خصصت الحكومة الجزائرية مبلغ 30 مليون يورو (32 مليون دولار)، نفقات للاحتفال بستينية عيد الاستقلال؛ جزء منه موجّه لتغطية نفقات الاستعراض العسكري الضخم المقرر في الخامس من يوليو/ تموز المقبل في العاصمة الجزائرية. واقتطعت هذه الموازنة في ظرف مناسب، على اعتبار أن هناك ارتفاعاً لافتاً في عائدات البلاد نتيجة ارتفاع أسعار النفط العالمية.
وبقدر ما يحمل هذا الاستعراض المرتقب أبعاداً احتفالية تليق بالمناسبة الثورية، فإنه يتضمن في السياق نفسه رسائل جزائرية واضحة، ضمنها الإعلان عن نهاية حقبة مكافحة الإرهاب بشكل نهائي، بعد نجاح خطة "اجتثاث الإرهاب" التي أطلقها الجيش في أكتوبر/ تشرين الأول 2016.
وتضاف إلى ذلك رسائل إلى الخارج بشأن جاهزية الجزائر للرد على أي مساس بأمنها القومي والحيوي. لكن ذلك لا يلغي المخاوف من أن يؤشر ذلك إلى استدراج للجزائر نحو الانكشاف العسكري، في ظرف لم تعد فيه القوة العسكرية وحدها كافية لضمان الأمن القومي.
يعدّ الاستعراض العسكري المنتظر الأول من نوعه منذ آخر استعراض شهدته الجزائر في عيد الثورة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1989
أبعاد سياسية للاستعراض العسكري الجزائري
ويعدّ الاستعراض العسكري المنتظر الأول من نوعه منذ آخر استعراض شهدته الجزائر في عيد الثورة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1989. وما يعطي لهذا الاستعراض بعداً سياسياً، هو كونه يأتي في ظل متغيّرات لافتة في الداخل الجزائري بعد الحراك الشعبي، ونجاح السلطة في فرض مسار ما تصفه بـ"التصحيح والتجديد المؤسساتي"، وبعد استكمال كبرى الاستحقاقات الانتخابية.
كما يأتي هذا الاستعراض في ظل مرحلة تتسم بتمركز أكبر للجيش في المشهد الداخلي، إذ يبرز حضور طاغٍ للمؤسسة العسكرية في الخطاب السياسي الرسمي، وفي وسائل الإعلام الحكومية وغير الحكومية، ضمن ما تصفه القيادات العسكرية بـ"تكريس رابطة جيش – أمة".
كذلك، سيكون مناسبة، بحسب البعض، للإعلان عن نهاية حقبة محاربة الإرهاب التي استنزفت المجهود العسكري والأمني للبلاد في العقود الثلاثة الماضية.
لكن الاستعراض يأتي أيضاً في سياق خارجي وإقليمي متوتر، يعتقد صناع القرار أنه يتطلب استعراض قوة لإظهار ما تملكه الجزائر من ترسانة مسلحة وجيش قوي ومنظم، وخاصة أن الجزائر جزء من هذه الخريطة المتوترة، مع تفاقم خلافاتها مع المغرب، وفي ظل التوترات التي تواجهها في الجنوب، ومع القوى المتدخلة في ليبيا.
كذلك، يربط البعض هذا الاستعراض وإظهار القوة بإقدام الجزائر عام 2020 على تطوير الإطار الدستوري في اتجاه يسمح للجيش بالقيام بعمل عسكري خارج البلاد.
يأتي الاستعراض في ظل مرحلة تتسم بتمركز أكبر للجيش في المشهد الداخلي
أهداف عدة للاستعراض العسكري الجزائري
وفي السياق، قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائر توفيق بوقاعدة إن الاستعراض المنتظر له أهداف عدة، وأوضح في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الهدف الأول هو الترويج للمنجز المحقق على المستوى العسكري لدى الشعب الجزائري، وخلق نوع من الثقة لديه في السلطة التي عجزت عن تحقيق المنجز السياسي والاقتصادي منذ انتخاب الرئيس عبد المحيد تبون، وتحاول عبر هذا الاستعراض التغطية على الإخفاقات المسجلة".
أما الهدف الثاني، وفق بوقاعدة، فهو "بعث رسائل لأطراف خارجية عن قدرات الجيش الجزائري والكفاءة التي بات يتمتع بها، وقدرته على مواجهة أي تهديد خارجي مهما كان نوعه ومصدره".
وبرأي بوقاعدة "فإن هناك هدفاً آخر يبدو مهماً، وهو إعلان ميداني عن انتهاء ظاهرة الإرهاب، التي كانت سبباً مباشراً لوقف هذه المظاهر الاحتفالية منذ بداية تسعينيات القرن الماضي".
وكانت سنة 1989 آخر سنة شاهد فيها الجزائريون استعراضات للجيش، قبل أن تداهم التطورات السياسية المتلاحقة البلاد، بعد إقرار دستور التعددية السياسية، وما تلاه من توترات في الشارع بين السلطة والإسلاميين، وبروز مظاهر العنف السياسي الذي أدخل البلاد في أتون أزمة أمنية دامية بعد توقيف المسار الانتخابي في يناير/ كانون الثاني 1992، ثم توجيه كل المجهود العسكري نحو محاربة الإرهاب والجماعات المسلحة.
