الأمد لبريكست، للسماح لبريطانيا بإعادة تقييم أهدافها في المفاوضات. وقال، في تغريدة الخميس الماضي، "خلال مشاوراتي قبيل (موعد القمة الأسبوع المقبل)، سأدعو الدول الـ27 للنظر بإيجابية إلى تمديد طويل الأمد، إذا رأت بريطانيا ضرورة في إعادة النظر في استراتيجيتها لبريكست وبناء إجماع حولها". وتبع ذلك تأكيد من وزير الخارجية الإيرلندي سيمون كوفيني، بالقول إن الاتحاد الأوروبي قد يمنح بريطانيا تمديداً مدته 21 شهراً لموعد بريكست، متوقعاً، في مقابلة مع "آر تي إي"، أن يكون التمديد طويل الأمد الخيار الأكثر واقعية.
وكانت جلسة الخميس في مجلس العموم قد شهدت أيضاً التصويت على عدد من التعديلات البرلمانية على مقترح حكومة ماي، والتي كان أهمها طلب تأجيل موعد بريكست بهدف إجراء الاستفتاء الثاني، والذي تقدمت به سارة ولاستون النائب المستقيلة من حزب المحافظين والعضو في المجموعة البرلمانية المستقلة حديثة التشكل. وكانت الحملة الشعبية المطالبة بالاستفتاء الثاني، إضافة إلى عدد آخر من السياسيين الداعمين لهذا الخيار، انتقدوا ولاستون لتسرعها في طرحه على التصويت، بينما دفع حزب العمال نوابه إلى الامتناع عن التصويت. وبذلك كانت الهزيمة كبيرة، إذ صوت ضده 334 نائباً، ولصالحه 85 نائباً فقط. وعلى الرغم من أن هذه النتيجة ليست حاسمة في مستقبل الاستفتاء الثاني، إلا أنها تكشف عن مدى الانقسامات في معسكر العمال، إذ تحدى العديد من نوابه توجيهات رئيس "العمال" جيريمي كوربن وصوتوا لصالح الاستفتاء. كما أنها تشير إلى رفض قيادة حزب العمال لأن تتبع مبادرات المجموعة البرلمانية المستقلة، والتي تضم تسعة من نواب الحزب المستقيلين احتجاجاً على سياسات كوربن.
أما التعديلات الأخرى، والتي رفضها البرلمان جميعها، فانصبت على سحب سلطة تحديد البرنامج البرلماني من يد الحكومة، وفسح المجال لنقاش أشكال بريكست الأخرى المتاحة، والتي يمكن لأحدها أن يكون بديلاً لخطة ماي. ويأمل "العمال" أن تكون خطته بديلاً جامعاً في وستمنستر، إذ يطالب ببريكست مخفف يشمل عضوية في اتحاد جمركي مع أوروبا. إلا أن احتمال أن يشهد البرلمان البريطاني جلسة تصويت استشاري حول خيارات بريكست الأسبوع المقبل لا يزال متاحاً. فعدا عن أن التعديل هزم بفارق صوتين فقط، كان نائب رئيسة الوزراء ديفيد ليدنغتون، قد وعد المشرعين بأن تكون لهم القدرة على صياغة خطة جديدة لبريكست في حال لم يتم الاتفاق على خطّة الحكومة الحالية.
وكان لجلسات التصويت تبعات أخرى سيكون لها تأثير على المدى البعيد، خصوصاً في حال التوجه إلى انتخابات عامة. فقد كشفت ماي عن عدم قدرتها على السيطرة على القوى المتنازعة داخل حزبها، إضافة إلى تراجع مصداقيتها كرئيسة لحزب المحافظين والحكومة البريطانية. فقد شهدت جلستا الأربعاء والخميس تصويت نواب الحزب لصالح مشاريع متناقضة، ومخالفة التوجيهات الحزبية الصارمة. ويوجد في النظام الحزبي البريطاني درجات من التوجيهات الحزبية، تتنوع من حيث درجة السماح لنواب الحزب بحرية التصويت الفردي مقابل التزام جميع نوابه بخط قيادة الحزب، بغض النظر عن رؤية النائب الخاصة. ويعاقب قانون الحزب الداخلي عادة بالفصل أو توقيف العضوية الحزبية في حال التمرد على أعلى درجات التوجيهات الحزبية. إلا أن يوم الأربعاء شهد تمرد النواب على الخط الحزبي الرسمي، بل وتصويت عدد من وزراء الحكومة ذاتها ضد المشروع الحكومي. ولتجنب تكرار الإهانة، فقد منحت ماي حزبها حق التصويت الحر يوم الخميس على تمديد موعد بريكست، لتكتشف أن العديد من وزراء حكومتها، ومنهم وزير بريكست ستيف باركلي، وزعيمة المحافظين في البرلمان أندريا ليدسوم، قد صوتا ضد المقترح الحكومي. ويرى البعض أن هذه التصرفات تأتي في مسعى من قبل شخصيات ترغب في الرفع من رصيدها الانتخابي تحسباً لانهيار متوقع لحكومة ماي. وما يزيد الطين بلة أن مصداقية ماي تعرضت لثلاث ضربات خلال الأسبوع الماضي مع كل تصويت: أولها في هزيمة مذلة لصفقتها وللمرة الثانية وبهامش 149 صوتاً، بل إن وزير ماليتها فيليب هاموند استغل الفرصة ليدعو إلى إجماع برلماني على بريكست مخفف، في معارضة واضحة لرؤية رئيسة حكومته. أما الضربة الثانية فكانت في رفض البرلمان الكلي لبريكست من دون اتفاق، وهو الخيار الذي لوحت به ماي مراراً، ورفضت نفيه كخيار متاح أمام بريطانيا. وجاءت الثالثة في تأجيل موعد بريكست، والذي كان دائماً خطاً أحمر لدى حكومتها.
ولم تقتصر هذه الارتدادات على حزب المحافظين. فبينما أعلن زعيم الديمقراطيين الأحرار فينس كابل، استقالته من منصبه ابتداء من مايو/أيار المقبل، تجلى للعلن حجم التمرد في صفوف حزب العمال، الذي شهد عدة استقالات من صفوفه الشهر الماضي احتجاجاً على خط زعامته الرسمي. وتجلى ذلك في الانقسام في التصويت على التعديل الخاص بالاستفتاء الثاني. فبينما كان التوجيه الحزبي، بأعلى درجاته، بالامتناع عن التصويت، صوت 24 نائباً لصالح الاستفتاء، و17 ضده، ومنهم عدد من قيادات الحزب المحيطة بكوربن. وسيكون لهذه الانقسامات تبعات أكيدة في حال التوجه إلى انتخابات عامة، والتي تعد أحد الخيارات المتوقعة لتجاوز طريق بريكست المسدود. فصورة أحزاب كبرى منقسمة، وعاجزة عن تحقيق وعودها، لا تبعث بالثقة لدى الناخب البريطاني.