وعلى الرغم من الاستقرار الأمني النسبي بعد عام 2000، إثر إقرار الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة قانون الوئام المدني وقانون المصالحة الوطنية، إلا أن السلطة لم تفكر في تنظيم استعراض عسكري للقوات المسلحة إلى غاية عام 2004، حيث كانت قد طرحت فكرة تنظيم استعراض بمناسبة خمسينية ثورة التحرير (اندلعت في 1 نوفمبر 1954) في نوفمبر 2004.
لكن بوتفليقة أعلن قبل ذلك في خطاب أمام إطارات الأمة، عن إلغاء الاستعراض العسكري، مبرراً ذلك وقتها برغبته في خفض التوتر مع المغرب، ولئلا يُفهم من الفاعلية أنها استعراض قوة موجه ضد الرباط.
وقال حينها إنه قرر إلغاء الاستعراض "حتى لا يقول هؤلاء وهؤلاء إن الجزائريين يصبون الزيت على النار، على الرغم من أن الجزائريين كانوا يتمنون أن يروا رجال الجيش في استعراض عسكري، في هذه الذكرى العزيزة علينا".
بوقاعدة: تحاول السلطة عبر هذا الاستعراض التغطية على الإخفاقات المسجلة
لكن وعلى الرغم من وجود الظروف المتوترة نفسها في الوقت الحالي، إلا أن التقدير السياسي للسلطة الجزائرية توجه هذه المرة خلاف ما تقرر عام 2004.
ففي التاسع من مايو/ أيار الماضي، كشفت وزارة الدفاع الجزائرية عن بدء الاستعدادات لتجهيز الاستعراض العسكري. ومنذ ذلك الحين، يُجري رئيس أركان الجيش الفريق السعيد شنقريحة زيارات لتفقد الوحدات المشاركة في الاستعراض وتحضيراتها.
فقد زار قبل فترة وحدات القفز المظلي والقوات الجوية، للاطلاع على سير التدريبات للاستعراض الضخم، وضمان التحليق بالدقة العالية واحترام المسافات، والتنسيق التام بين مختلف أنواع الطائرات في تكوين الأشكال الجوية الاستعراضية، لإظهار الكفاءة العالية والقدرة الفائقة في التحكم بالطائرات الحديثة ذات التكنولوجيا المتقدمة، كما زار وحدات من القوات البرية والبحرية.
مخاوف من تسليط الضوء على تنامي القوة العسكرية للجزائر
وبغض النظر عن المظاهر الاحتفالية التي استُحدث ضمنها الاستعراض العسكري المرتقب، فإن هناك مخاوف جدية تطرح في السياق من قبل كثير من المراقبين بشأن أن يعرّض ذلك الجزائر لمزيد من الأضواء المسلطة عليها في الفترة الأخيرة، بشأن تنامي قوتها العسكرية وازدياد نفقاتها على التسلّح، وشرائها منظومات صاروخية بعيدة المدى، وترسانة من الغواصات والأسلحة الإلكترونية والطائرات الحديثة.
كما من شأن هذا الاستعراض أن يعطي انطباعاً باندفاع الجزائر نحو مزيد من عسكرة الخلافات في المنطقة، خصوصاً في ظل التوتر القائم بينها وبين المغرب، وتزايد الحضور الإسرائيلي في المنطقة بعد توقيع الرباط على اتفاقية تعاون عسكري وأمني مع تل أبيب. وهو ما يعني وضع الجيش الجزائري ضمن دائرة الرصد الغربية والإسرائيلية خصوصاً، لا سيما أنه يصنف في الوقت الحالي بأنه الثالث في أفريقيا بعد الجيشين المصري والجنوب أفريقي بحسب تصنيف موقع "غلوبال فاير باور" لعام 2022.
من شأن هذا الاستعراض أن يعطي انطباعاً باندفاع الجزائر نحو مزيد من عسكرة الخلافات في المنطقة
غير أن المحلل السياسي أحسن خلاص قلل من هذه المخاوف، وقال في حديث مع "العربي الجديد"، إن "تقليد الاستعراضات العسكرية كان موجوداً في الجزائر قبل الأزمة الأمنية في التسعينيات، ويرغب الرئيس تبون في إحيائه ضمن سياق استعادة النفس الوطني في البلاد".
وأشار خلاص إلى أنه "حتى وإن كان هذا الاستعراض يحمل رسائل للخارج والقوى الناشطة قرب الحدود الجزائرية، لكنه يبقى في الظاهر استعراضاً فلكلورياً".
وتابع "أما في سياقات القوة، فإنه يمكن اعتبار أن الزيارات الدورية التي يقوم بها رئيس الأركان إلى النواحي العسكرية ومختلف الأسلحة، تحمل استعراضاً مستمراً للقوة العسكرية، وحتى استقبال الرئيس تبون، الشهر الماضي، في المطار لدى عودته من إيطاليا بسرب من الطائرات العسكرية، على رمزيته، يعتبر استعراضاً مصغراً".
ولفت خلاص إلى أن "العالم يعرف جيداً توجهات الجزائر نحو التسليح واقتناء أحدث المعدات ومصدر هذا التسليح. لذا، فإن هذا الاستعراض الرمزي بمناسبة عيد الاستقلال، تحصيل حاصل، ومناسبة لتوجيه رسائل في انتظار تطوير قدرات دفاعية جديدة ناعمة".